نجيب محفوظ
نجيب محفوظ


حسن عبد الموجود يكتب: رحلة القبض على نسخة نجيب محفوظ «الفالصو»!

أخبار الأدب

الأحد، 28 أبريل 2024 - 03:36 م

فى قصة «الزيف»، من مجموعة «همس الجنون»، يُصوِّر نجيب محفوظ قضية الانتحال بشكل ساخر للغاية، كان بطل القصة «على أفندى جبر»، المُترجِم بوزارة الزراعة، يشبه شاعر مصر الأول «محمد نور الدين» فى ملامحه وهيئته، لدرجة جعلته موضوعًا للتنكيت بين أصدقائه. بالصدفة وبينما كان فى تياترو يشاهد مسرحية تراه أرملة أحد الأعيان وتظنه الشاعر، وتدعوه إلى بنوارها، ويفهم هو من اللحظة الأولى أنها خلطت بينه وبين محمد نور الدين، لكنه لا يتراجع ويتمادى فى لعبته، فمن الوارد أنها قد تجر عليه هدايا عينية أو جنسية.

دعته السيدة الجميلة إلى بيتها، وعرَّفته على صديقاتها نساء الطبقة العليا، وحاول أن يتحدث كما يتحدث الشاعر لكنه كان ينطق بتفاهات تناسب شخصيته الضحلة، فمرة يقول لها «إننا معشر الشعراء لنحرق أرواحنا فى سبيل الخلود والشهرة»، فتندهش السيدة لهذه الركاكة، أو يقول لها «لقد حسبتُ الأيام ساعةً فساعة!» فترد عليه بلهجة لا تخلو من عتاب: «هذا معنًی مُبتذَل لا قرابة بينه وبين معانيك الشعرية الخالدة». كان هدفها أن تقرِّب إليها شاعر مصر الأكبر، لتغيظ منافستها التى سيطرت على قلب موسيقار مصر الأول «الأستاذ الشربيني»، لكنها لم تعرف أنه مجرد موظف بسيط لم يقرأ ديواناً ولا حتى مجرد قصيدة فى حياته، إلا حينما أخبرتها صديقتها وهى تسخر من براءتها أنه ليس الشاعر، وإن كان «يخلق من الشبه أربعين»! 

اقرأ أيضًا| بعض من جرائم الاحتلال الإسرائيلى.. حرب غزة والسعى لمحو الرواية الفلسطينية

نجيب محفوظ نفسه، بعد رحيله بسنوات طويلة، أصبح بطلاً فى قصة شبيهة، لكنها واقعية، تدور حول الزيف، حيث ينتحل كثيرون شخصيته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويصرون على نسب أقوال شديدة التفاهة والسطحية إليه، وإذا كانت الأرملة قد فشلت فى التعرف على الشاعر المزيف، إلا أنه بإمكاننا نزع القناع عن وجه أى نجيب محفوظ «فالصو»، فالحِكَم المنسوبة إليه أقل من مستوى حِكَم التكاتك والميكروباصات، ويكتبها فى الأغلب أشخاص يريدون التنفيس عن ضيقهم من «خيانة الصديق»، أو «لوعة الحبيب»، أو «قسوة الزوج»، أو «تفاهة الحياة»، ولكى يمنحوا تلك المقولات الساذجة مصداقية فلا يوجد أفضل من أديب حصل على نوبل.

عدد الصفحات التى تحمل اسم نجيب محفوظ بالعشرات، وأنت فى دقيقة واحدة يمكن أن تقبض على اللص، فمثلاً «صفحة أقوال نجيب محفوظ» تضع تلك المقولة على صورة البروفايل «ليس من الضرورى أن تصاحب عدداً أكبر من الأصدقاء لتثبت شخصيتك فالأسد يمشى وحيداً أما الخروف فيمشى مع القطيع»، وصفحة «حكمة» تقول على لسان محفوظ «الرجل هو من يرفع قيمة زوجته عند أهله، فإذا احترمها وأحسن إليها احترمها الجميع»، وقد انتبه إلى تلك المقولة الروائى مينا عادل جيد، وكتب بشكل ساخر حولها على صفحته بالفيسبوك: «اقتباس من المجموعة القصصية البديعة: ماتقعدنيش فى بيت عيلة»!

وتنشر صفحة أخرى تحمل اسم نجيب محفوظ تلك المقولات: «منذ طفولتى وأنا أكره لعبة الغميضة، فمن يختفى من حياتى لا أبحث عنه»، و«لا يوجد خيار أمامى سوى النهوض فما زال بإمكانى حذفكم من مقاعد الانتظار»، و«حتى لو تعطر الرجال بأفخم العطور ستبقى رائحة الرجولة أفعالاً لا أقوالاً»، و«الرجل يظهر فى مرض زوجته والمرأة تظهر فى فقر زوجها والإخوة فى تقسيم الإرث والصاحب الصادق يظهر فى وقت الشدة»، وفى صفحة أخرى «ثابتان لا يتغيران، سند أبوك وقلب أمك، أما ما تبقى فلا تراهن»، و«لا يسأل عنك إلا من يرى يومه ناقصاً بدونك»، و«عندما تنتهى المصالح تصمت الهواتف ولن يتذكرك أحد»، و«والقاظمين (يقصد: والكاظمين) الغيظ. لن ينسى الله سكوتك عن الكلام، ولا عتباً كتمته، ولا قهراً لجمته، ولا ألماً تحملته»، و«مهما حاولت أن ترد الإساءة بالإساءة سيغلبك أصلك الطيب»، و«تموت الشجرة بجانب البئر عطشاً لكنها لا تنحنى أبداً لطلب الماء»، وفى صفحة أخرى «يسمعون نصف الحديث ويفهمون ربعه ويتكلمون عليك أضعافه»، و«ثق بنفسك وبقدراتك فالإيمان بالنفس هو مفتاح النجاح»، و«لا تجبر أحداً على البقاء فى حياتك فمن يريد الرحيل فليرحل»، و«اخترت نفسى والنفوس عزيزة»، و«أمى أفضل إنسانة تجبر بخاطرى وتراضيني».

وهذه الصفحات تمتلئ بالمواعظ الدينية، وهو ما يكشف عن الوجه الآخر لمن أنشأوها، وهم فى الأغلب أصوليون، ينتمون إلى جماعات تتدرَّج فى التطرف، من درجة وجوب دخول الحمام بالقدم اليسرى، وانتهاء بتكفير النظام والدولة والشخصيات العامة. 

يقول محمد خير فى مقال عن تلك الظاهرة: «ليس سراً أن الصفحات العربية على فيسبوك، خصوصاً الثقافية والفنية منها، تعانى من خطرين أساسيين، أولهما خطر تيارات التشدد الديني، التى تمارس استراتيجية إنشاء صفحات باسم شخصيات عامة، أو باسم مجالات فنية أبعد ما تكون عن التشدد، وتدير تلك الصفحات بصورة طبيعية لا تثير الشبهات، قبل أن تبدأ فى تسريب مقاطع أو اقتباسات أو آراء توحى بأنها لصاحب الصفحة (أى من سُمِّيت باسمه)، أو فى أضعف الأحوال موجهة إلى جمهوره، للتأثير فيه، أو لتوجيه الرأى العام فى حالات سياسية، أو اجتماعية معيَّنة، مستفيدةً من متابعة عشرات الملايين لعشرات الصفحات التى تديرها تلك التيارات من خلف أقنعة الفن أو أسماء المشاهير الراحلين».

 كما انتبهت الصحفية نضال ممدوح إلى خطر تلك الجماعات حين نشرت صورة تمثل بوستاً متطرفاً يحضُّ على كراهية الحياة، لإحدى صفحات محفوظ المزيفة: «علِّموا أولادكم أن الموسيقى حرام، وأن العلاقات بين الفتاة والشاب محرمة، علِّموهم أن الحرام يبقى حراماً ولو فعلهُ أكثر الناس، علِّموهم أن يجعلوا الرسول قدوتهم، علِّموهم أن ليس كل مشهور على صواب، أرجوكم حافظوا على الإسلام فى قلوبكم، أرجوكم لا يضيع الإسلام، ارفعوا قيمة دينكم».

أما الدكتور حسين حمودة فيؤكد أن القليل من هذه الأقوال منتزع بالفعل من بعض روايات نجيب محفوظ، مع إعادة صياغة أحياناً، والمشكلة الكبرى فى هذه الصفحات أنها تقتطع عبارات قالتها شخصيات فى سياقات روائية بعينها، ثم تنسبها إلى نجيب محفوظ نفسه، فتجعلها تنطق بلسانه هو وليس بألسنة الشخصيات. وقد كان استخدام هذه الطريقة سبباً من أسباب إساءة قراءة أعمال نجيب محفوظ واتهامه باتهامات باطلة.

وهناك من شخصيات محفوظ قوادون وبُرمجية ومومسات وإخوان مسلمون وقتلة وسفاحون ومرابون، لديهم حكمتهم الخاصة، وحتى الناس الذين يُفترضُ أن جانب الخير أكبر من الشر لديهم كذلك حكمتهم الخاصة، وهى لا تعبِّر بالضروة عن رأى نجيب محفوظ، وهذا الخلط للأسف يقع فيه مثقفون يُفترضُ أنهم أكثر إحاطة وفهماً، حيث يشاركون مقولات الشخصيات على صفحاتهم وينسبونها لنجيب محفوظ، لدرجة أنه يبدو واحداً من كتَّاب الدرجة الثالثة.

تنتهى قصة «الزيف» باعتراف موظف الزراعة بأنه ليس شاعراً ولا يحزنون، وينسحب أمام عينى الأرملة الذاهلة وصديقاتها، لكن فى قصتنا الجديدة تتكاثر الصفحات، ويولد كل يوم أكثر من نجيب محفوظ «فالصو»، يكتبون على طريقة شعراء الأغانى الشعبية «المجاريح»، وغالبية الناس ممن لم يقرأوا حرفاً لنجيب محفوظ يضعون «اللايكات» ويشاركون المقولات وهم لا يعرفون أنهم يساهمون بنصيب الأسد فى حفلة التفاهة والإساءة لأكبر كتَّابنا.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة