انتصار محمد تكتب :ثورة 23 يوليو  فى عيون السينما المصرية
انتصار محمد تكتب :ثورة 23 يوليو فى عيون السينما المصرية


انتصار محمد تكتب :ثورة 23 يوليو فى عيون السينما المصرية

أخبار الأدب

الجمعة، 28 يوليه 2023 - 03:04 م

ثورة 23 يوليو 1952 هى الثورة الأم التى أسفر عن قيامها  تغيير فى التاريخ العربى المعاصر وحركات التحرر العربى، بل أن التوجهات التى تبنتها والأحداث والمبادئ السياسية والفكرية التى حّركتها وتحركت بها ما زالت تسهم فى حركة الجدال السياسى والفكرى الدائر فى العالم العربى. كانت الثورة قائمة على أسس فلسفية ونظرية شملت كافة نواحى الوجود الإنسانى وكانت نظرتها شمولية بحيث استطاعت أن تمس الوجود الإنسانى ككل فى النواحى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والروحية، وكان معيار الفكر والثقافة والفن ذات أثرٍ فعّالٍ فى مناحٍ كثيرة.

هل السينما هى أصدق كتاب تاريخ سجل بالصوت والصورة كيف كان يعيش مجتمعنا خلال العقود الماضية كما يُقال؟ هل السينما المصرية تفاعلت مع الأفكار الجديدة على الساحة المجتمعية والتى حملتها ثورة يوليو عام 1952؟ هل ترجمت ما جاء به الضباط الأحرار من أفكار ورؤى وفلسفة؟ أسئلة كثيرة تراودنى كلما شاهدت فيلمًا سينمائيا يوثق لثورة يوليو وما قبلها من دوافع سياسية واقتصادية واجتماعية، الثورة التى حققت الأمل الذى راود شعب مصر كما قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.


ولنبحث معًا عن إجابة هذه التساؤلات، وبطبيعة الحال لن أتحرر من جلبابى كباحثة وكاتبة تاريخية وسأعود إلى الوراء، إلى عام 1938 ما قبل الثورة ، وفيلم «لاشين» الذى يعد من أفضل مائة فيلم فى السينما المصرية حيث أجمع النقاد ومؤرخو السينما المصرية على أنه أحد أفلام الحقبة الملكية التى تنبأت قبل نحو 15 عامًا بوقوع الثورة، وأنه تحسس الأحداث وشاهد الغد قبل أن يجىء وكأنه قارئ الكف السياسى والاجتماعى والثقافى لمصر.


 يتناول فيلم «لاشين» ثورة المقهورين والجياع والمحرومين من الحلم والأمل واستبداد رئيس الوزراء واستغلال سلطاته، حتى يقف أمامه لاشين قائد الجيش فى القرن الثانى عشر، وينتهى بتحقيق إرادة الجماهير فى تولى كرسى البلاد. 


«لاشين» من إنتاج ستوديو مصر وبطولة الممثل المصرى حسن عزت الذى تعلم التمثيل فى فرنسا، ولم يقف أمام الكاميرات إلا فى هذا الفيلم، والممثلة نادية ناجى، والقدير حسين رياض، وفؤاد الرشيدى، وعبد العزيز خليل، ومنسى فهمى وغيرهم. بالإضافة إلى نحو عشرة آلاف آخرين كانوا بمثابة حشود من الشعب، وهو من إخراج الألمانى فريتز كرامب، والذى استطاع أن يربط بين الفساد السياسى والخيانة والانهيار الاقتصادى.


وقد رأت حكومة النحاس باشا أن عرض الفيلم على هذا النحو فيه إسقاط مباشر على الحكم الملكى، فطلبت إدخال تعديلات عليه، ثم أوقفت عرضه نهائيًا. وعندما انطلقت الشرارة الأولى لثورة 23 يوليو، كانت السينما المصرية قد قطعت شوطًا كبيرًا فى ازدهارها، حيث شهد الفيلم المصرى نشاطًا ورواجًا يتزايد يوماً بعد يوم، لاسيما بعد

.الحرب العالمية الثانية التى أسهمت فى انتشار الفيلم المصرى فى جميع الدول العربية التى عرفت السينما واعتمدت عليه دور العرض فى سوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن وفلسطين والجزائر وتونس وليبيا وحتى الحبشة، بل وصلت الأفلام المصرية إلى الهند وباكستان واليونان والولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت القاهرة هى هوليود الشرق.


ولكن هل عبرت السينما المصرية عن ثورة يوليو وجوانبها المختلفة؟ هناك أفلام عدة تعرضت لثورة 23 يوليو 1952، لكن اختلفت الآراء حولها بين مؤيد ومعارض، حيث جسّدت الثورة بطريقة قد لا ترضى جميع الأطراف أو من وجهة نظر البعض لا تقدم المعلومات الكافية التى تحتاجها الأجيال المتعاقبة لفهم أهداف ومعالم ومحددات الثورة، وهناك وجهة نظر أخرى بإن معظم الأفلام والأعمال التى قّدمت عن الحدث كانت أقل منه، أو ربما ليست على مستوى الحدث التاريخى.


هناك أفلام عبرت عن الثورة وصورتها بالشكل الإيجابى مثل «رد قلبى» الذى عرض عام 1957، ويعد واحدًا من أشهر الأفلام السينمائية التى تناولت ثورة 23 يوليو والتى أثرت فى وجدان أجيال كثيرة متعاقبة، وهو المرجع الذى يصور بالصوت والصورة الحياة الطبقية فى مصر ما قبل الثورة. 


«رد قلبى» عن قصة الكاتب يوسف السباعى وبطولة شكرى سرحان ومريم فخر الدين وصلاح ذو الفقار وحسين رياض وهند رستم وأحمد مظهر الذى استقال من الجيش من أجل التمثيل فى الفيلم لأول مرة حيث أدى دور البرنس علاء، الفيلم أنتجته آسيا وأخرجه عز الدين ذو الفقار، ومن إخراج عز الدين ذو الفقار الذى استقال أيضًا من القوات المسلحة للعمل مخرجًا وممثلًا، فقد كان قبل استقالته من الضباط الأحرار الذين ساهموا فى قيام الثورة، وبعد ذلك تقدم بطلب إلى القيادة العامة للقوات المسلحة لإمداده بأسلحة وذخيرة حية وعدد من الجنود لاستخدامها فى تصوير بعض اللقطات فى فيلم «رد قلبى"، وقد وافقت القيادة العامة للقوات المسلحة على الطلب وأمدت المخرج بالأسلحة المطلوبة مع مجموعة من الخبراء العسكريين للإشراف على العمليات العسكرية أثناء تصويرها. وتم تصوير الفيلم  فى قصر الأمير «يوسف كمال » الشهير بقصر الطاهرة.


رصد الفيلم قصة الريس عبد الواحد الأب الذى يعمل فى أرض أحد الأمراء من الإقطاعيين، ويربط الحب بين ابنه (علي) والأميرة (إنجى) ابنة الباشا منذ الصِغَر، يصبح على ضابطًا فى الجيش كما يصبح شقيقه حسين ضابطًا فى الشرطة. ثم يكتشف ابن الباشا العلاقة بين أخته إنجى وبين ابن الريس عبد الواحد، فيبلغ والده الباشا الذى يواجه الريس عبد الواحد الذى يطلب يد إنجى لابنه على ويرفض الباشا ويطرده من عمله ويتهمه بالجنون. ولا يرى حبهما النور فى ضوء التفرقة الطبقية التى سادت بذلك الوقت، وينتهى الفيلم بقيام ثورة 23 يوليو، وتتوالى الأحداث وتندلع ثورة يوليو وتصادر أملاك الباشا ويتولى ابن الريس عبد الواحد لجنة المصادرة.


 ولن أنسى مطلقًا مشهد الريس عبد الواحد، أحد المشاهد الأيقونية للثورة فى السينما المصرية والعربية الذى جسده القدير حسين رياض، عندما انفكت فيها عقدة لسانه، حيث كان مُصابًا بالشلل، وهو يقول: «تحيا مصر، أنا بتكلم، تحيا مصر ويحيا الجيش المصرى». فكانت كلمة نطق بها الشعب على لسان الريس عبد الواحد.


كانت حقبة الستينيات من أكثر الفترات التى شهدت إنتاج نوعية الأفلام التى تحمل فى طياتها النتائج الإيجابية لإفرازات ثورة 23 يوليو 1952، وما ترتب على نجاحها من إحداث تأثيرات، ومنها «فى بيتنا رجل» من الأفلام التى لها تأثير وحس وطنى عالٍ، والتى ساعدت على غرز فكرة الانتماء وحب الوطن والدفاع عن قضية وطن مسلوب محتل. الفيلم أيضًا رصد كفاح المصريين ضد الاحتلال الإنجليزى. تم عرضه عام 1961، قصة وسيناريو وحوار إحسان عبد القدوس ويوسف عيسى وإخراج هنرى بركات، والذى ساهم فى كتابة السيناريو والحوار أيضًا. قام ببطولته عمر الشريف، رشدى أباظة، حسين رياض، زهرة العلا، زبيدة ثروت وحسن يوسف. 


تناول الفيلم فترة ما قبل الثورة عام ١٩٤٦، وتظاهر الضباط ضد الملك لوقف المفاوضات مع الإنجليز على الجلاء. تدور أحداثه حول شاب يدعى إبراهيم حمدى قام باغتيال رئيس الوزراء المتعاون مع الاستعمار، ويتمكن من الهروب بعد إلقاء القبض عليه ويلجأ إلى منزل زميله الجامعى «محيى» الذى ليس له أى نشاط سياسى، وتقبل اﻷسرة بعد تردد إيوائه، ويعرف «عبد الحميد» ابن عم «سامية» الذى يود الزواج منها فى نفس الوقت بوجود «إبراهيم»، فيستغل الموقف للتعجيل بعقد قرانه على سامية التى ترفضه وتستمر الأحداث.


وهناك أيضًا أعمال سينمائية أخرى تناولت عمل الشباب الفدائيين الذين شاركوا فى عمليات فدائية تفجيرية ضد منشآت الإنجليز، مثل فيلم «لا وقت للحب». عُرض فى عام 1963، تأليف يوسف إدريس، سيناريو لوسيان لامبير، إخراج صلاح أبو سيف. بطولة فاتن حمامة، رشدى أباظة، صلاح جاهين، عبد الله غيث، بدر نوفل، وغيرهم.


تدور أحداث الفيلم خلال الفترة التى وقعت فيها حادثة حريق (القاهرة) فى عام 1952، حيث يتعرف حمزة المهندس العضو المتطوع بالحرس القومى على مدرسة تدعى فوزية، وبعد اندلاع الحريق، يحاول الإنجليز القبض على كافة المتطوعين فى الحرس القومى، فيختبئ حمزة لدى أحد أصدقائه، وتساعده فوزية بكل ما تملك، وتحاول هى الأخرى تشكيل خلية خاصة بها من أجل ضرب القوات الإنجليزية فى منطقة القنال.


ويتعلق بأذهاننا المشهد الأخير وأغنية الأطفال التى قشعرت أبداننا، وجعلتنا نتفاعل ونصفق وكأننا فى قلب الحدث: «اوعى تخش العشة يا ديك،  خدها نصيحة من الكتكوت، يا وابور شوفلك غير دى محطة، أوعى تقرب أوعى تفوت، أرجع تانى أحسن هتموت».


ومن الملاحظ أن أهداف ثورة يوليو 1952، أخذت أيضًا صياغة جديدة من خلال أفلام الستينيات، واستهدفت كسر الحاجز الطبقى بين أبناء الشعب الواحد وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، مثل قيمة «العمل»، وهو الأمر الذى ركزت عليه الثورة فى تلك المرحلة، والذى تناوله فيلم «الأيدى الناعمة»  إخراج محمود ذو الفقار، الفيلم مأخوذ من مسرحية للأديب توفيق الحكيم الذى شارك الدكتور يوسف جوهر كتابة السيناريو والحوار، ويقال إنه تم تصوير مشاهده داخل قصر و متحف محمد محمود خليل.

 
الفيلم بطولة صباح، وأحمد مظهر، ومريم فخر الدين، وصلاح ذو الفقار، وليلى طاهر، ووداد حمدى، وغيرهم. يحكى الفيلم عن أحد الأمراء العاطلين بالوراثة بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 ثم يصطدم بامرأة تغير له حياته كلها. هذا الفيلم هو من بين ثلاثة أفلام مصرية أنتجت عام 1963 تمثل بداية الإنتاج الحكومى للأفلام المصرية.


لا شك أن السينما المصرية كانت أداة تأثير سحرية، وأنها أخذت على عاتقها مهمة محو الأمية الثقافية والسياسية، وتبنت الأفكار التى أتت بها ثورة يوليو 1952، خاصة بعد إنشاء المؤسسة العامة للسينما التى تولت إنتاج العديد من الأفلام ذات التوجه السياسى التى عبّرت بشكل غير مباشر عن دعمها للثورة بإبراز سلبيات العصر الملكى مثل فيلم «غروب وشروق»، أى غروب العصر الملكى وشروق عصر جديد ما بعد الثورة، وهو واحد من أهم الأفلام المصرية المؤثرة والتى برعت فيها الفنانة الراحلة سعاد حسنى والعظيم محمود المليجى والرائع رشدى أباظة ومن تأليف رأفت الميهى، وجمال حماد، ومن إخراج كمال الشيخ. عرض فى مارس 1970، وتناول جوانب الفساد للبوليس السياسى قبل الثورة، فأحداثه تدور حول رئيس البوليس السياسى، عزمى باشا، الذى يطمئن بعد انتهاء حريق القاهرة فى يناير 1952 وعودة الوضع تحت السيطرة، فيما تقوم ابنته الوحيدة التى تعيش معه بخيانة زوجها مع أحد أصدقائه، فيقتله عزمى باشا، خوفا من الفضيحة، ويزوج ابنته لصديق زوجها الذى يتم تجنيده داخل القصر، لكشف بعض الوثائق السرية، وتسليمها للتنظيم الوطنى، ثم ينتهى الأمر باستقالة رئيس البوليس السياسى، بناء على طلب السراى.


ونقف هنا للحديث عند أهم الأفلام التى تناولتها السينما المصرية فى الأعوام الأخيرة، مثل «ناصر 56» و«أيام السادات»، والفيلمان من إبدع الراحل أحمد زكى إذ جسد كل من شخصية الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات، وكان لهذان الفيلمان تأثير إيجابى وقوى على أجيال لم تعاصر الحقبة الزمنية لثورة 23 يوليو.

فتناول الأول حدثاً مهم فى تاريخ مصر الحديث وهو رفض البنك الدولى تمويل بناء السد العالى ليعلن الزعيم جمال عبد الناصر قراره التاريخى بتأميم قناة السويس ليبدأ العدوان الثلاثى على مصر، أما فيلم «أيام السادات» فهو مقتبس عن كتاب «البحث عن الذات» للرئيس الراحل محمد أنور السادات الذى تناول أيضًا جانبًا كبيرًا من أحداث الثورة وما تلاها فى عصر السادات وسبعنييات القرن الماضى. 


وهناك العديد من الأفلام السينمائية التى عبرت عن  ثورة 23 يوليو 1952 والتى تدين نظام الحكم الملكى فى مصر، وأخرى تمجّد الثورة ونتائجها، فهناك أفلام تناولت معالجة الصراع الطبقى والفجوة الطبقية فى المجتمع فى عصر ما قبل الثورة، وهناك أفلام أبرزت قيمة العمل والكفاح وهناك من تعاملت مع فكرة الانتماء والحس الوطنى.


وأخيرًا فى رأيى أن السينما المصرية اعتادت اقتناص اللحظات التاريخية وإخضاعها لرؤية فنية تحتكم فى الغالب إلى وجهة نظر النظام القائم، وإدانة النظام السابق. وبالتالى فهى تعكس طبيعة المجتمع الذى توجد فيه، ولكن عادة لا يمكن أن تتحق الموضوعية بصورة كاملة فى العمل السينمائى، لأنه مزيج من تأثير المجتمع  بقضاياه وبرؤية صانعى العمل ودور الدولة به، وبالتالى لا يوجد عمل فنى يمكن أن يمثل ثورة 23 يوليو تمامًا، سواء بالسلب أو بالإيجاب، فكل الأعمال طغت عليها إما نزعة الحماس الشديد للثورة، أو موقف مناهض لها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة