علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

الاحتفاء بالحبيب.. كل الأيام أم يومًا فى العام؟

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 19 سبتمبر 2023 - 06:49 م

من مشاهدات مطبوعة بذاكرتى إلى مقولات مسطورة فى حنايا صدرى، أراوح بين هذه وتلك، على أعتاب الاحتفال بمولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

الخميس 15 صفر:

يغمرنى فيض ذكريات تفور من نبع الطفولة الباكرة، هى إلى الطقس السنوى أقرب، كلما اقترب ذلك الشهر المبارك: ربيع أول، شهر ميلاد الحبيب.
ما أن ينتصف شهر صفر، إذ يهل طيف عزيز من الذكريات، يرتبط جانب منها بمشاهدات لا تغادر مخيلتى، حيث نشأت فى مدينتى التى تتوسد القوس الأخير فى الدلتا.

جانب آخر يطن فى أذنى، ثم يتردد صداها مجتاحاً كل ذرة فى كيانى، إنها تلك المقولات التى كان يبثها إلىّ أبى بدأب لا يفتر حماسه أبدا.

قبل نحو ستة عقود مضت، حين بدأت رحلتى مع صوم رمضان، كان لاستقبالى للمولد النبوى الشريف مذاق مختلف، قبل هذا الحدث الفاصل فى حياتى، كان يسعدنى حصان الحلوى الذى يمتطيه فارس همام، لكن قناعتى آنذاك شهدت تحولاً جذرياً، فمن يصوم دون شك رجل غادر الطفولة، والرجال يجب ألا يلهيهم «الحصان الحلاوة»، ولو تغير لونه من الأحمر إلى الأبيض الوقور!

عندما استشعر أبى ـ رحمه الله ـ هذه الانعطافة، اغتنم اللحظة ليبدأ معى مشواراً تواصل لأعوام، أظنها طالت حتى رحيله، عزف أبى على وتر لاقى هوى فى نفسى، كان جوهر معزوفته أن الاحتفال بمولد رسولنا العظيم  صلى الله عليه وآله وسلم يجب ألا يقتصر على يوم واحد فى العام، حتى وإن سبقه أو لحقه بضعة أيام، فلا يشفي غليل الظمآن أن يحتسى من كأس المحبوب حفنة أيام فحسب، فالصحيح أن تكون الحفاوة بالنبي الكريم كل أيام العام على مدى العمر.
وتلك حكاية جديرة بأن تحكى، بعد أن أعرض بعض ما كان من أجواء تواكب المناسبة فى أيام الزمن الجميل.

قبل أن تسطع أنوار ربيع أول بأسبوعين أو ثلاثة كانت ثمة مشاهد تشى بالاستعداد لاستقبال مناسبة عظيمة القدر لعظيم الشأن الذى اصطفاه الخالق على كل عباده.

مآذن وقباب مساجد المدينة ومحيطها، وواجهات مبانٍ كثيرة وأسطحها، تتزين بحُلل من نور، فى عقود متعددة الألوان، وأن غلب عليها الأخضر بدرجاته، منها ما ضوؤه ثابت، وآخر تضوي أحياناً، ثم ما تلبث أن تنطفئ، لتعود أكثر بريقاً.

صوانات تقام لعرض جميع أنواع الحلوى بطرق بديعة التنسيق، وكأن يد فنان محترف تعمد لإخراج لوحات فنية رائعة!

برامج حافلة تطلقها الثقافة الجماهيرية، ومركز شباب المدينة، وهيئات عدة، تمتزج فيها العروض المسرحية القصيرة، وسهرات يضيئها من يرتل القرآن ترتيلاً، أو يبتهل بذكر الحبيب، وبينهم بعض المشاهير القادمين من القاهرة، ومسابقات تنظمها جهات شتى، وغالباً ما تكون الجوائز كتباً قيمة، ومبالغ مالية رمزية، مع توسيع قائمة الفائزين.

إنها بعض ملامح مظاهرة حب ممتدة فى الزمان والمكان، احتفاء بأكمل وأجمل من مست قدماه الثرى.

فى حضرة النبى دائمًا

الخميس 22 صفر:

من مشاهدات مطبوعة بذاكرتى، إلى مقولات مسطورة فى حنايا صدرى، أراوح بين هذه وتلك على أعتاب الاحتفال بمولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

لا أنسى حين لمح أبى ـ فى هذا اليوم البعيد ـ غياب حماسى لـ «الحصان الحلاوة»، ارتسمت على شفتيه ابتسامة حانية، وغمرت قسمات وجهه سعادة غامرة، وما لبث أن قال:

ـ سوف أدلك على ما يجعل الفرحة لا تغادرك، احتفل اليوم بالمولد كما يحتفل أقرانك ممن فى مثل عمرك، وبعد سأشير عليك بما يجعلك فى حضرة النبى كل يوم من أيام العام.

قال لى أبى، وكان دائماً ما يجاملنى بأننى أسبق سنى:

ـ إذا كان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا وأسوتنا الحسنة فى كل تصرف وسلوك، وإذا استحضرنا ما تترجمه حياته من فضائل فى حياتنا، نكون قد استطعنا أن نهدى إليه حبنا العميق، العامرة به قلوبنا، فى كل عمل نقوم به.

صمت برهة ليرى أثر كلماته، ثم استطرد:

ـ فى مسيرته العظيمة عليه الصلاة والسلام، إذ تأملتها ووعيتها، سوف يمكنك أن تحاكيها قولاً وفعلاً.

حاولت أن أفهم ما يرمى إليه أبى من معانٍ ومقاصد، على قدر إدراكي آنذاك، ثم ومع مرور الأعوام زدت فهماً ووعياً بما قاله أبى، ومن ناحيته كان يتابع أثر ما قاله، مضيفاً إليه ما يرشد به خطاى. فمثلاً استشعر منى غضباً نحو صديق أو جار لأنه أساء التصرف، فإذا به يذكرنى بموقف الحبيب عند دخوله مكة منتصراً، وإلى أى مدى كان متسامحاً مع من آذوه أشد الإيذاء.. فأستحي وأصفح.

من دستور المصطفى

ليلة الرؤية:

..وتتدفق الذكريات، وكأنها شريط سينمائى، وما أسطره ليس سوى مجرد أمثلة.

ذات يوم ـ ولم أكن قد بلغت العاشرة ـ لاحظ أبى ابتسامة عفوية لمشهد أطفال يربطون قطة من ذيلها، ويجبرونها على ملاحقتهم هرولة، فذكر لى ما أشار إليه رسولنا الرحيم  صلى الله عليه وآله وسلم عن المرأة التى حبست هرة حتى ماتت فدخلت النار، بينما رجل سقى كلباً فغفر الله له. أدركت ما يرمى إليه أبى، فقمت من فورى ناصحاً أصحاب القطة حتى أطلقوها، وكان درسا فى الرحمة. وحين عدت ذكر لى أبى حديثا شريفا عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: «اتقوا الله فى هذه البهائم المعجمة .... ».

وعندما رصد غياب صديق قريب منى، وكنت حينها فى المرحلة الثانوية، سألنى عنه، فأبلغته أن بيننا خصاماً، فذكرنى بأروع نموذج للصداقة، وما كان بين النبى وأبى بكر، وأنه عليه الصلاة والسلام ضرب لنا بها مثلا يحتذى، فبادرت بالاتصال بصديقى، ومضيت على هذا المنوال حتى اليوم.

هكذا كان أبى يوالينى بالتوجيه والإرشاد إلى الكيفية التى يكون الرسول الكريم قدوتى، وأن أحتفى عمليا بسيرته العطرة، باقتفاء آثارها فى كل يوم، وألا أنتظر من عام لآخر للاحتفال بيوم مولده، ثم تمضى الحياة لتلهي المرء عن نهجه الشريف.

ما أروعها من أعمال حين تكون نابعة من الدستور الذى رسمه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

السعى لإرضاء المحبوب

غرة ربيع أول:

..ويمضى قطار العمر، متسارعا حينا، متباطئا حينا، ولكن فى جميع محطاته لم ينسدل ستار النسيان قط على ما كان أبى حريصا على أن يكون الجزء الأصيل من منظومة القيم الأخلاقية التى أتحلى بها، مستمدة من سمات وآداب وخصال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

لم تكن السطور السابقة مما حفظته الذاكرة إلا أمثلة ونماذج فقط مما كان أبى حريصا على أن أتشربه وأعيه، ثم أتمثله وأحاكيه.

كان منهجا تربويا حكيما، إذ يستدعى من السيرة الشريفة ما يلائم الموقف الذى أكون بصدده، صمتا وحديثا، عبادة ومعاشا،....، .....، فالاقتداء يقتضى ألا يغيب للحظة المعنى الذى أشار إليه المولى عز وجل حين قال: «لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة».

بل لقد كان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى لمفهوم القدوة حتى قبل بعثته، وكان أبى لا يفوته أن يذكر لى أمثلة من ميزاته الكريمة قبل أن ينطلق بدعوته. كان ما يرمى إليه أبى بهذا الحديث التأكيد على أنه أهل لأن يكون قدوة فى كل حين، سواء أكان قد بُعث، أم لم يهبط عليه الوحى بالرسالة.

..ومع تقدم العمر، ومرور الأعوام والعقود، وما قرأته خلالها من كتب السيرة، وما حفلت به شهادات المنصفين من مفكرى الغرب، كان اعتزازى بأن يكون الرسول الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم قدوتى، يزداد رسوخا فى عقلى وقلبى بذات الدرجة.

وأيا كانت القيمة التى أسعى لأن أتمثلها، كانت سيرته الثرية المعنى الذى لا ينضب أبدا، لكل القيم: الرحمة، الحياء، العدل، التسامح، الأمانة، الوفاء، البر، التواضع،...، ...، ...، والأمر دون أدنى شك أكثر اتساعا وعمقا، ويستعصى على الحصر، ولو أنفق المرء عمره لبلغ أقصى مداه!

ولأن من يحب حقا يسعى دوما لإرضاء المحبوب، فإنه عليه الصلاة والسلام يعتلى فى مقامه جميع من نحب، فإن التعبير الصادق عن ذلك، لا يتأكد إلا باحتفاء المرء به كقدوة وأسوة حسنة فى كل ساعة من يومه، إنها الحفاوة الواجبة طوال العام، لا يوماً واحداً من أيامه.

لا يبقى إلا أن أؤكد المؤكد بالضرورة، فرسولنا الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم فى مقام التأسى قولا لا تثنية بعده: ليس سوى القدوة الملهمة بكسر الهاء وفتحها بذات القوة والتأثير، قد اجتمعت فيه خصال، وسمات، لم تجتمع لإنسان غيره قط، منذ خلق آدم وحتى قيام الساعة. ومن ثم فإن الاقتداء به يجعلك، وكأنك قد خلقت من جديد، وامتلكت سبل الفلاح فى الدنيا، والفوز بالآخرة.
  

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة