صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


منى عبد الكريم : مهاب عبد الغفار واكتشاف الذات فى «أرض البشر»

أخبار الأدب

الأحد، 24 سبتمبر 2023 - 03:23 م

«تعلمنا الأرض عن أنفسنا أكثر مما تعلمنا الكتب جميعا، ذلك أنها تقاومنا. فالإنسان يكتشف نفسه عندما يحتك بالعقبات، لكنه يحتاج إلى أداة كى يبلغها، يحتاج إلى مسحاة أو محراث، ف الفلاح عندما يحرث الأرض ينتزع شيئا فشيئا بعضًا من أسرار الطبيعة.. والحقيقة التى يستخرجها هى حقيقة كونية، هكذا الطائرة أداة الخطوط الجوية، تمزج الإنسان بجميع المعضلات القديمة».

هكذا بدأ أنطوان دو سانت إكزوبرى سرديته «أرض البشر»، واختار الفنان مهاب عبد الغفار هذا المقتطف ليتسهل كلمته المصاحبة لمعرضه الذى حمل نفس العنوان والذى اختاره الفنان- كما ذكر- اقتداء بالرواية، إذ تبحث الرواية وكذلك المعرض فى علاقة الإنسان بالأرض وكذلك المكان، ثمة أشياء ومفاهيم عديدة يطرحها المعرض الذى استضافته قاعة الباب، ومنها علاقة النص السردى بالبصرى، ولحظة تحول الصورة إلى دفقات مقروءة، وتفسير تلك المفردات المتداخلة، ولحظات اختزال الأشياء.. وغيرها من الأفكار التى ترجمها الفنان مهاب عبد الغفار من خلال أعمال معرضه «أرض البشر».. فأرض البشر التى سافرت إليها بمشاهدتى للوحاته كانت محملة بالحكايات والأساطير والرموز، تحمل كل لوحة تجربة سردية بصرية مكثفة، علاقات إنسانية واضحة وأخرى مبهمة ومتداخلة، مسطحات محتشدة وفراغات تدعو للتأمل  وتلاحم بين الأبطال والكائنات الحية، حالة من الثراء اللونى وكذلك ثراء المسطح بملامس، فكنت كلما اقتربت رأيت وكلما ابتعدت رأيت أكثر.

اقرأ ايضاً| حوار: أسامة فاروق :كمال الرياحى: المشاركة فى مهرجان تورنتو تمكين للأدب العربى من فضاءات جديدة

ويتحدث الفنان مهاب عبد الغفار عن استلهامه نص إكزوبرى فى معرضه قائلا: «ذلك النص الذى يدفعنا إلى تأمل علاقتنا بالأماكن، ليس من خلال حدودها، وإنما من خلال ما تصنعه الأرض فى الإنسان، إن حدود المعرفة والإدراك هنا فى نص إكزوبرى تكون حدوداً مطلقة، حدوداً كونية، ذلك أنها تطرح ذلك التبادل والجدل بين الإنسان والأرض، إن تلك المعرفة التى أنجزت فى نص إكزوبرى لم تكن من منظار الراصد أو المنصت فقط، ولكن من مكان الاندماج العميق بين الكينونة البشرية والمكان، إن الرحلة التى تربط أعمالى بنص إكزوبرى هى حضور الحالة البصرية فى نصه بشكل غاية فى البراءة والنصوع، فقد وجدت ذلك النقاء الكامل فى صيرورة النص، حيث تستحضر الأرض بما فيها وما عليها مشمولة بالنص السردى لحياة البشر، فتحمل هنا الصورة طاقة أخرى يتملكها النص نفسه، فتتحول الصورة إلى دفقات مقروءة، بينما هى فى نفس الوقت دفقات من الحركة والفعل والزمن».

وإذا كان إكزوبرى قد مزج فى روايته بين السرد الروائى والسيرة الذاتية، فإن الفن بالنسبة لعبد الغفار هو ذاك المكان الذى ينجز به ذاته، فتجمع اللوحة بين ذاته وبين مشاهداته، فى أعماله الفنية حالة من الحرية ومن اكتشاف الذات، وفهم شامل للكون والاتصال به إذ يمكننا فهم جانب  من فلسفته فى الفن والحياة حين نتأمل ما كتبه حيث يقول: «تتداخل العناصر المكونة للكتابة وبالتالى للحالة البصرية، لتصنع لحظة تختزل فيها الأشياء، لتصلنا بتصوراتنا واستحضار صيغتنا البصرية ليس فقط من خلال الوصف الدقيق لاستحضار المكان، لكنها تأتى بشيء يخص الإنسان وعلاقته بمادة الحياة، فتتحول تلك التركيبة إلى نطاق بصرى كأنه استحضار الكون، الذى نعلم بوجوده، لكننا لا نعرفه حقاً.. إنه يضعنا على أبواب ذاكرة العقل وربما يتعداها لخلق ذاكرةٍ أخرى، هى ذاكرة بصرية يحاول العقل صياغتها وتوفيقها ليستحضر جسداً لفكرة.. ربما أو ليستحضر مغامرة بصرية، خلف أرض المعرفة».

ومهاب عبد الغفار ارتبط فى رحلته الفنية بالأرض وبالتاريخ لاسيما المصرى القديم، ليس ارتباطاً يقوم على النقل المباشر أو التقليد وإنما هو فهم عميق وتشبع بالفلسفة الفكرية والفنون البصرية للمصرى القديم فى رحلة ممتدة تراكمت فيها الخبرات وظهرت مكثفة فى لوحاته المحملة بالمضامين، إذ يقول د. وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية :  «يعتمد الفنان فى أعماله على لغة تصويرية تتسم بالطابع التجريدى، وعلى البناء التشكيلى المرتكن فى جانب منه على المعادلة اللونية القادرة على خلق حوارٍ بصرى، يُمكنِّ مخيلة المتلقى من فهم مضامين والوصول إلى مقاصده وأفكاره.. مضيفاً فى معرضه «أرض البشر» يبحث الفنان مهاب عبد الغفار فى رحلة فنية ملونة فى ميراث الحضارة المصرية القديمة بثرائها وتنوعها عن محطات التحول والتغيرات، التى أثرت فى الفنان المصرى أو الفن المصرى بشكل عام.. يدعو المشاهد إلى التمعن معه فى البحث والتحاور وجدانيا حول الموضوعات والرؤى التى يطرحها بطريقة حداثية معاصرة، تحمل خصوصية مرتبطة بطريقة وأسلوب الفنان، وتعكس كذلك خبرات تجربته الإبداعية الخاصة».

رحلة ممتعة اصطحبنى فيها الفنان مهاب عبد الغفار، ليس فقط بمشاهدة أعمال المعرض الفنية الثرية، ولكن بتلك المسارات البديلة التى فتحها أمامى بما وراء المشهد البصرى والإحالة لعمل إبداعى آخر.. فحالة التماهى والانتقال من عمل إبداعى لآخر قادر على خلق شبكة من الأفكار المثمرة التى تولد إبداعاً جديداً وتخاطب وعينا، فإنه بقدر ما استمتع مهاب عبد الغفار بقراءة «أرض البشر» التى استلهم منها معرضه، فإن ثمة دراسة بديعة للناقد د.مصطفى عيسى والمنشورة بكتيب المعرض تحت عنوان «خارطة للوعى بالأشياء.. قراءة فى تجربة مهاب عبد الغفار».  

تدعوك لقراءتها أكثر من مرة،  يمكن من خلالها الغوص فى تجربة الفنان مهاب عبد الغفار والتى تكشف أمامك الكثير من العلاقات المتداخلة والمفردات فى المسطح التشكيلى لمهاب عبد الغفار، والتى – بالإضافة إلى ذلك- تكشف عن تلك الخيوط المتشابكة لحالة التأثير والتأثر فى العملية الإبداعية.. إذ يشير عيسى فى دراسته لعلاقة السرد البصرى والنثرى لتجربتى أكزوبرى وعبد الغفار لنراه يقول: «أتوقف هنا عن حالة اغتراب طيار وجدت قبولاً لدى مصور، ليبقى بظنى أن ما يدعم علاقة الكاتب بالرسام هى تلك الروح المُختبئة فى تضاريس الحياة، ومن حيث ينبش كل منهما فيها ويكون مُرغماً على إعادة بناء تلك التفاصيل وفق رغبته، وما تأتى به تخيلاته من نزق أو حكم لا تفارقه سوى لبعض وقت غير منسوخ».

يتناول عيسى تجربة الفنان عبد الغفار فى مجملها ليمكنك استيعاب تفاصيل الرحلة والتعرف على مرجعية المشهد البصرى فى تجربة عبد الغفار.. حيث يذكر د. عيسى: «واقع الحال أن هذا الفنان يطيل النظر إلى مفرداته، يتحسسها عن قرب، ليتصل بها قبل أن يودعها أحد أسراره، وهى كثيرة. ضمناً، نرى أن مادة الأنثى بقيت بحوذته مثل شيء عالق بحياته، لم يرغب بعد فى التخلص منه، فلا يفتأ يهاتفها عبر خطاب مختلف فى أبجديته. بيد أنها أنثى لا تنفرد بوجود مارق كونها تتذرع بخلق علاقة مع نصف الحياة، وما يتمثل فى ذكر، ماكرٍ، ومُستسلمٍ للحزن.

أعنى هنا الفرق بين الجندر والجنس، إذ يُرد إلى الثانى ما نتفهمه فى أهمية الجسد، باعتباره باباً ونافذة ومساحة لافتراش الذكريات. وعلى طريقته يرغب مهاب عبد الغفار فى حوارٍ يجمع الأجساد بالحيرة والتوتر، وبكم من الأسئلة التى بوسعها استقطاب مفرداتٍ لا تمتثل له سوى فى الحياة والحلم. ففى الحيز نقع على قوارب، وطيور، وبقايا علامات من حضارات ولت، ودائماً تهيم فى مادة سائلة عنوانها لونى الأحمر والأزرق وربما الأبيض الذى يقارب فى لغته إحساس فنانى شرق آسيا. الوجه موطن التعبيرات الحية الملاصقة للحياة، وهو ماكر ومُقنَّع تماماً مثل براءته التى تذوب فى لحظة صفاء. يدرك مهاب تلك الحيل جيداً، كونه أحد الوجوه العابرة فى الحياة، فيما يفكر فى كيفية صياغة تعبيرات تبرر اختلاج وجدانه، أو وقوع عقله فى فراغ كثيف.» 

جدير بالذكر أن الفنان مهاب عبد الغفار، فنان تشكيلى مصرى كندى من مواليد الإسكندرية 1959، بدأ رحلته الفنية مفكراً ومنشغلاً بالفنون البصرية فى فترة مبكرة من حياته منذ سن السادسة عشرة، وقد تخرج فى ‬جامعة الإسكندرية‮ كلية الفنون الجميلة قسم الحفر عام ٣٨٩١، وله عدد من المعارض الفردية داخل مصر وخارجها نذكر من بينها: معرض «رحيل» ومعرض «مشروط بالرحيق»، وكذلك شارك فى العديد من المعارض الجماعية، كما صمم ديكورات بعض المسرحيات ومنها: «اللاعبون»، و«الملقن»و«ليلة من ألف ليلة».

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة