صورة موضوعية
صورة موضوعية


لغة واحدة يفضلها الغرب للتعامل مع روسيا

آخر ساعة

الخميس، 20 يوليه 2023 - 01:23 م

■ كتب: أيمن موسى

من يتابع تاريخ العلاقات بين الغرب وروسيا ومن قبلها الاتحاد السوفيتي السابق سوف يدرك أن الغرب يفضل التعامل مع روسيا بلغة واحدة فقط وهى لغة العقوبات والتهديد والوعيد، رغم أنه على مدار الكثير من العقود لم تؤدِ هذه اللغة إلى النتائج التى يرجوها الغرب وربما يمكن القول إنها أثبتت فشلها الذريع، فالاتحاد السوفيتى فى ظل العقوبات لم يرضخ ولم يستسلم للغرب، وروسيا من بعده ازدادت قوة وإبهارا للعالم حتى فى ظل العقوبات المتتالية التى فى الكثير من الأحيان لا تستند إلى أى منطق مفهوم.

والعلاقة بين الجانبين تبدو مثل علاقة غير ناجحة بين زوجين بحيث يبدو أحدهما مصرا على إخضاع الطرف الآخر بأى شكل من الأشكال والطرف الثانى لا يطالب سوى بالاحترام والندية، وفى النهاية تفشل العلاقة التى كان من الممكن، وبأسلوب آخر لن يكلف الجانبين شيئا، أن تنجح وتحقق لهما السعادة والاستقرار.

قد لا يعلم البعض أن الغرب قد بدأ فى التعامل مع الاتحاد السوفيتى السابق بأسلوب العقوبات فى عام 1917 أى بعد قيام الاتحاد السوفيتي مباشرة، وكانت هذه هى الحزمة الأولى من العقوبات التى تلتها الحزمة الثانية فى عام 1930، وكان ذلك بسبب اتهام الغرب للاتحاد السوفيتى بإغراق السوق الغربية ببعض المنتجات بأسعار تقل عن قيمتها الحقيقية، ومن بعدها فى عام 1933 تم فرض الحزمة الثالثة التى ارتبطت بالحرب بين الاتحاد السوفينى وفنلندا ووقتها أطلقت عليها الولايات المتحدة «المقاطعة الأخلاقية».

إلا أن العقوبات الشاملة أو بعبارة صريحة المقاطعة الشاملة بدأت مع بداية الحرب الباردة فى عام 1946، بينما عمدت وزارة التجارة الأمريكية فى مارس من عام 1984 لإعلان فرض حظر متشدد على توريد المنتجات التكنولوجية والصناعية والعسكرية إلى المعسكر الشرقى، حيث تم تعزيز ذلك بقانون «الرقابة على الصادرات» فى مارس من عام 1948، ودخلت العقوبات على الاتحاد السوفيتى مرحلة جديدة فى عام 1974 بعد تعديلات جاكسون- فينك على قانون التجارة الأمريكى بإلغاء وضع الدولة الأولى بالرعاية فى التجارة عن الاتحاد السوفيتى، وهو الوضع الذى كانت تتمتع به دول التحالف ضد النازية فى الحرب العالمية الثانية ليستمر العمل بهذه التعديلات القاسية حتى عام 2012.

◄ محاولات تحجيم
وهنا يجب أن نلاحظ أنه على الرغم من كافة هذه العقوبات إلا أن الاتحاد السوفيتى نجح فى ظلها فى تطوير صناعاته وقطاعاته الاقتصادية المختلفة بل والانتصار فى الحرب العالمية الثانية وتحقيق طفرة علمية وتصنيعية ضخمة وصل بها إلى الفضاء واكتساب القدرات النووية وتوسيع دوائر علاقاته وصداقاته فى كافة أنحاء العالم، ولم يتم إلغاء تعديل جاكسون - فينك سوى بعد عشرة أعوام من الاعتراف لروسيا بوضعها كدولة تقوم على أساس اقتصاد السوق وذلك فى عام 2002، مع العلم أن عقوبات جاكسون - فينك كانت فى الأساس تتصل بنمط الاتحاد السوفيتى فى الاقتصاد، وكان من المفترض فور تحول روسيا لاقتصاد السوق أن يتم إلغاؤها.

وطوال الفترة من بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وحتى بداية العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين ظلت العلاقة بين روسيا والغرب تدور فى إطار التبعية الكاملة واقتصار الدور الروسى على كون هذه الدولة مجرد «محطة بنزين» للغرب وإبداء الإعجاب وربما الدهشة من تقدم الغرب دون القيام بأى خطوات لإنجاز أى شيء ملموس يحقق للدولة الروسية التقدم والريادة حتى أن الولايات المتحدة قد بدأت تتبجح على روسيا ووصفها بأنها ليست دولة عظمى وأنها ربما تكون دولة كبيرة على مستوى إيطاليا أو حتى فرنسا، ووصل الأمر مداه عندما وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية روسيا بأنها دولة أكبر فى المساحة من تعداد سكانها وأنه من الأجدر تقسيمها، وكان الرئيس الروسى وقتها وهو باريس يلتسين مثارا للسخرية خلال زياراته للغرب، بينما لم يكن يتورع الرئيس والزعماء والمسئولون الغربيون عن الاستهزاء والتعالى خلال زياراتهم لروسيا أو لقاء أىٍ من المسئولين الروس.

◄ استعادة الروح
أستطيع هنا أن أقول إنه مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين للحكم فى روسيا بدأت الصورة تتبدل، حيث لم يعد بوتين يرضى بوضع روسيا كمحطة بنزين للغرب، ولم يكن يقبل السخرية من بلاده، ولكنه فى نفس الوقت كان يحتاج للاستثمارات الغربية لتحقيق الطفرة التى يريدها لبلاده، لذلك شرع على الفور فى التركيز على بعض قطاعات الاقتصاد التى يعتبرها القاطرة لبقية قطاعات الاقتصاد والسيادة فى الدولة، وهو الأمر الذى أدركه الغرب، لذلك ما إن قامت الولايات المتحدة بإلغاء تعديلات جاكسون - فينك فى عام 2012 حتى عاجلت روسيا بنوعية جديدة من العقوبات وربما لا تختلف كثيرا عن سابقاتها، حيث فرضت على روسيا ما يعرف «بقانون ماجنيتسكي»، وهى عقوبات تذرعت فى فرضها بانتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن المفاجأة هنا أن روسيا لم تعد تستقبل الضربات دون رد حيث قامت روسيا وبالتحديد الرئيس بوتين فى يناير من عام 2013 بالرد بفرض قانون «دياما ياكوفليف»، وهو القانون الذى يقيد من إمكانية تبنى الأطفال الروس من جانب الأسر الأمريكية بل والأكثر من ذلك وضع قيدا وضوابط صارمة فى هذا المجال.

◄ المرحلة الجديدة
وفى 12 أبريل من عام 2013 فرضت الولايات المتحدة حظرا على دخول 18 شخصية روسية للأراضى الأمريكية مع تجميد أرصدتهم وممتلكاتهم المحتملة فى الولايات المتحدة، وردت روسيا على ذلك على الفور بفرض قيود على 18 شخصية أمريكية متورطة فى الممارسات التى تجرى فى معتقل جونتانامو لتتأكد الولايات المتحدة والغرب أن العلاقات مع روسيا قد دخلت مرحلة جديدة، وأن روسيا لن تقف عاجزة لتتلقى الضربات دون رد، ولكنها سوف ترد سواء بالمثل أو بشكل أكثر قسوة.

إلا أن ذلك لم يوقف شهية الغرب للعقوبات أو يقنعه بعدم جدواها حيث قامت الولايات المتحدة فى مايو من عام 2014 بتوسيع القائمة السوداء لقانون ماجنيتسكى، لترد عليها روسيا بنفس الأسلوب فى يوليو من ذات العام بتوسيع قائمتها السوداء بعدد 12 شخصية أمريكية أخرى.

وظلت الولايات المتحدة فى الفترة من 2014 وحتى 2020 فى توسيع القائمة السوداء لماجنيتسكى بشكل يبدو فى بعض الأحيان غير منطقى من ناحية الجدوى منه، وبات واضحا أن الولايات المتحدة والغرب غير مستعدين لتغيير أسلوب ونمط الحوار مع روسيا أو إبداء الاحترام اللائق بها بل وبذل كل ما فى وسعهما للعمل على إخضاع وإذلال هذه الدولة سواء بشكل مباشر أو من خلال جيرانها أو حتى من خلال علاقاتها مع الدول الأخرى بعد أن بات أن روسيا شرعت مع مقدم بوتين فى تعديل سياستها الخارجية لإعادة بناء علاقاتها مع مختلف دول العالم سواء فى الشرق الأوسط أو أفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية.

وفى عام 2016 حولت الولايات المتحدة قانون ماجنيتسكى من مجرد قانون لفرض عقوبات وقيود على روسيا إلى قانون يشمل العالم أجمع ويهدد كل من ترى الولايات المتحدة أنه منتهك لحقوق الإنسان أو يمارس الفساد.

◄ ما بعد القرم
بعد أحداث أوكرانيا فى عام 2014 وانضمام القرم لروسيا دخلت العقوبات الغربية ضد روسيا مرحلة جديدة، حيث أصبحت تشمل الشخصيات الطبيعية والاعتبارية وتنطوى على تجميد أرصدة وأصول، وهى ممارسة اعتاد الغرب على التعامل بها مع دولة مثل إيران، وبالتالى كانت روسيا هى الأخرى ترد على كل حزمة من العقوبات بحزمة من جانبها ضد الشخصيات والممتلكات الغربية، وتؤكد دائما أنها لن تسمح بالمساس لا بمصالحها ولا بمواطنيها.
وأصبح تجديد العقوبات بمثابة تقليد أصيل لدى كل رئيس يتولى قيادة البيت الأبيض فى الولايات المتحدة، فما أن يؤدى الرئيس الجديد اليمين الدستورية حتى يبدأ إما بتوسعة القوائم السوداء ضد روسيا أو فرض المزيد من العقوبات حيث ظل هذا الأمر تقليدا متبعا منذ رئاسة أوباما ومن بعده ترامب ثم بايدن.

وكان الغرب فى كل مرة يبحث عن مبرر لفرض المزيد من العقوبات، فتارة بسبب النزاع فى أوكرانيا وتارة أخرى بسبب مشروعات النفط والغاز الروسية وتارة ثالثة بسبب حقوق الإنسان ورابعة بسبب التعامل مع المدونين ومن يسمون أنفسهم بالمعارضة وغيرها الكثير من الأسباب التى تبدو كنوع من التدخل فى الشئون الداخلية للدولة الروسية، وفى حال محاولة روسيا مجرد الرد او التبرير تُتهم بالتدخل فى شئون الدول الأخرى.

◄ اقرأ أيضًا | وزيرة خارجية ألمانيا: نعمل مع الحلفاء لضمان عدم ترك الحبوب الأوكرانية حتى تفسد في الصوامع

◄ كسر التنمية
كافة هذه الممارسات ربما زادت من قناعة روسيا بأن الغرب لا يسعى للحوار معها وليس لديه الاستعداد لاحترام حقوقها ومصالحها لذلك شرعت فى صياغة السياسات والخطط التى تحقق لها كسر التبعية للغرب وتحقيق السيادة الحقيقية وإثبات وضعها الدولى كدولة عظمى، بل ورفض النظام العالمى القائم وليس المطالبة بنظام جديد بل العمل مع الشركاء الآخرين فى بناء النظام الجديد دون النظر للقبول أو الرفض من جانب الغرب.
ورغم أن سياسة العقوبات التى يتبعها الغرب مع روسيا لم تثبت جدواها من قبل إلا أنه أصر ومازال يصر على اتباعها رغم ما يتكبده من خسائر جراء هذه السياسة، حيث تشير وكالة أنباء بلومبيرج إلى أن خبراء الاقتصاد الأمريكيين قد أكدوا أن خسائر قطاع الطاقة (النفط والغاز) فى روسيا قد وصلت فى عام 2022 إلى نحو الثمانية مليارات دولار، فى حين أن خسائر الغرب من وقف التعاملات مع روسيا فى مجال الطاقة وصلت إلى التريليون دولار، ونوهت وزارة المالية الألمانية إلى أن خسائر شركة يونيبر الألمانية للطاقة وحدها تعدت الخمسين مليار دولار.

كما تؤكد العديد من الدراسات أن أوروبا كانت لتواجه مصيرا قاسيا فى الشتاء السابق لولا أن روسيا قد واصلت توريد الطاقة لأوروبا، وقامت فى الموسم الشتوى السابق بتوريد 720 ألف برميل من الديزل، علما بأن حجم توريد روسيا من ذات الخام قبل بداية العملية العسكرية كان يتعدى المليون برميل.

وأكد الكثير من وسائل الإعلام الغربية أنه ليس من الصحيح ادعاء الدول الغربية أنها لم تتضرر من العقوبات، حيث استشهدت على ذلك بقيام الكثير من الشركات الغربية بتسريح عشرات الآلاف من العاملين بها، بل أكدت أن خسائر الغرب من الحزمة الثامنة وحدها من العقوبات تعدت 128 مليار دولار بسبب توقف توريد الشرائح الإلكترونية وتقديم الخدمات الاستشارية القانونية للشركات الروسية.

وبما أن غالبية بند الدخل فى الموازنة المالية الروسية يتحقق من مبيعات النفط والغاز حرص الغرب على فرض قيود على التعامل مع روسيا فى مجال الطاقة وفى مجال التحويلات البنكية عن طريق وقف نظام المدفوعات الغربى السويفت عن روسيا، ولكن النتيجة كانت هى أن روسيا فتحت أسواقا جديدة لمنتجاتها فى مجال الطاقة وأصبح التعامل فى ذات المجال مع الغرب ليس أساسيا، وهو ما يمثل مشكلة للغرب حتى مع افتراض انتهاء العملية الروسية الخاصة فى أوكرانيا.

◄ ١٢ ألف عقوبة
الأكثر من ذلك هو أنه على الرغم من أن عدد العقوبات التى تعرضت له روسيا يصل إلى 12 ألف عقوبة، وهو ما يعد أكبر معدل للعقوبات على أية دولة فى تاريخ البشرية إلا أن الاقتصاد الروسى قد حقق نتائج إيجابية غير متوقعة فى عام 2022، ومن المتوقع أن يصل معدل النمو فى الاقتصاد الروسى هذا العام أكثر من 0٫3%، وهو معدل يزيد حتى عن معدل النمو فى ألمانيا.

لو نظرنا إلى عدد الدول التى تطبق العقوبات على روسيا فسوف نجد أنها خمسون دولة، بما يمثل 60% من إجمالى الناتج العالمى، بينما يمثل الاقتصاد الروسى 1٫7% من إجمالى الناتج العالمى، ومع ذلك لم يتراجع الأداء الاقتصادى فى روسيا سوى بنسبة 2٫5%-3% فقط، بينما كان الغرب يتوقع أن يصل معدل التراجع فى الأداء الاقتصادى فى روسيا ما بين 10-12%.

وفى أعقاب فرض العقوبات على روسيا شرعت على الفور وربما قبل ذلك فى تنفيذ سياسة تعويض الواردات، حيث ضخت استثمارات كبيرة فى مختلف القطاعات للبدء فى إنتاج منتجات بديلة عن المنتج الغرب وحققت فى ذلك نتائج عظيمة، بحيث يمكن القول بأن روسيا فى فترة العقوبات قد بدأت تتوسع بشكل كبير فى إنتاج منتجات كانت فى السابق تعتمد على الغرب فيها بشكل أساسى، وبالتالى تكون العقوبات قد عادت على الغرب بتأثير عكسى وعززت كثيرا من الاكتفاء الذاتى فى روسيا وإعطاء مختلف القطاعات دفعات عظيمة نحو التطوير والتوسع فى الإنتاج.

خلاصة القول إن الغرب الذى اعتاد تبنى سياسات غير سليمة مع دول الشرق الأوسط والعالم العربى، وفى نهاية الأمر لم تؤدِ هذه السياسات لربط العالم العربى والشرق الأوسط به بشكل كبير ودفع دول المنطقة للعمل على الفكاك من التبعية له، هو ذاته الذى تبنى سياسات مشابهة مع روسيا ودفعها للعمل بكل ما أوتيت من قوة للفكاك من التبعية وسياسة الإملاءات التى لا يفهم الغرب سواها وفى كلتا الحالتين كان الغرب هو الخاسر الرئيسى فى هذا الصراع الذى لم يكن له أى معنى أو مستقبل من البداية.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة