محمد رضا نصر الله
محمد رضا نصر الله


محمد رضا نصر الله:لو بيدى لمنحت نوبل لعبد الرحمن بدوى وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف

أخبار الأدب

الجمعة، 01 سبتمبر 2023 - 02:52 م

استضاف الشخصيات المهمشة إعلامياً وانشغل بالبحث عن التحولات العميقة التى تلامس المجتمع، وبفكره وقلمه عالج الكاتب والإعلامى محمد رضا نصرالله العديد من القضايا الثقافية، إيماناً بأهميتها، إذ قال فى أحد اللقاءات السابقة: «أستمد قيمتى فى بلادى من كونى صاحب قلم لا يعرف التردد»؛ فقد مكَّنه ما يمتلكه من مخزون ثقافى مذهل على تقديم المعرفة باتزان، مبتعداً قدر المستطاع عن الاستفزاز، واستخراج المعارف والقيم من ضيوفه بمهارة . 


بدأ نصرالله، المولود بـ القطيف عام 1953؛ فى تناول الثقافة – منذ نعومة أظافره – على مائدة المكتبة الفكرية لوالده الحاج منصور بن الحاج حسن نصرالله، ويمكن القول إن مسيرته الإعلامية انطلقت عام 1968، بالكتابة فى صحيفة «اليوم» وكان مقاله الأول عن الشاعر الشريف الرضى صاحب الحجازيات الشهيرة، حين جاء مبتعثاً من بغداد إلى الحجاز ليكون أميراً للحج، ثم استهل النشر فى «مجلة اليمامة» ، حيث «يحكى»: أول ما اتضحت لى صورة والدى – وأنا لا أزال طفلاً – كان يحمل كتاباً، ومجالس أصحابه كان محور حديثها هو الكتاب، وأُطلِقت حينها مبادرة لإنشاء المكتبة الأهلية الرائدة عام 1956 بسبب العدوان الثلاثى على مصر واشتعال الفكر القومى فى المنطقة عموماً، مما ألقى بظلاله على القطيف والمملكة ، عبر هذا الجو تأثرتُ أنا كما تأثر غيرى». 


انتقل نصرالله إلى مدينة الرياض للدراسة فى كلية الآداب جامعة الملك سعود، ونشر حينها بعض المقالات فى جريدة الرياض، وهو لا يزال طالباً. كان مفتوناً بنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، فقرر السفر على حسابه الشخصى لرؤية نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وحين وصل إلى القاهرة سأل عنهما وعلِم أنهما فى الإسكندرية، فتوجه إلى هناك. يقول: «أخبرونى أن توفيق الحكيم يجلس فى كازينو يونانى اسمه «بيترو» ، تبين لى أنه مطعم سمك . ذهبتُ إليه ووجدته يجلس فى إحدى الزوايا ومعه شخص بدين أسمر، عرفتُ أنه الأديب عباس الأسوانى، كان يكتب فى مجلة «صباح الخير» ، وقفتُ – آنذاك – مبهوراً وقلت للحكيم: «أنت توفيق الحكيم؟ هل هذه العصا عصا الحكيم؟ والبيريه هل هو بيريه الحكيم؟» إذ كان يدير حواراً فلسفياً بين العصا والبيريه وينشرها فى مقالات بالأهرام، فأجابنى : «نعم». سألته» : وأين نجيب محفوظ؟» فقال لى : «لقد جئت متأخراً . غداً تعالى مبكراً وسترى الجميع؛ نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوى.. «فألهب مخيلتى». 


يصف نصرالله صاحب المطعم اليونانى بالذكاء، حيث وضع لوحة على رأس المكان الذى يجلس فيه الحكيم موضحاً أن كازينو «بيترو» يقدم فنجان قهوة مجانياً يومياً للأديب توفيق الحكيم، فهو يعلم أن قدوم الحكيم سيتبعه قدوم كل النخبة الأدبية فى الإسكندرية. ويستطرد قائلا: «عندما قال لى الحكيم إن علىَّ القدوم مبكراً فى الغد، التفتُ لبيترو صاحب الكازينو وقلتُ له: «لو جئت غداً، هل تعدنى بتقديم الإفطار مجاناً لى؟» فقال: «نعم» وبالفعل فى اليوم التالى جئت مبكراً ووجدتُ المكان مزدحماً، قلت لبيترو: «أين وعدك؟» فأشار لشخص بدين اسمه ثروت أباظة، وهو قاص وأديب من تلاميذ طه حسين، فأفطرونى بـ«سندوتش»، ظللت لشهرين متتابعين أداوم على ندوة توفيق الحكيم، خاصة أنه فى ذلك الوقت أصدر كتاب «عودة الوعى» نقداً للتجربة الناصرية رغم أن عبد الناصر كان حفياً بتوفيق الحكيم ووجد نفسه فى بطله محسن فى رواية «عودة الروح» وأحدث صدور هذا الكتاب سجالاً فكرياً عنيفاً بين توفيق الحكيم واليسار المصرى» .


استفاد محمد رضا نصرالله من وجوده فى الإسكندرية بعمل مجموعة من الحوارات، وكان حينها يكتب فى مجلة «اليمامة» محدودة الانتشار، وعند عودته للمملكة كان تركى السديرى قد أصبح رئيساً لتحرير جريدة الرياض، وأثناء حديثهما هاتفياً علم منه أنه أجرى تلك الحوارات، فطلب منه السديرى ألا يعطيها لـ«اليمامة» قائلاً : «أنت من اليوم محرر ثقافى فى الرياض». 


مرّ نصرالله بعدد من المراحل أثناء عمله فى صحيفة الرياض، يسرد بعضاً من تفاصيلها قائلاً»: فى عام 1974 جاء الملك فيصل زائراً للمنطقة الشرقية، فكلفنى الأستاذ محمد العجيان – الذى أصبح فيما بعد رئيساً لتحرير جريدة اليوم – وكنت وقتها حديث العهد فى صحيفة الرياض؛ بتغطية هذه الزيارة والتحصل على معلومات – وقتذاك – حول فكرة بناء جسر بين المملكة السعودية والبحرين، الذى كنت مشغولاً به كذلك، وقد دُعى لهذه المناسبة عددٌ من زعماء الخليج من بينهم: الشيخ عيسى والشيخ خليفة أمير قطر – رحمهما الله – فأجريتُ حواراً أو بالأحرى مكالمة تليفونية مع محمود العلوى – أول وزير مالية فى الحكومة الأولى للبحرين بعد الاستقلال – وقد قام من طاولة الغداء وأعطانى بعض المعلومات، لكنها لم تكن كافية . وفى المساء رأينا حركة فى فندق القصيبى حيث يقيمون، وإذا بالشيخ عيسى والشيخ خليفة ينزلان، وكذلك الشيخ محمد المبارك وزير خارجية البحرين، الذى طلبتُ منه الحوار فأعطانى بعض المعلومات وهو يسير». 


تبيّن لمحمد رضا نصرالله أن هذ الجمع فى طريقه لاجتماع مغلق وعشاء فى قصر العدامة، حيث كان الملك فيصل فى انتظارهم، فكسر المألوف ودخل معهم إلى السيارة للحصول على المعلومة، دون أن يعرف إلى أين يسير الموكب المحاط بالحرس المملكى، ويستطرد قائلا: «بعد قليل وصلنا إلى قصر العدامة وإذا بالملك فيصل موجود والأمير محمد بن عبد العزيز، وكان الملك خالد لا يزال ولياً للعهد والأمير فهد النائب الثانى ووزير الداخلية، وكانت أمامنا سيارة الشيخ عيسى الذى كان الملك فى استقباله، وأنا بجانب وزير خارجية البحرين وليست لى صفة دبلوماسية فشعرتُ بأننى فى موقف حرج جداً، حاولتُ الخروج بسرعة فلحق بى أحد الضباط واسمه عبد الكريم، قائلاً : «أنت مجنون؟ ! كيف تتجرأ أصلاً وتركب السيارة؟» فقلت له: «شوف؛ إنت مهمتك حماية الضيف وأنا مهمتى المنتدب لها الحصول على المعلومة». فى ذلك الوقت كانت الأمور بسيطة وليست معقدة مثل الحال اليوم» .


يستكمل نصرالله: «كان هناك حفل عسكرى فى الظهران، حضره عدد من الملوك والأمراء والرؤساء، وهناك صور تجمعنى بهم . أثناء فترة الصلاة خلال الاستعراض شاهدتُ الوزير محمود العلوى فطلبت منه تكملة الحوار، وبالفعل أعطانى بعض المعلومات، لكن بعد قليل جائنى الضابط نفسه – عبد الكريم – قائلاً: «ورانا .. ورانا» فقلت له : «وسأظل». ما أقصده من ذلك هو ضرورة امتلاك الصحفى لقدر من الجرأة». 


ذلك القدر من الجرأة الذى امتلكه محمد رضا نصرالله، إلى جانب تميزه فى العمل، جعله مُؤهلاً ليكون مشرفاً على الصفحات الثقافية وصفحات الرأى فى صحيفة الرياض عام 1978 ثم مديراً لتحرير العدد الأسبوعى . وبالتوازى مع العمل الصحفى ترنم بصوته فى كثير من البرامج التليفزيونية والثقافية المشوقة التى أعدَّها وقدَّمها بروح المحارب الشجاع وتفردت فى مستواها الإبداعى، فصارت ثروة قيِّمة وإرثاً ينفع الأجيال؛ منها: برنامج «الكلمة تدق ساعة» و«هذا هو» و«وجهاً لوجه»، ووصلت حواراته لأكثر من ألف ساعة حوارية متلفزة، حاور فيها ما يزيد على 150 شخصية ثقافية وفكرية عربية من مبدعى النصوص ونقادها بكافة تياراتها . 


وحول بداية تلك المسيرة التليفزيونية يقول نصرالله: «حين أصبح الدكتور عبد العزيز خودى وكيلاً لوزارة الإعلام فى حكومة الدكاترة التى شكلها الملك فهد فى عهد الملك خالد، طلب منى تقديم برنامج ثقافى فى التليفزيون، وقت كان التليفزيون حصناً حصيناً والوحيد فى المنطقة، وقد أتاح لى هذا العرض استعادة تجربتى فى الحوارات الثقافية مع الأدباء المصريين ، اخترتُ لإخراج البرنامج واحداً من ألمع المخرجين وهو الأستاذ سعيد الفريح، كان صاحب رؤية إخراجية متميزة ساعدتنا على إنجاز أولى مهام البرنامج فى تونس والجزائر ومصر والمغرب، لدرجة أننا استهلكنا كل الأشرطة التى اصطحبناها معنا، سجلتُ فى تلك الرحلة أول حوار مع الأديب المصرى يوسف إدريس فى 17 يناير 1978 فى يوم مقتل يوسف السباعى فى لارناكا القبرصية. بعدها سافرنا لتونس وبدأنا حواراتنا بالأديب محمد مزالى الذى أصبح بعد ذلك رئيساً لوزراء تونس وكان يُصدِر مجلة الفكر، كما قمنا بعمل حوارات ٍ مع غيره من شبيبة الأدب الجديد فى تونس» .


فى الجزائر اختلفت الأمور قليلاً عن مصر وتونس، حيث كانت آثار الاستعمار الفرنسى واضحة على الألسن، يتذكر نصرالله قائلا: «طلبتُ مقابلة المخرجة السينمائية الشهيرة والكاتبة المسرحية آسيا جبار، كانت مرشحة لجائزة نوبل وحصلت قبل وفاتها على جائزة فرنسية كبرى، تم اللقاء وكنت متأثراً بعمل مسرحى شعرى من تأليفها يتناول قصة مقاومة الشعب الجزائرى للاستعمار الفرنسى واستشهدت فى هذه المسرحية ببعض أبيات من الشعر الجاهلى، فحسبتُ أنها متمكنة من اللغة العربية، وهى – كذلك – كانت لديها الرغبة فى الحديث للمشاهدين فى المملكة والعالم العربى لكن لسانها تأبَّى، حينها أحسستُ بالدموع تتألق فى عينيها» .


بعدها واصل فريق البرنامج رحلته إلى المغرب وبغداد ودمشق، وسجلوا العديد من المقالات مع البياتى وعلى ممدوح وعبد الواحد وآخرين كثيرين، و يستطرد محمد رضا نصرالله : «هذه التجربة أثرتنى وأزعم أننى نجحت فى تقديم عمل نوعى على الشاشة، فاليوم ومع الأسف – التليفزيونات فى العالم تمارس عنفاً رمزياً، ويكاد يكون مٌحتكراً من قِبل ملاك القنوات والوسائل الجديدة المتحالفين مع القوى الاقتصادية والرأسمالية الكبرى، ولهذا شاع نمط الثقافة الاستهلاكية فى العالم كله واختفت البرامج ذات التأثير الفكرى والإثراء الوجدانى، فى السابق كنا نتسمر حول تليفزيون «أرامكو» الرائد لنرى حديثاً لإسماعيل ناظم، وأحياناً مقابلاتٍ مع أدباء مصريين، ونشاهد روائع الأفلام المصرية» .

على المستوى الرسمى؛ تعيّن محمد رضا نصرالله عضواً بمجلس الشورى، وشغل منصب الأمين العام للهيئة الاستشارية الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام، وأسهم فى تأسيس نادى الرياض الأدبى، فقد انخرط فى العمل الثقافى بكل طاقته الإبداعية، ومؤخراً أمتعنا بكتاب ذى ثلاثة أجزاء عنوانه «حوارات القرن» جمع فيه حوارات مع أبرز رموز الأدب والفكر والسياسة وأكثرهم تأثيراً فى العالم، مستحضراً تجاربهم ومطارحاتهم الفكرية . 


عن سبب إصدار «حوارات القرن» فى هذا الوقت تحديداً، يقول: «كانت هناك مطالب عديدة من كثير من متابعى البرنامج لإصدار هذا الكتاب، لذا استثمرتُ جائحة كورونا لإنجازه، بالإضافة إلى وجود دار نشر متميزة تبنت نشر هذا الكتاب الذى جاء ضخماً فى 2400 صفحة، إذ يتكون كل جزء من 800 كتاب، مما جعله – اليوم – بمثابة مرجع للباحثين فى قضايا الأدب والسياسة والثقافة، فقد أجريتُ حوارات سياسية – أيضاً – مع رئيس وزراء روسيا الاتحادية، ومع عمرو موسى عندما كان وزيراً لخارجية مصر، وصمويل هانجنتون صاحب صدام الحضارات، وعندما أتٌيحت لى الفرصة لتفريغ هذه الحوارات فى مادة مكتوبة عملتُ على التنفيذ، والحمد لله وجدت مستوى مرضياً من الإقبال». 


ممن حضَّر نصرالله لإجراء حوار معه ولم يتم كان الكاتب السعودى الكبير د .عبد الرحمن منيف، إذ هاتفه ابن شقيقه الدكتور ماجد منيف الذى أصبح أميناً عاماً للمجلس الاقتصادى الأعلى، لإجراء حوار معه، أى مع عبد الرحمن منيف، حول عودته للعلاج فى أحد مستشفيات المملكة، فقال: إن ذلك لا يليق، وإنما الأفضل إجراء حوار حول تجربته الأدبية والمرور خلاله على موضوع العلاج، لكن بعد إعداد الأسئلة وإرسالها إلى شقيقه وموافقته عليها؛ رفضت زوجته، وتوفى بعدها عبد الرحمن منيف بالفشل الكلوى، فأرسلت المملكة طائرة لإحضار جثمانه، إلا أن زوجته رفضت كذلك». 


كما كانت له تجربة شبيهة مع المفكر والفيلسوف المصرى الكبير عبد الرحمن بدوى، يقول: «فى باريس عام 1993؛ رغبتُ فى إجراء حوار مع شخص صعب المراس وهو د . عبد الرحمن بدوى، الذى عمل على نصوص الفكر الفلسفى اليونانى القديم وقدمها فى أطروحات مميزة، لكن للأسف مات الرجل وليس له إلا مقابلة واحدة مع المذيعة المصرية ليلى رستم، إذ كان بدوى واحداً من مجموعة مفكرين استضافتهم المذيعة ولم تسأله سوى سؤال واحد» .


أجرى صاحب «حوارات القرن» عدداً من اللقاءات النادرة مع شخصيات مهمة وبارزة، من بينهم المفكر شفيق جبرى، ومحمد حسين عودة رائد الحداثة فى المملكة والعالم العربى، صاحب الكتاب الشهير والصاعق «خواطر مصرحة» ، والأكاديمى العراقى على جواد الطاهر الذى عمل على توثيق المطبوعات السعودية وأول من اقترح مادة عن الأدب السعودى فى قسم اللغة العربية فى جامعة الملك سعود، إذ لم يكن الأدب السعودى يُدرَّس، فأعّد ملخصاتٍ للأدب السعودى، وكان الشيخ حمد الجاسر ينشر هذه الملخصات فى مجلة العرب، وبعدها تم إصدار هذه الملخصات فى كتاب ضخم من 4 أجزاء بعنوان «معجم المطبوعات السعودية فى المملكة العربية السعودية». وحاور – كذلك – المؤلف والمهندس الزراعى العراقى أحمد سوسة، الذى لا توجد له أى مقابلات أخرى ولا حتى فى التليفزيون العراقى . 


وأثناء محاورته لأحد المفكرين أو المثقفين، يحرص محمد رضا نصرالله دوماً على حياديته وأن يعطى للضيف كامل الحرية للإجابة دون مقاطعته إلا للضرورة، لاستيضاح نقطة معينة، أما الخطوات السابقة لإجراء الحوار والاستعداد له، فيقول عنها:  «رغم الموانع والحواجز ورغم أن فرص المعلومات لم تكن متاحة كما هى الآن، لكننى كنت حريصاً على القراءة عن شخصية الضيف جيداً قبل محاورته، وأتذكر موقفاً مع أنيس منصور؛ عندما طلبت الحوار معه استخف فى البداية لكن مع بدء الحوار تبدلت الأمور بسبب اكتشافه أننى قرأت عنه جيداً قبل اللقاء، وأذكر مثلاً الطيب صالح رحمه الله الذى تمنَّع فى البداية ولكن بعد الدخول فى الحوار تغيرت طريقة تحاوره تماماً، وكذلك الأمر كان مع فدوى طوقان التى التقيناها فى مراكش ورفضت الحوار فى البداية وكانت لديها حالة من اليأس والانقباض، لكنها شاعرة كبيرة ورائدة من رواد شعر الفرانكفونية ولديها مواجهات عديدة مع الإسرائيليين، وبعد محاولات تمكنتُ من محاورتها واستعددتُ جيداً لها . أنا أحترم دوماً عقل ضيفى وعقل المشاهد أيضاً». 


وفى سياق احترامه لعقلية المشاهد والضيف على حد سواء، يتذكر نصرالله تفاصيل حواره مع أستاذه الدكتور شكرى عياد، وهو أبرز أساتذة النقد الجديد فى العالم العربى وصاحب الأطروحة الشهيرة القائمة على ترجمة كتاب أرسطو من اليونانية القديمة ومقارنتها بالترجمة التى تمت فى العصر العباسى، وهى أطروحة أدهشت طه حسين نفسه، يقول: «عندما دخلتُ الحوار كنت متهيباً لكنه شعر بأننى أمسك بمفاتيح تجربته النقدية، لذلك كانت المقابلة متميزة للمهتمين بهذا اللون من الأدب» .


لا يحدد محمد رضا نصرالله توقيتاً مسبقاً لحواراته، وإنما يترك الأمر للصدفة، مثلما حدث مع المفكر مراد وهبة، أستاذ الفلسفة وأحد رواد التنوير فى العالم العربى، حين قابله بالصدفة فى مصر وأجرى معه حواراً فى حلقتين كاملتين، يستكمل قائلاً: «هو شخصياً شجعنى عندما اكتشف فىَّ شخصاً مدركاً لتجربته، وحفزتنى كلماته على الاسترسال فى الأسئلة» .


ممن حاورهم – كذلك – أديب نوبل نجيب محفوظ، الذى يتذكر حواره قائلاً: «لم يكن محفوظ يتوقع فوزه بنوبل، وأثناء حوارى معه كان يرمى إلى أنه يطمح على الأقل للحصول على جائزة الملك فيصل، إذ امتدحها كثيراً، لكن للأسف جائزة الملك فيصل انتهجت منهجاً متحجراً لدرجة أنها حجبت الجائزة عن الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة. أما جائزة نوبل فاتخذت بعداً سياسياً؛ أذكر أنه فى عام 1974 ميلادياً أثناء رحلتى للإسكندرية ارتبطتُ بعلاقة مع الأديب المبدع يوسف إدريس، وكان يعتقد أنه الأحق بهذه الجائزة، وفى ذلك الوقت اشتغل اليهودى العراقى رونى سوميك على دراسة نقدية لأدب توفيق الحكيم ويوسف إدريس، كتمهيدٍ لما جرى بعد ذلك فى جائزة نوبل، لكن مشكلتنا فى العالم العربى أننا لا نهتم بما يجرى. على سبيل المثال؛ علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية قائمة على المصلحة، ورغم ذلك لا توجد لدينا دراسات عن أمريكا مقارنة بما تمتلئ به مكتباتهم من دراسات عن المملكة والعالم العربى .

نجيب محفوظ فى ذلك الوقت سار فى الطريق الذى يريدونه، ولهذا كان برداً وسلاماً، لكن لو رُشح مثلاً عبد الرحمن بدوى للجائزة فلم يكن سيحصل عليها لأن لديه موقفاً وطنياً واضحاً، وكذلك عبد الرحمن منيف وتوفيق الحكيم . ولو أنا أستطيع منح نوبل كنت سأمنحها لأحد هؤلاء، ولو تُرك الأمر على الصعيد الشعرى لاخترت الشاعر المجدد؛ السيالى» .


أما جائزة الملك فيصل، فيقول نصرالله: «إنه لو كان مسئولاً فيها، لمنح الجائزة إلى إدوارد سعيد الذى أبدع فى تجسيد علاقة الأديب ببيئته، رغم إبداع الكثير من الأدباء والمفكرين فى تجسيد ذلك الأمر مثل توفيق الحكيم فى «عصفور من الشرق» ويحيى حقى فى «قنديل أم هاشم» وغيرهما، وكذلك الطيب صالح فى «موسم الهجرة إلى الشمال» لكن إدوارد سعيد أبدع للغاية فى أطروحته الشهيرة «الاستشراق» التى غيَّرت خارطة الفكر الاستشراقى، فالمعروف أن الاستشراق كان يصنع صورة عن العالم العربى والإسلامى، وهى صورة مُتخيَّلة عبر ألف ليلة وليلة تصوِّر العربى على أنه متخلف ويعيش فى بيئة صحراوية عبارة عن خيمة وجمل وبترول، رغم أن الثقافة العربية تشكلت أساساً عبر هذه الصحراء فى الجزيرة العربية، فزهير بن أبى سلمى من دعاة السلام العالمى، ولذلك نحن مدعوون اليوم لإعادة قراءة لهذا التراث الذى شكل وجدان وفكر العربى . 


وعن الدوافع التى تخلق فضولاً لدى محمد رضا نصرالله نحو شخصية أدبية لمتابعتها أو محاورتها، يقول: «شخصية مثل أدونيس؛ هو شاعر كبير لكنه دخل فى إشكالات، خاصة مع أطروحته للدكتوراة عن الثابت والمتحول فى إحدى الجامعات اللبنانية، حيث أقلق النقاد والقراء العرب لأنه أراد تقديم صورة جديدة، وقد أجريت معه حوارين، أحدهما فى دمشق عام 1979 والآخر خارجها فى إم بى سى، حاولت خلالهما أن أتلمس المطاعن التى وُجهت لأدونيس بوصفه باطنياً وضد التراث العربى، لكن أدونيس كان قارئاً متمكناً من الشعر العربى، ومن يقرأ مثلاً كتابه «مختارات من الشعر العربى فى أربعة أجزاء» يكتشف مستوى خاصاً للغاية، أما شخص مثل الماغوط فهو شاعر موهوب، لكن ثقافته تعتمد على تجربته فقط، وهو من الذين بشَّروا بالقصيدة النثرية، لكننى أتذكر هنا شخصاً اسمه بشر فارس قد لا يعرفه الكثيرون، فهو لبنانى عاش فى مصر ودرس فى باريس وكان مثقفاً ثقافة كبيرة، هو أول من كتب قصيدة النثر فى العالم العربى، لكنه كتبها بإتقان وبعد المرور بالتجارب الفنية المتراكمة، فقرأ الشعر القديم وقرأ الشعر الأوروبى الحديث وقدّم الجديد، لكن الماغوط اعتمد على موهبته فقط، فقد كان موهوباً ومدهشًا ، و«يمكن القول إن من يستثيرنى فى النقاش هم الذين تقوم أعمالهم على إشكاليات، مثل : محمد الجابرى الذى عمل على نقد مشروع العقل العربى، وقد أعاد إنتاج ما قام به مشروع أحمد امين فى الثلاثينيات ونجح فى وضع تصور نقدى فى تطور الفكر العربى منذ بدايته» .


بعد ضم الثقافة للإعلام فى وزارة واحدة تولاها الدكتور فؤاد فارس، التقى بـ «نصرالله» وطلب مساعدته، فاختار له سبع شخصيات، كل فى تخصصه، ومنهم متخصص المكتبات يحيى جنين، والفنان التشكيلى ضياء عزيز، والمسرحى الدكتور نعيمان عثمان، والدكتور سعد البازعى، واجتمعوا مرتين من أجل طرح فكرة دعم المثقفين وأقنعوا الوزير بعمل ملتقى لتقديم أوراق عمل إجرائية لأبرز النقاد والناشطين فى الحقل الثقافى، ويستطرد قائلاً: «نظمنا الملتقى بالفعل، وخلال النقاش استخلصنا بعض الأفكار، لكنها لم تكن ناضجة، وتوقف بعد ذلك.

لكن فى الملتقى الثانى اقترحنا أن تكون الثقافة مستقلة، وقد حدث ، وفى ذلك الوقت أطلقنا أول عمل سينمائى وأول عمل مسرحى، وفى الملتقى الثانى قدمنا عروضاً سينمائية ودعونا بعض وزراء الثقافة السابقين الذين أعطونا خلاصة تجاربهم وكان ذلك فى عام 2011، وتحولت بعض هذه الأفكار إلى استراتيجية ثقافية، وأنا شخصياً من الموقِّعين على تلك الاستراتيجية التى قامت على الأقسام والمجالس، وننتظر منها الكثير، كما ننتظر المهرجان الدولى الذى سيقام فى القطيف ومن المتوقع أن يكون مفاجأة للعالم العربى كله، وقد طلب منى الوزير الاجتماع ونحن فى طور وضع ملامحه» .

كانت التجربة المصرية هى الرائدة فى الصحافة الثقافية خلال فترة طه حسين والعقاد والزيات، والتى كانت صحافة أدبية فى المقام الأول . على سبيل المثال؛ كانت قصيدة أحمد شوقى تُنشر فى الصفحة الأولى لجريدة الأهرام، وفى العراق كانت قصائد الرصافى تحصل على حيز مهم فى الصحافة اليومية، وحتى نزار قبانى وغازى جوفى كانت قصائدهما تُنشر فى الصحف وبرزت بشكل أكبر فى السبعينيات. كما كان للصفحات الثقافية دورها فى كسر الحاجز بين الجامعة والمجتمع عبر استكتاب بعض الكتاب، يقول نصرالله: «وقتما عاد بعض الأكاديميين من بريطانيا مثل : الدكتور الأنصارى ومحمد شامة، كان كل منهم يزن عقله الجبال، لكنهم منكمشون داخل أقسامهم، وأنا كنت ممن شجعوهم على التجرؤ لكتابة زاوية أسبوعية، مثل الدكتور الضبيب والدكتور الحازمى والدكتور على جاد أستاذ الإنجليزية والدكتور سعد البازعى، وكذلك شكرى عياد؛ دعوته للمشاركة وأتذكر أول مقال نشره، كان عن مسرحية «قطار الحظ» من تمثيل على إبراهيم، وقد عُرضت المسرحية فى هذا الوقت فى حضور مدهش. لكن لا بد أن نعرف أن الثقافة الجادة لا يهتم بها سوى النخبة، ففى البداية، عام 1957 كنا ننتظر «صوت البحرين» ، وكانت مجلة رزينة ومهمة، على غرار مجلتى «الثقافة» و«الرسالة» ، وقد أثرت الأجيال بثقافة جادة، لكن اليوم أصبح اهتمام الجمهور بالـ«هشك بشك» ، ليس فى العالم العربى فقط بل فى العالم كله، ولذلك يرى علماء الاجتماع أن هناك تلاعباً بالعقول ويلقون باللوم على وسائل الإعلام التى نشرت نمطاً من الثقافة الترفيهية، فناقدان مثل : غالب شكرى ورجاء النقاش وغيرهما لن نرى لهم كتابات اليوم فى الإعلام . ومن يقولون إن النصوص الثقافية تحتاج لتبسيط يخطئون، فأنا مثلاً أكتب نصاً شعرياً ولست مسئولاً عن تبسيطه، المنوط بإعادة إنتاجه هو الناقد». 


لذلك «يرى محمد رضا نصرالله أن الوصول للجمهور يستلزم الكتابة بلغة بعيدة عن الاستعراض والتحذلق بالمصطلحات، فالبعض يعيب مثلاً على الناقد اللبنانى الشهير مارون عبود أنه كان ناقداً مجتمعياً ويقف بقلمه أمام أكبر رأس، كأن ينتقد فى مقالاته شاعراً مهماً مثل الأخطل الصغير، فمهمة الناقد أن يتمثل النص ويعمل على استبيان أسراره وتفكيكه وإعادة بنائه ويضيف: «أستمتع كثيراً بناقد جاءكم هنا وللأسف لم أعلم بوجوده إلا عقب سفره وهو الناقد عبد الفتاح كيليطو الذى أصدر كتاب «الكتابة والتناسخ» وعمل بفهمه العميق للنصوص التراثية على المقامات وعلى الجاحظ، لكنه يقدم نصاً إبداعياً جديداً، وعندما تقرأ له اليوم تستمتع» .


أما دور الصحفى الثقافى – بحسب نصرالله – فهو نشر المقالات وعروض الكتب، بحيث تكون الصفحة الثقافية مرآة للمشهد الثقافى الموجود بالمجتمع سواء المحلى أو العالم، وكذلك وسيلة لنقل الثقافة إلى الجمهور وتحقيق أهدافها التوعوية، يقول: «الثقافة الجماهيرية اليوم لم تعد بمثل ما كانت فى مصر، فقد كان لدينا وزير مهم مثل ثروت عكاشة، عمل على إحياء الحركة المسرحية الموجودة من الثلاثينيات، ونجح فى عمل المجلات ومشروع الألف كتاب، كان مثقفاً وخلَّف لنا كتابات فى الفنون التشكيلية نستطيع أن نصفها بالروائع، فنحن نحتاج للمسئول صاحب الإحساس الثقافى» .


وعن أسباب تراجع الصحافة الثقافية؛ يرى نصرالله أن الثروة المعلوماتية المدهشة التى نعيشها اليوم أدت إلى انحسار الصحافة الورقية فى العالم كله، لأن المعلن يتراجع عن الإعلان فيها، يعلق قائلا: «وسائل المعرفة متاحة لكن الإشكال فى العلاقة بين القارئ وما يقرأ، ففى السابق كان الكتاب في علاقة مباشرة مع القارئ، يقرأه ويبقى عنده، لكن اليوم المعلومات مستهلكة وتُنسى، فالمجتمع البشرى مرت حضارته بحسب «إلفين توفلر» بثلاث موجات،الأولى هى الفترة الزراعية، ثم الفترة الصناعية، والثالثة هى الموجة المعلوماتية، وفى أحد فصول كتابه «صدمة المستقبل» الذى يحمل عنوان «ثقافة التخلص من الأشياء» يقول إننا اليوم نتعامل مع المعرفة ومنظومة القيم كالمناديل الورقية، بمجرد الانتهاء منها يتم إلقاؤها . لقد أصبحنا – للأسف – جزءًا من المجتمع العالمى وهذا غير مبشر، فالعقول عولمية والأزياء عولمية، ولذلك أنا آمل فى أن يؤول هذا الانفتاح العالمى لصياغة العقول الثقافية، وقد كتبت قبل فترة مشروعاً أوضحت فيه أن وزارة الثقافة السعودية مثلاً تصرف سنوياً أكثر من عشرين ملياراً، ومصر كذلك لها ميزانية ضخمة لوزارة الثقافة، لكن فى المملكة هناك فجوة ثقافية بين المجتمع وما يحدث، لذلك على وزارة الثقافة اليوم دور كبير فى تهيئة الأجيال الجديدة لمواجهة الصدام الحضارى» .


وفى الختام، يؤكد محمد رضا نصرالله أن المثقف ليس الشاعر أو الروائى فقط، وإنما هناك الكاتب المسرحى والمخرج السينمائى والفنان التشكيلى، بهذه التشكيلة الجديدة يمكن بناء مشروع ثقافى سعودى عربى .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة