يسرى الفخرانى
يسرى الفخرانى


فنجان قهوة

أرصفة وحكايات

أخبار اليوم

الجمعة، 18 أغسطس 2023 - 06:07 م

علمنى الأستاذ صالح مرسى أن أمشى كثيرا فى شوارع وسط البلد أينما كنت، فمشيت فى كل بلد زرتها ساعات طويلة بلا نهاية أتنقل من رصيف إلى رصيف منبهرا بكل الباعة الجائلين وفاترينات المحلات وعناوينها، قال لى صالح مرسى إن المشى على أرصفة المدن أهم وأجمل من ألف كتاب. والفرجة على الناس والبيوت والبضائع والأبواب والعتبات وطاولات المقاهى وعناوين المجلات والصحف هى موعد غرام لا يمل.

ومشيت مع الأستاذ صالح شوارع وسط البلد فى الاسكندرية، العطارين والمنشية والنبى دانيال ومحطة الرمل وشارع فؤاد وكوم الدكة ومحرم بك، وقد وجدت متعة فى كل طلعة زقاق ونزلة شارع ولفحة هواء قادمة من بهو عمارة قديمة.

وتمشيت مع الأستاذ نجيب محفوظ من مقهى ديليس فى محطة الرمل حيث يجلس كل صباح فى إجازته الصيفية حتى كورنيش الشاطبى يتأمل وجوه الناس فى صمت يليق به قبل أن ينقله تاكسى الإسكندرية الأصفر إلى بيته الصغير فى سان ستيفانو.

وأظن أن جيلى قد مشى من المشاوير عن طيب خاطر كثيرا جدا، كنا نمشى فى ليل القاهرة أكثر مما مشاه عبد المطلب لحبيبته من السيدة للحسين.. أكثر بكثير. وفى المشى رغى وضحك وغناء مفاجئ لأحدنا دون مقدمات، أفكار تُطرح ومشروعات قيمة تُقال وأحلام تولد فى حماس زائد.فى المشى تعلمنا الصبر وعرفنا الحب وأدركنا معنى محطات الانتظار قبل استكمال الرحلة إلى الهدف الأخير. وكنا فى المشى نتزود بساندوتشات الفول من أى عربة مغرية تقابلنا ونشرب الشاى على مقاه صغيرة ليس مخططا لنا أن نجلس عليها ونأكل أطباق البسبوسة ونُفلس قبل أن نفترق، لكننا سعداء سعادة لم نجدها بعد ذلك حين اختصرنا المشاوير المباغتة بمواعيد محددة فى أماكن تبدو سعيدة لكنها ليست كذلك!

أفتقد الأرصفة التى لم يعد لها وجود، إنها إما مُحتلة أو مكسورة، كان أبى يمشى بى على أرصفة تتسع للجميع، ويجعلنى أحفظ شكل الشوارع وأرصفتها، فإذا تهت.. دَلّك الرصيف إلى عنوان بيتك.

أحببت الأرصفة كأنها رواية جميلة، كل خطوات فيها ترى مشاهد جديدة كُتبت على مهل وبالصدفة، ومن الأرصفة أحببت الذكريات، وكل رصيف مشيت عليه يعيدنى الحنين لكى أمشيه من جديد لأبحث فيه عن بقايا خطوات قديمة وذكريات.

الأرصفة فى الطفولة كانت تختصر المسافات البعيدة، مُسلية بأرقام البيوت واللافتات الملونة على واجهة المحلات وباعة الدوم والتين ومدخنة اللب الصغيرة وعربة البطاطا فى عز الشتاء. 

كان يبدو لى دائما كساحر يخبئ فى صندوقه مفاجآت مدهشة، دائما مدهشة، لذلك حين حُذف الرصيف من تفاصيل مشاويرنا.. افتقدنا ثقافة ومتعة وبهجة كانت جزءا أصيل من أيامنا الحلوة. افتقدنا عد بلاطات الرصيف ووصف الشوارع ولحظة الاختباء من مطر يفاجئنا وفرشة الصحف والكتب المبهرة وفنجان القهوة على رصيف البن البرازيلى.

الرصيف سياحة مستقلة بذاتها فى كل مدن العالم الكبيرة، تهديك تذكرة سينما أو بطاقة مسرح أو ضربة حظ فى ياناصيب، قطعة كحك أو رغبة بشراء كتاب جديد .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة