خالد محمود
خالد محمود يكتب: السينما البوسنية تغزو العالم وتحكم فى «القاهرة» و«الجونة»
الثلاثاء، 26 سبتمبر 2023 - 02:21 م
استطاعت السينما البوسنية أن تحتل مكانة متميزة على الساحة العالمية فى العقد الأخير، وأبهرت الجميع بفنياتها وأفكارها، مما جعلها تقف على منصة التتويج وتحصد أرفع الجوائز وفى مقدمتها الأوسكار وجولدن جلوب، وهو ما جعلها تغزو المهرجانات الكبرى التى تسعى وراء أفلامها للعرض على شاشتها، وتتباهى بذلك.
وفى واقعة غير مرتبة، يستعين هذا العام كل من مهرجانى القاهرة السينمائى والجونة السينمائى، باثنين من المخرجين البوسنيين لرئاسة لجنة تحكيم المسابقة الدولية لكل منهما.. توافق الطرفان يعد مؤشر كبير لقيمة صناعة السينما فى بلد عانى كثيرا من ويلات الحروب وانقسامات فى الهوية، لكن يبدو أن إرادة السينمائيين بها استطاعت أن تنجح فى تجاوز تلك المحن بثورة إبداعية مغلفة دائما بطموح الإنسانية والإعلاء من شأنها.
اختار مهرجان القاهرة السينمائى المخرج البوسني الكبير دانيس تانوفيتش “٤٥عاما “ لرئاسة لجنة تحكيم دورته ال٤٥ ، والذى يعد واحدًا من أهم المخرجين وكتاب السيناريو في منطقة شرق أوروبا بل وفي العالم أجمع.
ولا ننسى فيلمه “الأرض المحايدة”، أبهر الجميع ليتوج بالعديد من الجوائز، ومنها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، إضافة إلى جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 2001. ويصور العمل عبثية الحرب بلغة سينمائية قوية، مثيرة للقلق ببراعة، حيث تدور أحداثه في أثناء الحرب الأهلية التي قامت في تسعينيات القرن العشرين، على الحدود البوسنية – الصربية، حينما يقع جنديان في الحصار بالأرض المحايدة الوسطية التي لاتنتمى لأي طرف، ويحاولان الاتصال بقوات حفظ السلام الدولية المتواجدة في المنطقة لإنقاذ أنفسهم.
فى تفاصيل الأحداث تضيع دورية إغاثة بوسنية ليلاً، وفي الفجر يتم رصدهم في حقل مفتوح، حيث يتم إطلاق النار عليهم. يرسل القائد الصربي رقيبًا ومجندًا جديدًا، يدعى نينو إلى الخنادق بحثًا عن أي شخص على قيد الحياة، يحاصر الرقيب بوسنيًا ميتًا بلغم أرضي، وتحته آخر حى، ويظل الوضع متوتراً حيث أن الجنود الثلاثة محاصرون في “المنطقة الحرام” في خندق بين الجيشين المتعارضين.
فريق الدبابات التابع للأمم المتحدة، الموجود في المنطقة لتوزيع المساعدات الإنسانية وقوات حفظ السلام، تحت قيادة الرقيب الفرنسي مارشاند، يستجيب لنداء المساعدة ويطلب من الجانبين الموافقة على وقف إطلاق النار أثناء دخولهم إلى الخندق لفحص الجندي الذي كان يرقد فوق العبوة الناسفة. في الصورة تأتي وسائل الإعلام، حيث تراقب مراسلة الأخبار التلفزيونية البريطانية العدوانية جين ليفينجستون ترددات راديو الأمم المتحدة وتبلغ عن الوضع المتوتر على الهواء. لقد تم تصويرها كمراسلة راعية مهتمة فقط بالحصول على القصة وصنع سمعة طيبة لنفسها.
الفيلم المثير يعرض بشكل واقعي الأجواء المتفجرة المحيطة بهذه الحرب العرقية القذرة، ويعود نجاحه بالأساس إلى السيناريو المحكم والتمثيل الجيد والإخراج المؤثر، إنه يسخر من جهود الأمم المتحدة التي يبذلها كبار قادتها، حيث يحاولون في الأساس تغطية أنفسهم ، كما أن هناك نقصًا في التواصل حيث يبدو أن جميع المشاركين في النزاع يتحدثون لغة مختلفة. كل ما يتعلق بالحرب يبدو عقيمًا ويشير إلى انهيار سياسي، حيث أصبحت الجيوش بيادق في يد الأطراف المتصلبة التي تشن هذه الكارثة.
يدين تانوفيتش ببراعة الأعمال العدائية الراسخة بين الشعوب والأمم، وبذكاء يقدم صورة مقنعة عن كيفية تصاعد الصراعات الصغيرة إلى حرب شاملة، فالأمر هنا لايتعلق بساحات القتال والأسلحة بقدر ما يتعلق بالصراعات الشخصية والإحباط المؤلم الذي يفور داخل الأشخاص الذين يريدون إحداث تغييرات إيجابية، لكنهم متورطون في الروتين لدرجة أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء.
إلى جانب ذلك، فقد أخرج تانوفيتش أفلامًا مثل “فصل من حياة جامع نحاس” و”موت في ساراييفو” الذي فاز بجائزة الدب الفضي – جائزة لجنة التحكيم في مهرجان برلين عام 2016، وهو المخرج الوحيد القادم من البوسنة والهرسك الذي يفوز بجائزة الأوسكار.
فيما اختار مهرجان الجونة السينمائى المخرجة البوسنية ياسميلا جبانيتش “ ٤٨ عاما “ لرئاسة لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة خلال دورته السادسة، ولن أنسى فيلمها الرائع “إلى أين تذهبين يا عايدة” الذي نافس على “الأسد الذهبي” في مهرجان فينيسيا السينمائي 2020، وعلى “أوسكار” و”بافتا”، كما أنه فاز بجائزة “نجمة الجونة الذهبية” في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وهو يعيد مهمة السينما فى بناء ذاكرتنا لفهم جديد للتاريخ ويلملم أفكارك المتناثرة، بل ويكشف ضعف الأمم المتحدة.
قدمت المخرجة ياسمبلا زابانيتش فى فيلمها المرهف بقسوته ويستند إلى قصة حقيقية الجانب الإنساني واللاإنسانى من الإبادة الجماعية البوسنية في منتصف التسعينيات، وبالتحديد فى يوليو 1995 و لم يخلو من اللحظات المؤثرة والوحشية على حد سواء خاصة فى تلك المشاهد المتعلقة بقصة القتل الجماعى والعدالة المفقودة لضحاياها، فى حضور صورة شديدة الواقعية وأداء قوى للغاية.
الرؤية الأكثر تأثيرا فى الفيلم هو أن الجميع بما فيهم الضحايا ومن يرعاهم من قوات الأمم المتحدة يقفون متفرجين أمام مشهد الإبادة ومعاناة بطلتنا التى تواجه الموقف وحدها بالرغم من تفاقم الوضع والأزمة الإنسانية التي علت وتيرتها عالميا.
بطلة قصتنا هى عايدة “ ياسنا ديوريسيتش “ معلمة سابقة تعمل مترجمة لدى الأمم المتحدة تبذل كل ما بوسعها لإنقاذ وحماية أسرتها المكونة من زوج وابنين، والتي كانت جزءًا من الآلاف الذين نزحوا بسبب الحرب يبحثون عن مأوى فى معسكر الأمم المتحدة بعد أن احتل الجيش الصربى بلدتها الصغيرة سربينيتشا وسيطر عليها، وكم كانت تجري ذهابًا وإيابًا لتترجم ما يحدث من تعليمات ومستجدات وهى تواجه بيروقراطية محبطة و معركة خاسرة ضد القوات الصربية التي تغزو بلدها.
تعطينا ياسميلا عبر طرحها الماهر قصة خام بقدر ما هي مؤلمة للغاية وعرفت طريقها إلى الجمهور بوعى ودون أى خطاب مباشر باستثناء عدة جمل حوارية فرضت نفسها كلما اقتربنا من النهاية.
إذن نحن أمام فصل مهم آخر من التاريخ لسلسلة من الأحداث التى عاشها وذهب ضحيتها مجموعة من البشر، رغم محاولات الإنقاذ التى تعددت مواقفها بشكل مؤثر على الشاشة، نحن أمام قصة شعب، والعديد من الشعوب أجبرت على تحمل ثقل الحرب الملعونة على أكتافها وأجبرت بكل الطرق على كره بعضها البعض على الرغم من ماضي الحياة المشتركة.. الفيلم اتهام قوي للأمم المتحدة نفسها.
ففى منتصف الطريق تحاول عايدة بكل الطرق إنقاذ عائلتها وإشراكهم كمتعاونين في مسار المفاوضات مع الصرب.. لكن ما هي المخاطر الحقيقية التي يجب خوضها؟ ماذا سيكون الثمن الذي يجب دفعه؟، فهى ممزقة بين واجباتها كمترجمة ومحاولات مختلفة لإنقاذ أحبائها، تركض عايدة يسارًا ويمينًا فى صورة لاهثة لمساعدة أولئك الذين يحتاجون بدورهم إلى الدعم.
عايدة هنا لا تهدأ أبدا ومعها تركزت الكاميرا بالكامل، فهى تحمل الفيلم بأكمله تقريبًا على كتفيها، وقد تبنت المخرجة سياسة تثبيت الكاميرا على عايدة فى أغلب المشاهد نتحرك معها، نتبعها في الأماكن والأفكار، نفهم ما تحاول فعله، نحارب الوقت ضد عدو لا يتردد فى القسوة، وجيش وقائي بدون أوامر أو سيطرة، والأحداث تتحرك من حولها والتى أجبرت المشاهد على الدخول فى القصة، ولا ينبغي نسيانها بفضل أدائها الحيوى والقوى، والذى جعل المشاهد جزء من الحكاية، فالحديث هنا عن أول إبادة جماعية على الأراضي الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، عن جرح مفتوح على وجه البوسنة جراء الفظائع التي ارتكبها الصرب ومفاجأة عدم جدوى الحماية الدولية التى بديهيا أن تكون مضمونة، عايدة هنا هي مرشدنا لخط الاتهام للأمم المتحدة وهو ما يجعل الفيلم أكثر من كونه حالة سينمائية، حيث يظهر بوضوح كيف فشلت المنظمة الدولية التى تركت سكان سريبرينيتشا يواجهون مصيرهم فى مواجهة المذبحة التى يجب ألا يبقوا أسرى لأنقاضها.
ونجحت المخرجة بأسلوبها الذى يشبه الشلال فى التعامل مع المشكلة بنظرة واضحة وناضجة، من ناحية أخرى لم تتردد في الانغماس في المشاعر من وقت لآخر، وينتهي بها الأمر حتمًا إلى صنع الحقيقة.
وكما أن هناك لقطات كالكابوس، هناك لحظات تشبه الحلم، حيث تستعيد عايدة حفلة رقص وكأنها تتذكر الحياة ولا تتردد الكاميرا بالحركة البطيئة في التركيز بشكل مفرط على وجوه كل شخصية على حدة، ثم تنقلنا الى الألم الذي ينفجر في النهاية، بصورهم وهم جثث وقد تحولت إلى أكوام من العظام، وتطوف عايدة حولها لتتعرف على أهلها فى مشهد عظيم الأداء، وهنا تبرز قيمة العاطفة التى لعبت دورا مهما فى كراهية الجمهور للحظة والخوف للعودة من جديد، وهو أحد أسرار نجاح الفيلم الذى تفوق فى نواياه، إنه حقا عمل شجاع وكامل، عمل ساحر بشكل يروي قصة قوية ومهمة.
فى تاريخ جبانيتش إنجازها الكبير فى باكورة أعمالها الروائية الطويلة “جربافيكا” الذي نال جائزة “الدبّ الذهبي” في مهرجان برلين 2006، علماً أنه ترشّح أيضاً لجائزة أفضل فيلم ضمن جوائز الفيلم الأوروبي.
واصلت جبانيتش مسيرتها الناجحة مع “على درب الهداية” الذي شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان برلين 2010، وفيلمها الثالث “إلى أولئك الذين لا يبوحون بالحكايات” الذى عُرض لأول مرة في مهرجان تورونتو قبل أن يشق طريقه إلى مهرجان هونغ كونغ.
طوال مسيرتها، أظهرت جبانيتش تفردها السينمائي من خلال الأفلام الوثائقية والقصيرة التي حصدت الثناء والجوائز في مهرجانات بارزة حول العالم، عبر التزامها القصص الإنسانية الهامة، لاقت أفلامها الصدى المطلوب عند المشاهدين والنقّاد.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة