يون فوسه
يون فوسه


يون فوسة :أنصت إلى الكتابة لأنها تعرف أكثر

أخبار الأدب

الأحد، 08 أكتوبر 2023 - 02:22 م

أمضى الكاتب النرويجي، يون فوسه، عقودًا من الزمن فى إنتاج أعمال أدبية بديعة يقدرها النُقاد، لكنه لا يزال يجهل من أين تأتى الكتابة. يقول فوسِه: «حين أكتب كتابة جيدة، ينتابنى شعور واضح ومميز للغاية بأن ما أكتبه مكتوب بالفعل، فى مكان ما. عليّ فقط أن أدونه قبل أن يختفي».

أعرف أنك لا تجرى الكثير من المقابلات وجهاً لوجه.

 أفضّل إجراء الحوارات عبر البريد الإلكتروني. غالبًا ما تكون الكتابة أسهل من التحدث بالنسبة لي، حتى باللغة الإنجليزية.

لقد أجريتُ مقابلات مع العديد من الكتاب ممن يزعمون أن سبب كتابتهم هو عجزهم عن الحديث.

اقرأ ايضاً | يون فوسة: نوبل تنحاز لتقليص اللغة والحدث الدرامي

 نعم، الأمر يشبه ذلك قليلاً. تعرفين المقولة الشهيرة لجاك دريدا: «ما لا تستطيع قوله، عليك أن تكتبه». وهذا أقرب إلى الطريقة التى أفكر بها.

دريدا حاضر بقوة فى نصوصك المبكرة، كما فى «ملاك يجوب المسرح». يمكننا لمس أنماط تفكيره فى العديد من مسرحياتك ورواياتك، خاصة فى ما يتعلق بلعبة الكلام والصمت.

 بدأت دراسة دريدا فى عام 1979. تأثرت الجامعة، أو روح الجامعة، هنا فى النرويج، بالماركسية. كان لدينا حزب مَاوى متطرف وقوى جدًا بين الأكاديميين والكتاب. إنها روح ذلك الوقت، حتى بالنسبة لي. بدأتُ بدراسة علم الاجتماع. وشعرتُ بأنه فى غاية السخافة. طريقة التفكير الإيجابية فى حساب الأشياء، لم تعجبنى أبدًا. لذلك انتقلتُ إلى الفلسفة. حدث انتقال كبير خلال تلك السنوات من الماركسية إلى ما بعد البنيوية الفرنسية. أتذكر قراءة دريدا للمرة الأولى فى الريف النرويجى فى مكان ما. لقد كانت ترجمة دنماركية لكتاب «فى علم الكتابة». «فى علم الكتابة» كان له تأثيره علىَّ بطريقة أو بأخرى. قرأتُ مارتن هيدجر ودرسته كثيرًا، كان ملهمًا للغاية أيضًا. شعرت بأن ما كان يفعله دريدا هو قلب هيدجر رأساً على عقب. كان السؤال الرئيسى لهيدجر هو: ما الشيء المشترك بين كل ما هو موجود؟ كان السؤال الرئيسى لدريدا هو العكس: ما الذى يجعل كل موجود مختلفًا عن غيره من الموجودات؟ وأعتقد أن فعل الكتابة غريب للغاية، مختلف عن الكلام. مختلف جدًا. منحنى ذلك أيضًا نوعًا من الارتباط بدريدا ومفهومه عن الكتابة. وبعد ذلك بدأت بدراسة الأدب المقارن. حينها كنت قد ألفتُ بالفعل روايتى الأولى ونصوصًا أدبية مختلفة. كانت نظرية الرواية موضوعى الرئيسي. اهتمت النظريات بالراوى كفكرة أساسية: الراوي، والشخصية، والعلاقة بين وجهات النظر. وهى مهمة بالفعل، لكننى مازلت أشعر بأن الفكرة الأساسية لنظرية الأدب لا ينبغى أن يكون الراوي، استنادًا إلى التقليد الشفهي، بل ينبغى أن يكون الكاتب. وأردت كتابة نظريتى المتواضعة عن السرد أو الرواية المكتوبة باعتبار الكاتب هو الفكرة الرئيسية.

وجاء ذلك أيضًا من عزفى للموسيقى. أول نص كتبته، حين كنت فى الثانية عشرة تقريبًا، كان كلمات أغنية. كتبت بعض القصائد والقصص القصيرة البسيطة. شعرت بخصوصية أن أكتب لنفسى وبنفسي، لا للمدرسة، كأنى وجدتُ مكانًا أحببت الإقامة فيه.

حدثنى أكثر عن ذلك المكان.

إنه مكان آمن. ولا يزال المكان ذاته الذى وجدته بنفسى حين كنت فى الثانية عشرة. أنا الآن فى الثانية والستين، وهذا المكان لا يُعَرَّفنى بالضرورة، لكنه موجود بداخلى بشكلٍ ما. إنه مختلف عنى كشخص. عادة أعرف نفسى بأننى يون الشخص. وهناك صورتى الرسمية. هذا يون فوسِه. لكن الكاتب، لا اسم له. إنه مكان مخصص للاستماع والحركة، وهو مكان آمن جدًا للإقامة فيه. لكنه قد يصيرُ مخيفًا أيضًا، لأنه طريقى لولوجِ أرضٍ مجهولة. يجب أن أصِلُ إلى حدود عقلي، ثم أجتازُ هذه الحدود. واجتياز هذه الحدود أمر مخيف إذا كنتَ بالغ الهشاشة. كنتُ كذلك لعدة سنوات. لم أجرؤ على كتابة الأمور الخاصة بى لأنى كنت خائفًا من اجتياز تلك الحدود فى نفسي. حين أكتب كتابة جيدة، ينتابنى شعور واضح وجَليّ بأن ما أكتبه مكتوب بالفعل، فى مكان ما. عليّ فقط أن أدونه قبل أن يختفي. إنها تجربة رائعة - تجربة الدخول إلى مكان جديد، وعالم جديد فى كل مرة أحسِنُ فيها الكتابة. وأعتقد أنى مستعدٌ دومًا لذلك اليوم الذى لن أتمكن فيه من الكتابة، ولا بأس بذلك. أعتقد أنها أحد مكونات الموهبة التى لديّ.

أتخيلُ ذلك المجهول بقرب المضيق البحري، حيث الظلام وسكون الماء. لقد أمضيتَ قسمًا كبيرًا من طفولتك على متن قارب فى عرض الماء. ساعدنى معرفة ذلك فى تصور مزاج عملك.

 حظيت أنا والأطفال الآخرون من حولنا بتربية حرة جدًا. سُمح لنا بالخروج على متن قارب حين كنا فى السابعة أو الثامنة. ومن أجمل ذكريات نشأتى تلك المتعلقة بخروجى على متن قارب مع والدى لصيد الأسماك فى فترة ما بعد الظهر وفى الليل، خاصة خلال فصل الصيف أو أوائل الخريف. تجربة الوجود على متن قارب حين يحل الظلام، فى هذا المشهد الطبيعي، على ذلك الشاطئ - لا أحب كلمة صورة، لكن هذا النوع من الصور هو ما أشعر به وكأنه لون أو صوت. لا أتخيل أبدًا أى شيء كاملًا أو بوضوح عندما أكتب. أمارس فعل الإنصات. أنصِتُ إلى شيء ما.

ماذا تسمع؟

 أسمع ما أكتب. لكنى لا أرى. لا أتخيل. ومن أين تأتى الكتابة، لا أعرف. إنها لغتى بالطبع وأستخدم شيئًا أعرفه كمادة. منطق النص الذى تكتبه هو ما يخلق الشكل. المضمون ينتمى بصورة ما إلى هذا الشكل، الذى عليك أن تجعله جديدًا مع كل نص. وهذا الشكل مرتبط بما يمكن أن أسميه عالَمًا. أنا أخلق عالمًا. وكل عمل جديد أكتبه هو عالم جديد.

لكن عوالمك كلها متصلة. إنها تشترك فى المنطق والشكل. غالبًا ما تتشارك الشخصيات، أو على الأقل أسماء الشخصيات. إنها جميعًا موجودة ككل، ككيان حي.

هذا هو الجانب الآخر للأمر. يجب أن يكون كلٌ  منها عالمًا، عالمًا فريدًا. أعتقد أن كل جزء من الأجزاء الثلاثة من «الثلاثية» عالم فريد، ولكنها متصلة فى الوقت ذاته. هذا ما يجعلها رواية. أستخدم نفس الأسماء مرارًا وتكرارًا وفى نفس الأماكن تقريبًا. ونفس الموتيفات تتكرر. يغرق الكثير من الناس أو ينظرون من النافذة، المطلة على البحر أو المضيق البحرى فى الغالب. يشبه الأمر أن يرسم رسامًا شجرة، كما فعل الكثيرون من قبله، لكنه يفعل ذلك بطريقته الخاصة. وفى كثير من الأحيان، يستخدم الرسام الجيد نفس الفكرة مرارًا وتكرارًا، ويخلق لوحةً جديدة فى كل مرة.

تكتب ببراعة عن الطفولة.. هل تراها فترة خالية من التناقضات؟ زمن البراءة؟

 يجب أن أتحدث عن ذلك لأنه أمر أساسى بالنسبة لي: فى السابعة، كنت على وشك الموت إثر وقوع حادثة. ومن ثم، من هناك، رأيتُ نفسى جالسًا هنا -رأيت نفسى هكذا. كان كل شيء هادئًا، ونظرت إلى المنازل فى بلدتي، وشعرت بيقينٍ تام بأننى أراهم للمرة الأخيرة بينما كنتُ محمولاً إلى الطبيب. كان كل شيء لامعًا وهادئًا، وكانت حالة من السعادة البالغة، كسحابة من جزيئات الضوء. تلك التجربة أهم تجارب طفولتي. أعتبرها بمثابة مكوِن كبير لى كشخص، سواء بطرق إيجابية أو سلبية. أعتقد أنها التى جعلتنى فنانًا.

فى مسرحيتك «أحدهم آتٍ»، أكثر ما أزعجنى رغبة شخصيتيها، الرجل والمرأة، فى البقاء مع بعضهما البعض فقط.

 ولكنهما يشتركان فى هذا. هذه هى طريقتهما. إنهما يريدان الهرب من العالم، لأن العالم مكان صعب العيش فيه. يعتقدان أنهما يستطيعان الهرب منه بطريقة أو بأخرى.

لكن لا يمكنك الهروب من العالم. وتلك هى غاية النص. بمجرد أن يهربا من العالم، بمجرد أن يخلقا عالمهما، سيأتى شخص ما. وبطبيعة الحال، تم اقتحام ذلك العالم. يتعلق الأمر باستحالة أن تكونا كل شيء، وأن تكونا معًا فقط. قد يكون حلمًا للكثير منا. أعتقد أنه جزء من الحب، أن تكون جزءًا من كُلٍ ما. وأعتقد أن الحب ممكنٌ بالطبع. ولكن ليس بهذه الطريقة التى حاولا بها تحقيق ذلك الحب. تدور المسرحية حول عدة أمور، كما هو الحال مع كل ما أكتبه، ولكنها تدور بشكل أساسى حول استحالة أن نكتفى بأن نكون معًا فحسب.

ولكن ما شكل الحب الذى يستحق الإيمان به فى عالمٍ متداعٍ؟

أعتقد أن مسرحيتى «أحدهم آتٍ» و«حلم الخريف» تخبرانك بشيء عن الحب. المسرحيتان تعرفان شيئًا عن الحب. لا أقول إنى أعرف الجواب. ولكن لدى شعور بأن ما كتبته حقيقى إلى حد ما. ليست واقعية. لكنه ليس خيالًا محضًا أيضًا. وهكذا يمكننى أن أقدم لك إجابة حكيمة. الإجابة فى كتاباتي. كتابتك أكثر حكمة، وهى تعرف أكثر مما تعرفه أنت كشخص. إنها أكبر. أعتقد أنها هدية كل الأدب العظيم. بالنسبة لي، أرى أن الحب شيءٌ فريد جدًا، وفى نفس الوقت، عالمى جدًا. وهذا ينطبق على البشر أيضًا. ثمة شيء فريد جدًا وشيء عالمى جدًا فى كل إنسان. ولتحويل فرادة الحب إلى أدبٍ أصيل، لابد من خلق شيء يستحق العناء.

الشخصيات فى مسرحياتك تذهلنى أكثر كحالات وجود فى عالم يصعب على الكثيرين الحياة فيه.

 صحيح. لأنه، لجعلها مسرحية حقيقية، يجب على هذا الممثل أو ذاك أن يجعل الشخصية شخصيته ذاتها. ويجب على المخرج أيضًا أن يتصور الأمر بطريقته. وهذا ما لا أفعله فى كتاباتي. وأنا ككاتب أشعر بقوة بأننى لست رجل مسرح. إنه ليس شكلى الفني. ولهذا السبب، كان من المهم جدًا أن تنشر مسرحياتي.

تبدو العلاقة بين مسرحياتك ورواياتك أحيانًا وكأنها علاقة إيقاعية، تناوب موسيقى مدروس ومتقطع بين الكلام والفكر.

هذه حقيقة.. الأمر كله يتعلق بالإيقاع، حتى عند رسم لوحة، هناك إيقاع بين العناصر أو علاقة بينها. من السهل الحديث عن الإيقاع. من الصعب جدًا معرفة حقيقته أو وظيفته. كل تلك المفاهيم–كالجمال، والحب، مثل الإيقاع- هى كلمات سهلة الاستخدام، ولكن من الصعب جدًا فهمها بحقيقتها. لكن الأمر واضح حين تكون موجودة، حين يوجد إيقاع، فأنت تعرف ذلك. كما تعرف حين يوجد حُب، تشعر به.

أخمن أنك لا تحب حضور الفعاليات.

 لكننى شخص لا يهدأ أيضًا، لذلك أواصل السفر. بين النمسا وأوسلو، ومكانان هنا فى الجزء الغربى من النرويج. أواصل السفر بين هذه الأماكن الخاصة حيث لدى كل ما أحتاجه. نادراً ما أسافر إلى أماكن أخرى. أسافر مع عائلتى أحيانًا، لكن هذا شيء آخر. لا أبقى وحيدًا فى مكان ما.

هل تستطيع الحفاظ على استمرارية الكتابة كما كنت من قبل؟

نعم، كتابتى مستمرة. كل هذه الأشياء التى أتحدث عنها خارجية. الكتابة أمرٌ آخر. الكاتب بداخلى ثابت دائمًا. لست متأكدًا مما إذا كان رصينًا أم لا، لكنه كما كان من قبل. لنتحدث عن مفهوم النثر البطيء، أعتقد أن المسرحية لا تحتاج إلى الكثير من الحركة. ولكن، لكى تتمكن من العمل وإيصال الحقيقة من المسرح إلى الجمهور، فإن الأمر يحتاج إلى كثافة قوية وتركيز شديد. وكتابة مثل هذا النص الكثيف لا تستغرق بالضرورة الكثير من الوقت، ولكنه يتطلب الكثير من الجهد والكثير من القوة. أستطيع أن أكتب بسرعة كبيرة. كان ذلك يحدث حين يسيطر عليّ الهوس. ولكن بعد ذلك أردت إبطاء كتابتى وحياتى وكل شيء. هكذا بدأت: أردت أن أكتب نثرًا وأجعله بطيئًا، تلك الجمل الطويلة المتدفقة.

عن النيويوركر


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة