يون فوسة
يون فوسة


ثلاثية.. أشهر أعمال يون فوسة الحائز على جائزة نوبل للآداب 2023

أخبار الأدب

الأحد، 08 أكتوبر 2023 - 02:54 م

كان أسلا وأليدا يتجولان فى شوارع بيورجفين، يحمل أسلا على كتفه حُزمتين بهما كل ما يمتلكان، فى يده حقيبة الكمان التى ورثها عن الأب سيجفالد، وتحمل أليدا حقيبتين شبكيتين فيهما طعام، وهما الآن يجوبان شوارع بيورجفين منذ ساعات ويحاولان العثور على أى مأوى، ولكن استئجار أى شيء فى أى مكان كان مستحيلًا، لا، قالوا، نحن آسفون ليس لدينا مكان للإيجار، لا، قالوا، فكل مكان للإيجار مستأجَر بالفعل، هكذا قالوا، ومن ثم كان على أسلا وأليدا مواصلة التجوال فى الشوارع وهما يطرقان الأبواب ويسألان عما إذا كانت هناك غرفة للإيجار فى أى بيت، ولكن لا توجد أى غرف للإيجار فى أى من تلك البيوت، فإلى أين يذهبان، أين يجدان مأوى يحميهما من البرد والظلام الآن، فى أواخر الخريف، ولا بد أن يكون هناك مكان ما به غرفة للإيجار، ومن حسن الحظ أنها لم تمطر، إلا أن المطر قد ينهمر أيضًا عاجلًا أو آجلًا، ولا يمكنهما متابعة المشى هكذا، ولماذا لا يريد أى أحد أن يؤجر لهما مأوى، ربما لأن الجميع كانوا يرون أن أليدا على وشك الولادة، فهذا قد يحدث فى أى يوم، كان يبدو عليها ذلك، وربما لأنهما لم يكونا متزوجين، فلم يكونا زوجًا وزوجة محترمين بالمعنى المتعارف عليه، لم يكن من الممكن أن يُعدا شخصين محترمين، ولكن بالتأكيد لم يستطع أحد أن يرى ذلك، لا، بالتأكيد لا، لكن قد يكون ذلك ممكنًا على الرغم من كل شيء، إذ لا بد أن هذا هو السبب فى ألا أحد يريد أن يؤجر لهما غرفة، ولم يكن أسلا وأليدا هما من لم يرغبا فى الزواج أو الحصول على بركات القس، ولكن كيف يتسنى لهما الوقت أو السبيل، فهما لم يتجاوزا السابعة عشرة بعد، ولا تتوفر لديهما المتطلبات اللازمة لإقامة حفل زفاف، ولكن بمجرد أن يدبراها، سوف يقيمان حفل زفاف ويتزوجان بشكل محترم فى وجود قس وعريف حفل وسوف يقيمان حفل زفاف مع فرقة موسيقية وكل شيء يصاحب ذلك، لكن الآن سيبقى الوضع على ما هو عليه، ووضعهما الراهن وضع طيب إلى حد كبير، حقًّا، ولكن لماذا لا يريد أحد أن يؤجر لهما غرفة، ما خطيئتهما، لو عدَّا نفسيهما زوجًا وزوجة بالشكل المتعارف عليه فقد يساعدهما ذلك، لأنهما إذا فكرا بهذه الطريقة، فسيكون من الصعب على الآخرين أن يلاحظوا أنهما يمضيان فى الحياة كزانيين، وقد طرقا عديدًا من الأبواب إلى الآن، ولم يستجب أحد لطلبهما باستئجار غرفة، ولا يمكنهما الاستمرار على هذا النحو، وبدأ الظلام فى الهبوط، وإنها أواخر الخريف، والظلام يحل والجو بارد، وسرعان ما سينهمر المطر.

تقول أليدا: أنا متعبة للغاية

ثم يتوقفان وينظر أسلا إلى أليدا وهو لا يعرف ماذا يقول لها كى يواسيها، لأن كل واحد منهما كان يواسى الآخر بالفعل ولمرات عديدة وذلك بتبادل الحديث عن الطفل القادم، أبنت أم ولد، ذلك ما كانا يتحدثان عنه، وكانت أليدا ترى أن التعامل مع البنات أسهل، أما هو فكان يرى العكس، التعامل مع الأولاد أسهل، ولكن سواء كان ولدًا أم بنتًا، فهما يشعران بالسعادة والامتنان لهذا الطفل، وقريبًا سيكونان أبًا وأمًّا، هكذا قالا، فهما يواسيان نفسيهما بالتفكير فى الطفل الذى سيُولد عما قريب. كان أسلا وأليدا يمشيان فى شوارع بيورجفين.

وحتى الآن هما لا يشعران بالأسى لأن ما من أحد يريد أن يمنحهما مأوى، فهذا أمر سوف يدبرانه فى النهاية، وقريبًا سوف يجدان شخصًا ما لديه غرفة صغيرة للإيجار، حيث يمكنهما العيش فيها لفترة، فلا بد من تدبير ذلك، ففى بيورجفين هناك العديد من البيوت، بيوت صغيرة وبيوت كبيرة، وليس الوضع كما فى ديلجيا حيث لا يوجد هناك سوى بعض المزارع والبيوت الصغيرة بالقرب من البحر فقط، كانت أليدا، ابنة هيرديس من منطقة بروتات، ويقولون إنها من مزرعة صغيرة فى ديلجيا، حيث ترعرعت مع أمها هيرديس وأختها أولين، بعد أن اختفى الأب أوسلايك ولم يعد مرة أخرى قَطُّ عندما كانت أليدا فى الثالثة من عمرها وأختها أولين فى الخامسة، ولم تكن أليدا تحمل أى ذكرى عن والدها سوى صوته فقط، وما زالت تستطيع سماع صوته المفعم بالمشاعر، صوته الواضح العريض، وهذا كل ما تذكره عن أبيها أوسلايك، ولا يمكنها أن تتذكر أى شيء عن هيئته، أو تتذكر أى شيء آخر، تتذكر صوته فقط عندما كان يغني، كان ذلك كل ما تبقى من أبيها أوسلايك. وهو، أسلا، قد نشأ فى كوخ صيد صغير يطل على البحر فى ديلجيا جُهِّز كمأوى صغير، ونشأ هناك مع أمه سيليا وأبيه سيجفالد، حتى اختفى أبوه سيجفالد فى البحر ذات يوم عندما هبَّت عواصف الخريف فجأة.

كان يصطاد خارج الجزر غرب البحر وغرق المركب هناك بين الجزر فى منطقة ستوراستينين. وبقيت الأم سيليا وأسلا فى الكوخ ولكن بعد فترة وجيزة من رحيل سيجفالد، مرضت الأم سيليا، وباتت أنحف وأنحف، أصبحت نحيفة إلى درجة أن عظام وجهها يمكن أن يراها المرء وكأنها عارية، وأخذت عيناها الزرقاوان الواسعتان تتسعان أكثر فأكثر حتى إنهما شغلتا معظم وجهها، هذا ما بدا لأسلا، كما أصبح شعرها البنى الطويل أخف وأضعف من ذى قبل، وذات صباح لم تستيقظ. وجدها أسلا ميتة فى فراشها. كانت الأم سيليا مستلقية هناك وعيناها الزرقاوان العميقتان مفتوحتين تنظران إلى الجانب الذى لا بد أن الأب سيجفالد كان يستلقى عليه. وشعرها البنى الطويل الخفيف يغطى معظم وجهها. كانت الأم سيليا مستلقية وميتة. كان ذلك قبل سنة مضت تقريبًا، وكان أسلا حينها يبلغ ست عشرة سنة وكل ما يمتلكه فى الحياة هو نفسه، والأشياء القليلة التى فى الكوخ، وكذلك كمان الأب سيجفالد. وفيما عدا أليدا، كان أسلا وحيدًا، وحيدًا تمامًا. كل ما شغل فكره عندما نظر إلى الأم سيليا وهى ميتة موتًا أبديًّا هو أليدا بشعرها الأسود الطويل وبعينيها السوداوين، بكل شيء فيها، كان لديه أليدا. الآن أصبحت أليدا هى الشيء الوحيد المتبقى له. هذا كل ما كان يشغل فكره.

وضع أسلا يده على فكها الأبيض البارد وتحسس خدها. الآن لم يتبقَّ له سوى أليدا. هكذا كان يفكر. ثم كان لديه الكمان. هكذا كان يفكر أيضًا. لم يكن الأب سيجفالد صيادًا فحسب، بل كان عازفًا ماهرًا أيضًا، وهو من كان يعزف فى كل حفلات الزفاف فى منطقة سيجنا، وظل الأمر يسير على هذا النحو لسنوات طويلة، وإذا أقيم حفل راقص فى ليلة صيفية، كان الأب سيجفالد هو من يعزف فيه. ففى ذاك الوقت، جاء من الشرق إلى ديلجيا كى يعزف فى حفل زفاف مُزارع فى لايتا، وهناك التقى بالأم سيليا التى تخدم هناك فى حفل الزفاف، وكان الأب سيجفالد يعزف الموسيقى. هذه هى الطريقة التى التقى بها الأب سيجفالد بالأم سيليا.

وحملت الأم سيليا منه وأنجبت أسلا، وكى يعيل أسرته، اشتغل الأب سيجفالد على قارب صيد بالجزر فى البحر، عاش الصياد فى منطقة ستوراستينين، وبجزء من الأجر تمكن من العيش مع الأم سيليا فى أحد الأكواخ التى يمتلكها الصياد هناك فى ديلجيا. هذا ما كان. هذا ما حدث. والآن رحل كل من الأب سيجفالد والأم سيليا. رحلا إلى الأبد.

والآن أسلا وأليدا يجوبان شوارع بيورجفين، ويحمل أسلا على كتفه حُزمتين فيهما كل ما يمتلكان، وكان معه حقيبة الكمان والكمان الذى ورثه عن أبيه سيجفالد. كانت الدنيا مظلمة، والطقس كان باردًا. والآن كان أليدا وأسلا قد طرقا العديد من الأبواب وسألا عن مأوى لهما وكانت الإجابة الوحيدة أن هذا غير ممكن، ولم تكن هناك غرفة للإيجار، والغرفة التى لديهم كانت قد أُجرت بالفعل، لا إنهم لا يؤجرون الغرف، ليسوا فى حاجة إلى ذلك، كانت هذه هى الأجوبة التى حصلا عليها، ويمشى كل من أسلا وأليدا، ثم يتوقفان، وينظران إلى أحد البيوت، ربما لديهم مأوى، تسوقهما الجرأة ويطرقان ذاك الباب أيضًا، من المؤكد أن «لا» سوف تُقال لهما مرة أخرى، بغض النظر عن السبب، ولا يمكنهما المشى فى الشوارع على هذا النحو أيضًا، لذا كان لا بد أن يتشجعا ويطرقا الباب ويسألا عما إذا كان لديهم غرفة للإيجار، ولكن كيف سيكون لدى أسلا أو أليدا العزم على التقدم بهذا الطلب مرة أخرى وسماع «لا» مرة أخرى هذا غير ممكن، كان المكان مكتظًّا، ولعلهما ارتكبا خطأً عندما أحضرا معهما كل ما يمتلكان وأبحرا إلى بيورجفين، ولكن ماذا كان بوسعهما أن يفعلا غير ذلك، أكان يجب أن يبقيا فى بيت الأم هيرديس فى منطقة بروتات حتى لو لم تكن تريدهما أن يعيشا هناك، ليت لهذا مستقبلًا، وإذا لم يتمكنا من البقاء فى كوخ الصيد، فإنهما كانا سيعيشان هناك، ولكن فى يوم من الأيام رأى أسلا شخصًا ما فى مثل عمره تقريبًا يبحر فى اتجاه كوخ الصيد وينزل الأشرعة ويرسو بالقارب أمام كوخ الصيد ويربط القارب هناك، ثم يبدأ فى المشى نحو كوخ الصيد، وبعد ذلك يسمع دقًّا على الباب وعندما يفتح أسلا، يجد رجلًا يتنحنح ويصيح فيه أنه من يملك كوخ الصيد هذا الآن، يملكه بعد أن اختفى والده فى البحر مع والد أسلا، والآن هو بحاجة إلى أن يأخذ كوخ الصيد لنفسه، وبطبيعة الحال لم يعد ممكنًا لأسلا وأليدا أن يعيشا فيه، ولذا فقد اضطرا إلى حزم أغراضهما والبحث عن مأوى آخر يعيشان فيه، هذا كل ما فى الأمر، هكذا يقول، ثم مشى إلى السرير بجوار أليدا التى جلست هناك ببطنها الكبير ثم نهضت وسارت إلى أسلا واستلقى الرجل على السرير وتمدد وقال إنه متعب ويريد أن يستريح قليلًا، هكذا يقول ونظر أسلا إلى أليدا ومشيا إلى الباب وفتحاه. ثم نزلا الدرج وخرجا ووقفا أمام الكوخ. أليدا ببطنها الكبير مع أسلا.

قالت أليدا: الآن ليس لدينا مكان نعيش فيه

وأسلا لم يرد.

قال أسلا: هذا كوخه، فليس بوسعنا أن نفعل أى شيء.

قالت أليدا: ليس لدينا أى مكان نعيش فيه.

قالت: نحن فى أواخر الخريف، والدنيا ظلام والطقس بارد، وعلينا أن نعيش فى مكان ما.

ثم ظلَّا واقفين هناك صامتين.

مجتزأ من رواية بالعنوان نفسه

صدرت عن دار الكرمة


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة