أمين الريحانى
أمين الريحانى


كنوز| شهداء العلم

الأخبار

الأربعاء، 09 أغسطس 2023 - 06:33 م

بقلم:  أمين الريحانى

متى رأيت الأفراد يُفادون بأنفسهم من أجل مبدأ علميٍّ أو تعليم اجتماعى أو مسألة طبية ، ستشعر الأُمَّة بنفوذها ، سينفع بها بنو الإنسان  ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإن هذه المبادئ تشغل وحدها أفكار الباحثين والعلماء فتهتم لها الجرائدُ والمجلات ويحدِّث الأساتذة بها تلاميذهم ويوعظ رجال الدين بها على منابرهم ويباحث الفاعل أخاه بشأنها وهو يقرأ جريدة الصباح.

المرء لا يبذل نفسه من أجل الإنسانية إلا عندما ترتقى إلى درجة يمكنها أن تشعر بما يقوم به الباذلون مهجهم ، أو بالحرى لا توجد الضحية قبل أن ينضج الوسط الذى فيه ومن أجله يفادى الأفراد بحياتهم ، ولو دَقَّقْنَا النظر فى كل تعليم ومبدأ ، وفى كل نعمة يستمتع بها الجنس البشرى لوجدنا حقيقة واحدة وراءها كلها ، فلولا بذل النفس والشهادة لَمَا كانت ، فقد كان للدين شهداء وللعبودية شهداء وللحرية شهداء أيضًا ، أما ونحن الآن فى أول القرن العشرين فنتقدم إلى الكهنة والملوك والأُمراء والأعيان باحترام قائلين : تعالوا أيها العظماء والأتقياء تعالوا واغسلوا أيديكم الطاهرة بدم شهداء العلم .

هذى هى المبادئُ التى سادتْ عُقُول الناس الآن ، وتشغل أفكار الكتَّاب والخطباء والفلاسفة ، وما خلاها من التعاليم - دينية كانت أو اجتماعية أو أدبية - هى بالمنزلة الثانية من الاهتمام ، ولربما كانت سائرةً على طريق الإهمال إلى ظلمات النسيان ، شأن غيرها من المبادئ القديمة والتعاليم المنسية.

كتبت هذه السطور بعد أن قرأت فى صحف الأخبار قصة رجلين ماتا شهيدَى العلم فى مدينة هاڤانا ؛ لأنهما قَبِلَا أن يجرب بهما الدكتور كلداس مصلًا قيل إنه يشفى من الحمى الصفراء، فجاء الطبيب ببعوضة فيها مكروب الحمى وقدم الشهيدان ذراعيهما فلسعتْهما البعوضة ، فمرضا بتلك الحمى وماتا شهيدى الاختبار والتجربة ، وما هما على التحقيق إلا اثنان من الكثيرين يقبلون الضيم ويحتملون العذاب والألم من أجل العلمِ مخلِّصِ العالم الحقيقي.

فالدكتور لازار فى الجندية الأمريكية مات أيضًا على تلك الحالة ، أى أنه رضى أن تلسعه البعوضةُ الحاملةُ للجراثيم فى دمها ليختبر تأثيرها فمات شهيدًا ، وفى باريس الآن رجلٌ يموت من السل ، إذ أنه قَدَّمَ نفسه ليختبر به الأطباء مبدأ الدكتور كوخ فى هذا المرض العضال ، وقد تَطَعَّمَ فى شيكاغو ثلاثة شبان بمصل السل البقرى ليختبر الأطباء فيما إذا كان يختلف عن السل البشرى وإذا كان الأول لا يعدى البشر، إن هؤلاء وأمثالهم يكفلون تقدم العلم بحياتهم ، بل يشترون حياته بدمائهم.

وكم من قضية طبية لا يستطيع الأطباء حلها إلا إذا قدم القلائلُ الغيورون المُحبون للجنس البشرى أنفسَهم للامتحان والتجربة ، وهؤلاء الرجال الذين يفدون العلم والطب بدمائهم وحياتهم هم شهداء هذا الزمان ، بل هم الشهداء الذين يستحقون إكليل الغار وهالة القديسين ، فقد مات شهداء الدين من أجل دينهم ، وهذا ليس بكثيرٍ، أما هؤلاء فيموتون من أجل العالم بأسره ، يموتون اليوم لتَقِلَّ الأمراضُ فى المستقبل ، وفوائد العلم والاكتشافات مُشاعة بين بنى الإنسان على الإطلاق ، ولا يتوقف دُخول سمائها على إذلال الروح وقتل الضمير ومَسِّ الوجدانات.

رحم الله شهداء العلم كلهم أجمعين ؛ فهم أولياء القرن العشرين ، هم الذين يستحقون «التطويب» ، هم القديسون الذين يجب أن يُحفظ ذكرهم فى كل البيوت وفى المدارس والمعابد وبين كل أُمَّة وكل شعبٍ وكل قبيلةٍ ، فقُلْ طوبى لهم على ما أتوا عالم العلم والإنسانية من الباقيات التى تُؤهِّلُهُم لِأَعْلَى عليين فى ملكوت السماوات.

من كتاب «الريحانيات»
 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة