خالد محمود
خالد محمود


خالد محمود يكتب: السينما البوسنية تغزو العالم وتحكم فى «القاهرة» و«الجونة»

أخبار النجوم

الثلاثاء، 26 سبتمبر 2023 - 02:21 م

‭ ‬استطاعت‭ ‬السينما‭ ‬البوسنية‭ ‬أن‭ ‬تحتل‭ ‬مكانة‭ ‬متميزة‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية‭ ‬فى‭ ‬العقد‭ ‬الأخير،‭ ‬وأبهرت‭ ‬الجميع‭ ‬بفنياتها‭ ‬وأفكارها،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬منصة‭ ‬التتويج‭ ‬وتحصد‭ ‬أرفع‭ ‬الجوائز‭ ‬وفى‭ ‬مقدمتها‭ ‬الأوسكار‭ ‬وجولدن‭ ‬جلوب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تغزو‭ ‬المهرجانات‭ ‬الكبرى‭ ‬التى‭ ‬تسعى‭ ‬وراء‭ ‬أفلامها‭ ‬للعرض‭ ‬على‭ ‬شاشتها،‭ ‬وتتباهى‭ ‬بذلك‭.‬

وفى‭ ‬واقعة‭ ‬غير‭ ‬مرتبة،‭ ‬يستعين‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مهرجانى‭ ‬القاهرة‭ ‬السينمائى‭ ‬والجونة‭ ‬السينمائى،‭ ‬باثنين‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬البوسنيين‭ ‬لرئاسة‭ ‬لجنة‭ ‬تحكيم‭ ‬المسابقة‭ ‬الدولية‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭.. ‬توافق‭ ‬الطرفان‭ ‬يعد‭ ‬مؤشر‭ ‬كبير‭ ‬لقيمة‭ ‬صناعة‭ ‬السينما‭ ‬فى‭ ‬بلد‭ ‬عانى‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬الحروب‭ ‬وانقسامات‭ ‬فى‭ ‬الهوية،‭ ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬إرادة‭ ‬السينمائيين‭ ‬بها‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬فى‭ ‬تجاوز‭ ‬تلك‭ ‬المحن‭ ‬بثورة‭ ‬إبداعية‭ ‬مغلفة‭ ‬دائما‭ ‬بطموح‭ ‬الإنسانية‭ ‬والإعلاء‭ ‬من‭ ‬شأنها‭.‬

اختار‭ ‬مهرجان‭ ‬القاهرة‭ ‬السينمائى‭ ‬المخرج‭ ‬البوسني‭ ‬الكبير‭ ‬دانيس‭ ‬تانوفيتش‭ ‬“‮٤٥‬عاما‭ ‬“‭ ‬لرئاسة‭ ‬لجنة‭ ‬تحكيم‭ ‬دورته‭ ‬ال‮٤٥‬‭ ‬،‭ ‬والذى‭ ‬يعد‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المخرجين‭ ‬وكتاب‭ ‬السيناريو‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬شرق‭ ‬أوروبا‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭ ‬أجمع‭. ‬

ولا‭ ‬ننسى‭ ‬فيلمه‭ ‬“الأرض‭ ‬المحايدة”،‭ ‬أبهر‭ ‬الجميع‭ ‬ليتوج‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز،‭ ‬ومنها‭ ‬جائزة‭ ‬الأوسكار‭ ‬لأفضل‭ ‬فيلم‭ ‬غير‭ ‬ناطق‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬جائزة‭ ‬أفضل‭ ‬سيناريو‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬كان‭ ‬عام‭ ‬2001‭. ‬ويصور‭ ‬العمل‭ ‬عبثية‭ ‬الحرب‭ ‬بلغة‭ ‬سينمائية‭ ‬قوية،‭ ‬مثيرة‭ ‬للقلق‭ ‬ببراعة،‭ ‬حيث‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬البوسنية‭ ‬–‭ ‬الصربية،‭ ‬حينما‭ ‬يقع‭ ‬جنديان‭ ‬في‭ ‬الحصار‭ ‬بالأرض‭ ‬المحايدة‭ ‬الوسطية‭ ‬التي‭ ‬لاتنتمى‭ ‬لأي‭ ‬طرف،‭ ‬ويحاولان‭ ‬الاتصال‭ ‬بقوات‭ ‬حفظ‭ ‬السلام‭ ‬الدولية‭ ‬المتواجدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬أنفسهم‭.‬

فى‭ ‬تفاصيل‭ ‬الأحداث‭ ‬تضيع‭ ‬دورية‭ ‬إغاثة‭ ‬بوسنية‭ ‬ليلاً،‭ ‬وفي‭ ‬الفجر‭ ‬يتم‭ ‬رصدهم‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬مفتوح،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬عليهم‭. ‬يرسل‭ ‬القائد‭ ‬الصربي‭ ‬رقيبًا‭ ‬ومجندًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬يدعى‭ ‬نينو‭ ‬إلى‭ ‬الخنادق‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬يحاصر‭ ‬الرقيب‭ ‬بوسنيًا‭ ‬ميتًا‭ ‬بلغم‭ ‬أرضي،‭ ‬وتحته‭ ‬آخر‭ ‬حى،‭ ‬ويظل‭ ‬الوضع‭ ‬متوتراً‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬الجنود‭ ‬الثلاثة‭ ‬محاصرون‭ ‬في‭ ‬“المنطقة‭ ‬الحرام”‭ ‬في‭ ‬خندق‭ ‬بين‭ ‬الجيشين‭ ‬المتعارضين‭. ‬

فريق‭ ‬الدبابات‭ ‬التابع‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لتوزيع‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وقوات‭ ‬حفظ‭ ‬السلام،‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬الرقيب‭ ‬الفرنسي‭ ‬مارشاند،‭ ‬يستجيب‭ ‬لنداء‭ ‬المساعدة‭ ‬ويطلب‭ ‬من‭ ‬الجانبين‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬أثناء‭ ‬دخولهم‭ ‬إلى‭ ‬الخندق‭ ‬لفحص‭ ‬الجندي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرقد‭ ‬فوق‭ ‬العبوة‭ ‬الناسفة‭. ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬تأتي‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬حيث‭ ‬تراقب‭ ‬مراسلة‭ ‬الأخبار‭ ‬التلفزيونية‭ ‬البريطانية‭ ‬العدوانية‭ ‬جين‭ ‬ليفينجستون‭ ‬ترددات‭ ‬راديو‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وتبلغ‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬المتوتر‭ ‬على‭ ‬الهواء‭. ‬لقد‭ ‬تم‭ ‬تصويرها‭ ‬كمراسلة‭ ‬راعية‭ ‬مهتمة‭ ‬فقط‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬القصة‭ ‬وصنع‭ ‬سمعة‭ ‬طيبة‭ ‬لنفسها‭.‬

الفيلم‭ ‬المثير‭ ‬يعرض‭ ‬بشكل‭ ‬واقعي‭ ‬الأجواء‭ ‬المتفجرة‭ ‬المحيطة‭ ‬بهذه‭ ‬الحرب‭ ‬العرقية‭ ‬القذرة،‭ ‬ويعود‭ ‬نجاحه‭ ‬بالأساس‭ ‬إلى‭ ‬السيناريو‭ ‬المحكم‭ ‬والتمثيل‭ ‬الجيد‭ ‬والإخراج‭ ‬المؤثر،‭ ‬إنه‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬يبذلها‭ ‬كبار‭ ‬قادتها،‭ ‬حيث‭ ‬يحاولون‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬تغطية‭ ‬أنفسهم‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬نقصًا‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬حيث‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬النزاع‭ ‬يتحدثون‭ ‬لغة‭ ‬مختلفة‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحرب‭ ‬يبدو‭ ‬عقيمًا‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬سياسي،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬الجيوش‭ ‬بيادق‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الأطراف‭ ‬المتصلبة‭ ‬التي‭ ‬تشن‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭.‬

يدين‭ ‬تانوفيتش‭ ‬ببراعة‭ ‬الأعمال‭ ‬العدائية‭ ‬الراسخة‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم،‭ ‬وبذكاء‭ ‬يقدم‭ ‬صورة‭ ‬مقنعة‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬تصاعد‭ ‬الصراعات‭ ‬الصغيرة‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬شاملة،‭ ‬فالأمر‭ ‬هنا‭ ‬لايتعلق‭ ‬بساحات‭ ‬القتال‭ ‬والأسلحة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالصراعات‭ ‬الشخصية‭ ‬والإحباط‭ ‬المؤلم‭ ‬الذي‭ ‬يفور‭ ‬داخل‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يريدون‭ ‬إحداث‭ ‬تغييرات‭ ‬إيجابية،‭ ‬لكنهم‭ ‬متورطون‭ ‬في‭ ‬الروتين‭ ‬لدرجة‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬فعل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭.‬

‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬أخرج‭ ‬تانوفيتش‭ ‬أفلامًا‭ ‬مثل‭ ‬“فصل‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬جامع‭ ‬نحاس”‭ ‬و”موت‭ ‬في‭ ‬ساراييفو”‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬بجائزة‭ ‬الدب‭ ‬الفضي‭ ‬–‭ ‬جائزة‭ ‬لجنة‭ ‬التحكيم‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬برلين‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬وهو‭ ‬المخرج‭ ‬الوحيد‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬البوسنة‭ ‬والهرسك‭ ‬الذي‭ ‬يفوز‭ ‬بجائزة‭ ‬الأوسكار‭. ‬

فيما‭ ‬اختار‭ ‬مهرجان‭ ‬الجونة‭ ‬السينمائى‭ ‬المخرجة‭ ‬البوسنية‭ ‬ياسميلا‭ ‬جبانيتش‭ ‬“‭ ‬‮٤٨‬‭ ‬عاما‭ ‬“‭ ‬لرئاسة‭ ‬لجنة‭ ‬تحكيم‭ ‬مسابقة‭ ‬الأفلام‭ ‬الروائية‭ ‬الطويلة‭ ‬خلال‭ ‬دورته‭ ‬السادسة،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬فيلمها‭ ‬الرائع‭ ‬“إلى‭ ‬أين‭ ‬تذهبين‭ ‬يا‭ ‬عايدة”‭ ‬الذي‭ ‬نافس‭ ‬على‭ ‬“الأسد‭ ‬الذهبي”‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬فينيسيا‭ ‬السينمائي‭ ‬2020،‭ ‬وعلى‭ ‬“أوسكار”‭ ‬و”بافتا”،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬فاز‭ ‬بجائزة‭ ‬“نجمة‭ ‬الجونة‭ ‬الذهبية”‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬الأفلام‭ ‬الروائية‭ ‬الطويلة،‭ ‬وهو‭ ‬يعيد‭ ‬مهمة‭ ‬السينما‭ ‬فى‭ ‬بناء‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬لفهم‭ ‬جديد‭ ‬للتاريخ‭ ‬ويلملم‭ ‬أفكارك‭ ‬المتناثرة،‭ ‬بل‭ ‬ويكشف‭ ‬ضعف‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭.‬

‭ ‬قدمت‭ ‬المخرجة‭ ‬ياسمبلا‭ ‬زابانيتش‭ ‬فى‭ ‬فيلمها‭ ‬المرهف‭ ‬بقسوته‭ ‬ويستند‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭ ‬حقيقية‭ ‬الجانب‭ ‬الإنساني‭ ‬واللاإنسانى‭ ‬من‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬البوسنية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينيات،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬فى‭ ‬يوليو‭ ‬1995‭ ‬و‭ ‬لم‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬اللحظات‭ ‬المؤثرة‭ ‬والوحشية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬المشاهد‭ ‬المتعلقة‭ ‬بقصة‭ ‬القتل‭ ‬الجماعى‭ ‬والعدالة‭ ‬المفقودة‭ ‬لضحاياها،‭ ‬فى‭ ‬حضور‭ ‬صورة‭ ‬شديدة‭ ‬الواقعية‭ ‬وأداء‭ ‬قوى‭ ‬للغاية‭.‬

الرؤية‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثيرا‭ ‬فى‭ ‬الفيلم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬بما‭ ‬فيهم‭ ‬الضحايا‭ ‬ومن‭ ‬يرعاهم‭ ‬من‭ ‬قوات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬يقفون‭ ‬متفرجين‭ ‬أمام‭ ‬مشهد‭ ‬الإبادة‭ ‬ومعاناة‭ ‬بطلتنا‭ ‬التى‭ ‬تواجه‭ ‬الموقف‭ ‬وحدها‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تفاقم‭ ‬الوضع‭ ‬والأزمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬علت‭ ‬وتيرتها‭ ‬عالميا‭.‬

بطلة‭ ‬قصتنا‭ ‬هى‭ ‬عايدة‭ ‬“‭ ‬ياسنا‭ ‬ديوريسيتش‭ ‬“‭ ‬معلمة‭ ‬سابقة‭ ‬تعمل‭ ‬مترجمة‭ ‬لدى‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬تبذل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بوسعها‭ ‬لإنقاذ‭ ‬وحماية‭ ‬أسرتها‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬زوج‭ ‬وابنين،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الآلاف‭ ‬الذين‭ ‬نزحوا‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬مأوى‭ ‬فى‭ ‬معسكر‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬احتل‭ ‬الجيش‭ ‬الصربى‭ ‬بلدتها‭ ‬الصغيرة‭ ‬سربينيتشا‭ ‬وسيطر‭ ‬عليها،‭ ‬وكم‭ ‬كانت‭ ‬تجري‭ ‬ذهابًا‭ ‬وإيابًا‭ ‬لتترجم‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬تعليمات‭ ‬ومستجدات‭ ‬وهى‭ ‬تواجه‭ ‬بيروقراطية‭ ‬محبطة‭ ‬و‭ ‬معركة‭ ‬خاسرة‭ ‬ضد‭ ‬القوات‭ ‬الصربية‭ ‬التي‭ ‬تغزو‭ ‬بلدها‭.‬

تعطينا‭ ‬ياسميلا‭ ‬عبر‭ ‬طرحها‭ ‬الماهر‭ ‬قصة‭ ‬خام‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مؤلمة‭ ‬للغاية‭ ‬وعرفت‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬الجمهور‭ ‬بوعى‭ ‬ودون‭ ‬أى‭ ‬خطاب‭ ‬مباشر‭ ‬باستثناء‭ ‬عدة‭ ‬جمل‭ ‬حوارية‭ ‬فرضت‭ ‬نفسها‭ ‬كلما‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬النهاية‭.‬

إذن‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬فصل‭ ‬مهم‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬لسلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬عاشها‭ ‬وذهب‭ ‬ضحيتها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬رغم‭ ‬محاولات‭ ‬الإنقاذ‭ ‬التى‭ ‬تعددت‭ ‬مواقفها‭ ‬بشكل‭ ‬مؤثر‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬قصة‭ ‬شعب،‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬أجبرت‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬ثقل‭ ‬الحرب‭ ‬الملعونة‭ ‬على‭ ‬أكتافها‭ ‬وأجبرت‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬على‭ ‬كره‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ماضي‭ ‬الحياة‭ ‬المشتركة‭.. ‬الفيلم‭ ‬اتهام‭ ‬قوي‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬نفسها‭.‬

ففى‭ ‬منتصف‭ ‬الطريق‭ ‬تحاول‭ ‬عايدة‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬إنقاذ‭ ‬عائلتها‭ ‬وإشراكهم‭ ‬كمتعاونين‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬المفاوضات‭ ‬مع‭ ‬الصرب‭.. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬المخاطر‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬خوضها؟‭ ‬ماذا‭ ‬سيكون‭ ‬الثمن‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬دفعه؟،‭ ‬فهى‭ ‬ممزقة‭ ‬بين‭ ‬واجباتها‭ ‬كمترجمة‭ ‬ومحاولات‭ ‬مختلفة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬أحبائها،‭ ‬تركض‭ ‬عايدة‭ ‬يسارًا‭ ‬ويمينًا‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬لاهثة‭ ‬لمساعدة‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يحتاجون‭ ‬بدورهم‭ ‬إلى‭ ‬الدعم‭.‬

عايدة‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬أبدا‭ ‬ومعها‭ ‬تركزت‭ ‬الكاميرا‭ ‬بالكامل،‭ ‬فهى‭ ‬تحمل‭ ‬الفيلم‭ ‬بأكمله‭ ‬تقريبًا‭ ‬على‭ ‬كتفيها،‭ ‬وقد‭ ‬تبنت‭ ‬المخرجة‭ ‬سياسة‭ ‬تثبيت‭ ‬الكاميرا‭ ‬على‭ ‬عايدة‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬المشاهد‭ ‬نتحرك‭ ‬معها،‭ ‬نتبعها‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬والأفكار،‭ ‬نفهم‭ ‬ما‭ ‬تحاول‭ ‬فعله،‭ ‬نحارب‭ ‬الوقت‭ ‬ضد‭ ‬عدو‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬فى‭ ‬القسوة،‭ ‬وجيش‭ ‬وقائي‭ ‬بدون‭ ‬أوامر‭ ‬أو‭ ‬سيطرة،‭ ‬والأحداث‭ ‬تتحرك‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬والتى‭ ‬أجبرت‭ ‬المشاهد‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬فى‭ ‬القصة،‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬نسيانها‭ ‬بفضل‭ ‬أدائها‭ ‬الحيوى‭ ‬والقوى،‭ ‬والذى‭ ‬جعل‭ ‬المشاهد‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الحكاية،‭ ‬فالحديث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬أول‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬الأوروبية‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬عن‭ ‬جرح‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬البوسنة‭ ‬جراء‭ ‬الفظائع‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬الصرب‭ ‬ومفاجأة‭ ‬عدم‭ ‬جدوى‭ ‬الحماية‭ ‬الدولية‭ ‬التى‭ ‬بديهيا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مضمونة،‭ ‬عايدة‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬مرشدنا‭ ‬لخط‭ ‬الاتهام‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الفيلم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬حالة‭ ‬سينمائية،‭ ‬حيث‭ ‬يظهر‭ ‬بوضوح‭ ‬كيف‭ ‬فشلت‭ ‬المنظمة‭ ‬الدولية‭ ‬التى‭ ‬تركت‭ ‬سكان‭ ‬سريبرينيتشا‭ ‬يواجهون‭ ‬مصيرهم‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬المذبحة‭ ‬التى‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يبقوا‭ ‬أسرى‭ ‬لأنقاضها‭.‬

ونجحت‭ ‬المخرجة‭ ‬بأسلوبها‭ ‬الذى‭ ‬يشبه‭ ‬الشلال‭ ‬فى‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المشكلة‭ ‬بنظرة‭ ‬واضحة‭ ‬وناضجة،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬المشاعر‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬لآخر،‭ ‬وينتهي‭ ‬بها‭ ‬الأمر‭ ‬حتمًا‭ ‬إلى‭ ‬صنع‭ ‬الحقيقة‭.‬

وكما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬لقطات‭ ‬كالكابوس،‭ ‬هناك‭ ‬لحظات‭ ‬تشبه‭ ‬الحلم،‭ ‬حيث‭ ‬تستعيد‭ ‬عايدة‭ ‬حفلة‭ ‬رقص‭ ‬وكأنها‭ ‬تتذكر‭ ‬الحياة‭ ‬ولا‭ ‬تتردد‭ ‬الكاميرا‭ ‬بالحركة‭ ‬البطيئة‭ ‬في‭ ‬التركيز‭ ‬بشكل‭ ‬مفرط‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬ثم‭ ‬تنقلنا‭ ‬الى‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬ينفجر‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬بصورهم‭ ‬وهم‭ ‬جثث‭ ‬وقد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬أكوام‭ ‬من‭ ‬العظام،‭ ‬وتطوف‭ ‬عايدة‭ ‬حولها‭ ‬لتتعرف‭ ‬على‭ ‬أهلها‭ ‬فى‭ ‬مشهد‭ ‬عظيم‭ ‬الأداء،‭ ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬قيمة‭ ‬العاطفة‭ ‬التى‭ ‬لعبت‭ ‬دورا‭ ‬مهما‭ ‬فى‭ ‬كراهية‭ ‬الجمهور‭ ‬للحظة‭ ‬والخوف‭ ‬للعودة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أسرار‭ ‬نجاح‭ ‬الفيلم‭ ‬الذى‭ ‬تفوق‭ ‬فى‭ ‬نواياه،‭ ‬إنه‭ ‬حقا‭ ‬عمل‭ ‬شجاع‭ ‬وكامل،‭ ‬عمل‭ ‬ساحر‭ ‬بشكل‭ ‬يروي‭ ‬قصة‭ ‬قوية‭ ‬ومهمة‭.‬

فى‭ ‬تاريخ‭ ‬جبانيتش‭ ‬إنجازها‭ ‬الكبير‭ ‬فى‭ ‬باكورة‭ ‬أعمالها‭ ‬الروائية‭ ‬الطويلة‭ ‬“جربافيكا”‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬“الدبّ‭ ‬الذهبي”‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬برلين‭ ‬2006،‭ ‬علماً‭ ‬أنه‭ ‬ترشّح‭ ‬أيضاً‭ ‬لجائزة‭ ‬أفضل‭ ‬فيلم‭ ‬ضمن‭ ‬جوائز‭ ‬الفيلم‭ ‬الأوروبي‭.‬

واصلت‭ ‬جبانيتش‭ ‬مسيرتها‭ ‬الناجحة‭ ‬مع‭ ‬“على‭ ‬درب‭ ‬الهداية”‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬عرضه‭ ‬العالمي‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬برلين‭ ‬2010،‭ ‬وفيلمها‭ ‬الثالث‭ ‬“إلى‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يبوحون‭ ‬بالحكايات”‭ ‬الذى‭ ‬عُرض‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬تورونتو‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬مهرجان‭ ‬هونغ‭ ‬كونغ‭.‬

طوال‭ ‬مسيرتها،‭ ‬أظهرت‭ ‬جبانيتش‭ ‬تفردها‭ ‬السينمائي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأفلام‭ ‬الوثائقية‭ ‬والقصيرة‭ ‬التي‭ ‬حصدت‭ ‬الثناء‭ ‬والجوائز‭ ‬في‭ ‬مهرجانات‭ ‬بارزة‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬عبر‭ ‬التزامها‭ ‬القصص‭ ‬الإنسانية‭ ‬الهامة،‭ ‬لاقت‭ ‬أفلامها‭ ‬الصدى‭ ‬المطلوب‭ ‬عند‭ ‬المشاهدين‭ ‬والنقّاد‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة