إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


ذكريات.. وقُودها الناس والحجارة!

إيهاب الحضري

الأربعاء، 26 يوليه 2023 - 11:11 م

أفخر بأننى لم أفعل ذلك أبدًا، ليس لأن وعيى سبق سنى، بل لأن كل قصص الحب التى مررتُ بها فى صباى كانت من طرف واحد، بينما يحتاج القلب المُخترَق بسهم إلى مشاعر مُتبادلة.

النقْش على جدران العشْق

الأربعاء:

.. وكان العاشق الصغير حين يستبدّ به الهوى، يلجأ إلى «مساند» مقاعد الحافلات العامة أو جدران المبانى، ليُسجّل عليها قصة غرامه بقلم جاف أو رصاص، وأحيانا بمسمار أو آلة حادة. وهكذا انتشرت القلوب المُخترَقة بسهام فى كل مكان، حتى ظننا أننا نعيش فى مدن لا تعرف إلا لغة الحب، دون أن ننتبه إلى مفارقة غريبة، هى التناقض بين همس المشاعر وقسوة تخريب ممتلكات عامة وخاصة أتلفها الهوى! الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد فى تلك السنوات البعيدة إلى المنشآت الأثرية، التى استباحتْها قلوب العشاق، فارتبط الحب فى الصِغر بالنقش على الحجر!

أفخر بأننى لم أفعل ذلك أبدا، ليس لأن وعيى سبق سنى، بل لأن كل قصص الحب التى مررتُ بها فى صباى كانت من طرف واحد، بينما يحتاج القلب المُخترَق بسهم إلى مشاعر مُتبادلة. لهذا كانت أغنيات البكاء على الأطلال أكثر ملاءمة لحالتى، وعندما منحنى القدر فرصة الحبّ المُتبادل اكتشفتُ أننى تجاوزتُ مرحلة القلوب المرسومة، واستبدلتُها بقصائد شعرية وأغنيات سابقة التجهيز، لأننى لم أعد أركب «أوتوبيسات نقل عام»، فضلا عن نُضج مداركى واقتناعى بأهمية الحفاظ على الآثار، وحمايتها من عبث المُراهقين، وظللتُ مقتنعا بأن الظاهرة السلبية مقصورة على بلاد لا يعرف أهلها أهمية تاريخهم، ومع الوقت فوجئت بأن تخليد قصص الحب فى الأماكن الأثرية طقس منتشر عالميا، يمارسه بشر مزجوا العشق بالجهل!

اليوم فقط تذكرتُ كل ما سبق، وأنا أتابع تلك الواقعة. قامت الدنيا فى إيطاليا، عقب اكتشاف اسمى حبيبين محفورين على جدران «الكولوسيوم» أحد أهم المبانى الأثرية فى روما. بعد تحريات أجرتها الشرطة، اتضح أن بلغاريا مقيما فى بريطانيا هو الجانى. استخدم الرجل مفتاحا لنقْش اسمه مع حبيبته، واعتذر بعد كشْف هويته بعدم إدراكه لقيمة المبنى التاريخية. لكنّ الجهل بالقانون لا يُعفى من عقوبة السجن، لمدة تتراوح بين عامين وخمس سنوات، بالإضافة لغرامة تصل إلى 15 ألف يورو.

أعتقد أن البلغارى نموذج لكائنات مُنقرضة، فمنصات التواصل فتحت آفاقا أكثر رحابة للغرام، سواء كان سريا أو مُعلنا، واختفى الحب فوق هضبة الهرم وغيرها من الأماكن الأثرية، لأن الأجيال الجديدة لم تعُد ترى فى مناطق الآثار مصدر جذب، أما أنا فبحكم سنى أصبح الحب الوحيد الذى تتيحه لى الرقابة المنزلية.. هو حب الوطن وآل بيتى.

ثلاثون عامًا من الأدب

الجمعة:

يتصدّر الرقم 30 غلاف الجريدة، فيستدعى ذكريات أعوام مضتْ. بدأتْ علاقتى بـ «أخبار الأدب» قبل التحاقى للعمل بها. مكالمة هاتفية تعود إلى عام 1993. على الطرف الآخر الكاتب الصحفى مصطفى عبد الله، رئيس القسم الأدبى بجريدة الأخبار وقتها. علمتُ منه أن قرار صدور«أخبار الأدب» رأى النور. استغرق الأمر عامين بعدها حتى ألتحق بفريق عملها، تحت رئاسة الكاتب الكبير جمال الغيطانى. وقضيتُ بها ثُلُث عمرها وبضعة أشهر. غير أنها كانت عشْر سنوات حافلة بأحداث، يُمكن أن تحتل كتابا ضخما، يُضاف إلى كتابى السابق «هدير الحجر.. التفاصيل السرية لمعركة إنقاذ الآثار». ركّز الكتاب على نماذج تخصّ حملات خضتُها فى جانب واحد فقط، لكن الذاكرة حافلة بتفاصيل تؤرّخ لحياة ثرية، يختلط فيها الشخصى بواقع ثقافى يختزن أسراره، التى نبوح ببعضها - أنا وزملائى - بتحفّظ شديد. رصد كل منا ما يجرى من زاوية رؤية مُختلفة، والاتفاق على الرؤى أمر مستحيل بحُكم طبيعتنا البشرية. عموما صدر الكتاب برعاية كاملة من صديقى طارق الطاهر رئيس تحرير الجريدة السابق، حتى أنه تولى مسئولية الاتفاق مع ناشر جديد، بعد أن تعثر لدى آخر، ولم يشغلنى بالتفاصيل، فقد كان كلّ هدفه احتفال متميز بذكرى مرور رُبع قرن على تأسيس «أخبار الأدب». نظّم احتفالية ضخمة، وأشرف على إصدار ثلاثة كُتب، نجتْ من الوقوع فى فخ الإصدارات التذكارية المُعتادة.

خمسة أعوام مرّت بسرعة قطار جامح، وها هو الكاتب الصحفى علاء عبد الهادى رئيس التحرير الحالى يحتفل بإطفاء الشمعة الثلاثين. قد يبدو العُمر قصيرا فى عُرف البشر، غير أنه إنجاز فى مسيرة الصحافة الثقافية، خاصة مع تراجع اهتمام بنى آدم بالثقافة، لصالح مجالات أخرى أكثر جاذبية رغم ضحالتها. العدد الاحتفالى اعتمد على الشهادات، والشهادات عُصارة الذاكرة، قد تُفلت حقائق وتحتفظ بأخرى، بفعْل عوامل تعرية الزمن، ورغم ذلك تظل مُحتفظة بقُدرتها على الجذب، بما تحمله من وقائع ووجهات نظر وأحيانا أسرار تثير شهية القارئ. أعترف أننى شعرتُ بالسعادة خلال تصفحى للعدد، ليس فقط لأنه يأتى فى لحظة فارقة ويضم مقالات مهمة، بل لأننى اكتشفتُ أننى لا زلت حاضرا فى ذاكرة البعض، رغم مرور 18 عاما على رحيلى من الجريدة، فرِحتُ وأنا أطالع اسمى فى شهاداتهم، وشعرتُ بدفء ممتع، لم يفقد بهجته رغم لهيب الجوّ، فالحرارة أنواع، منها ما يصل بالإنسان إلى قمة النشوة، ومنها ما يجعله يتمنى لو «طلع من هدومه»!

لم تنقطع علاقتى بأخبار الأدب رغم خروجى الاختيارى منها ذات خريف، حتى علاقتى بالكاتب الكبير جمال الغيطانى استعادتْ دفأها، بعد سحابة صيف عابرة، واستمر تواصلى مع كل رؤساء تحريرها بدرجات متفاوتة، ومن بينهم مصطفى عبد الله الذى سبق أن زفّ لى خبر ميلادها، ووقت رئاسة تحرير طارق الطاهر لها عدتُ لكتابة مقال إسبوعى بها، بعدها منعتنى الانشغالات المتراكمة عن الاستمرار، غير أنها ظلّت وجبة أسبوعية مهمة فى عالم لاهث. كل عام والأدب وأهله بخير.

بشر وتماثيل

السبت:

انتعشت خيالات أبناء جيلى على سلسلة «المكتبة الخضراء»، التى تُصدرها دار المعارف. من بين قصصها حكاية، محورها شخص يدخل كهفا مسحورا، شرْط النجاة من لعْنته هو عدم النظر إطلاقا للوراء. اعتقد الكثيرون أن الشرط سهل، لكنهم فقدوا بشريتهم وتحوّلوا إلى تماثيل حجرية، بعد ان اضطروا للنظر خلفهم، استجابة لكلمات غواية أو صرخات مُرعبة، وأحيانا أصوات مُقلّدة لأحباب اشتاقوا إليهم.

فى طفولتى كنتُ أتعجب من عدم قُدرة من يدخلون المغارة على الصمود، واعتبرتُ أن نجاة بطل القصة لا تستند إلى قدرات استثنائية. الأمر اختلف تدريجيا، عندما تقدمتُ فى العُمر، وبدأتْ نزعة التفسير تستهوينى، ربما كى أثبت لنفسى أننى أختلف عن الآخرين، وأن لكل حدث حديثا عميقا، حتى لو كان خرير مياه تتساقط من صنبور يلفظ أنفاسه الأخيرة!

النظر إلى الوراء كان عُقدة القصة التى ربطتْه بالمكان، لكن الأمر يُصبح أشد ثِقلا عندما يرتبط بالزمان، فالماضى يظل أكثر حضورا فى مجتمعات تحتفى بالحنين وتنتعش بالشوْق. نلجأ إلى الماضى للمباهاة به أو انتقاده، وفى الحالتين كثيرا ما نقع فى فخّ لا نستطيع مقاومته. فى حالتى الشخصية يبدو الأمر أكثر حضورا. بمجرّد أن أبدأ الكلام عن حدث مُعاصر، يأخذنى الحديث إلى الحكايات القديمة، فتسلبنى الذكريات طزاجة اللحظة. أنسى نفسى وأواصل معايشة الماضى، الذى يطغى على بقية الأزمنة لدى غالبيتنا.

لماذا يُعتبر الماضى هو الأفضل؟ رُبما لأنه يمنحنا القدرة على حكْى قصص، نمنح أنفسنا فيها أدوار البطولة دائما، فلا أحد سيراجعنا، كما أن اختياراتنا ستظل انتقائية، لأحداث كنّا فيها الأفضل.. على الأقل من وجهة نظرنا.

فى حضْرة الموت

الأحد:

هل يشم الإنسان رائحة الموت؟ فى حكايات الجدّات القديمة، سمعنا قصصا عجيبة، عن أقارب استشرفوا نهاياتهم قبلها بساعات أو أيام. كانت جدتى تقصّ علىّ أنباءهم وهى تُخرج كفنها وتعتنى به وتُضيف إليه تحسينات كأنها تُعد ثوب عُرسها. بدأتْ ذلك مُبكرا، ربما تحت تأثير حكاياتها التى جعلتها تشعر بأن الموت قريب، لكنّه لم ينل منها إلا بعد سنوات طويلة.

هناك فارق بالتأكيد بين ترقّب الموت والشعور باقترابه إلى أدنى مسافة. كنتُ أسمع حكايات جدّتى بابتسامة طفولية، لاعتقادى أن النهاية مرتبطة بعُمر طويل، بينما سنى لا تزال صغيرة. الآن أصبح الموت أكثر قُربا، وقد يُصيبنى الدوْر بعد ساعات أو أعوام، غير أنه صار حاضرا بقُوة، مع أبناء جيل تتساقط أوراقهم فجأة. لن أشغل السطور بوصْلة نحيب معتادة، فالدهشة هى المُسيطرة هذه المرة.

كتب على «فيس بوك» نعيا للخير الذى انهزم أمام مكائد شياطين الإنس، حتى أن الشخص الشريف يفقد إيمانه بأن الخير سينتصر فى آخر الفيلم/ الحياة، وبعدها بساعات مات الشاعر سامى الغُباشى. ترك الإحباطات وراءه ورحل، دون أن نعرف هل كانت حروفه الأخيرة نبوءة، أم أن موته ناتج عن قلب توقّف ذات صدمة. لن أكتب عنه كثيرا فكلنا راحلون، كما أننى سئمتُ كلمات تأبين معتادة نستحضرها كلّ رحيل، لبشر لم نقابلهم منذ سنوات، وفجأة نكتب عنهم وكأننا ندْفع ضريبة الفقْد أو ثمن الجفاء.

إنه العُمر يمضى بتحولاته، ليكتشف الكثيرون أن الحياة عبث، تتلاعب بنا فتنقلنا بين موقفين متناقضين، حقيقة عبر عنها الفيلسوف الفرنسى سارتر بقوله: «إن الحياة ثلاث مراحل: اعتقادك بأنك سوف تُغير الدنيا، إيمانك بأنّك لنْ تُغيّر الدنيا، ثم تأكّدك من أن الدنيا قد غيّرتك».


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة