عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس


يوميات الاخبار

نافذة على سطور الأرق!

عبدالهادي عباس

الإثنين، 09 أكتوبر 2023 - 07:25 م

«ومُحادثة الكتب عادة عندي، إذ أعتقد أنها كائن حى يملك إرادة الانفتاح على مَن يُحب أو رفض مَن يكره، وأن لها ندّاهة تجذب عين من تراه أهلًا للاطلاع عليها وكشف بواطنها، وبركات تسبغها على قارئها حتى يشعر بالاطمئنان».

الأحد:
كتاب حياتى!
يثير تصريحات بعض الكُتاب عن رغبتهم لبيع مكتباتهم  لواعج حزن كامن، منذ كنتُ أشاهد بعين الألق والدهشة مكتبات أساتذتى العامرة بالرفوف الحُبلى بالمجلدات من السقف إلى الأرض، فتغازلنى العناوين فأطالعها فى فرحة المغامر، ثم يُنازعنى حيائى فأنصرف عنها إلى مُحادثة أستاذي، ثم تغمزنى أشكالها وألوانها وأحجامها، فأقف مبهوتًا أمسك مخطوطًا يزينه الخط الكوفى وأختام مالكيه الأوائل، ثم أغض بصرى كطفل فى محل ألعاب يريد امتلاكها جميعًا ولكنه يتذكر الجيب المخروم لوالده، وحين أدخل المكتبة بعد وفاة صاحبها أعرف أن هذه الكتب قد ماتت بموته حتى تنتقل إلى مالك جديد ينفخ فيها من روحه ويُعيدها إلى الحياة بالقراءة، بعدما كانت محشورة فى أضابير منسية يعلوها التراب.


وإذا كانت مخايل السؤال المرهوب: أين ستذهب كتبى بعد وفاتي؟، تكاد ألا تُفارقنى حين أطالع رفوف مكتبتي، فإننى أحرص على كتابة هوامش وتعليقات على ما أقرأ وأمضى باسمى فى أول الكتاب وآخره لإثبات ملكيته لى وضنًّا به أن يكون ملكًا لغيرى ولو بعد انقضاء الأجل، شعور بالأنانية والامتلاك وذوبان وجودي، بل إننى أحادث كتبى بهذا، ومُحادثة الكتب عادة عندي، إذ أعتقد أنها كائن حى يملك إرادة الانفتاح على مَن يُحب أو رفض مَن يكره، وأن لها ندّاهة تجذب عين من تراه أهلًا للاطلاع عليها وكشف بواطنها، وبركات تسبغها على قارئها حتى يشعر بالاطمئنان. وإذا كان الأستاذ العقاد قد قال إن القراءة تُطيل العمر، فإننى أشعر دومًا أن عُمرى سيمتد حتى أقرأ كل هذه الكتب التى لم يُصبها الدور بعد، وأنه ليس من المنطقى أن يموت الإنسان قبل أن يؤدى واجبه القرائى فى هذه الحياة!
مأساة حقيقية أن يبيع الأديب قطعة من روحه لحاجته المادية، والمأساة الأكبر ألا يجد من يشترى ذلك منه، أو يجد أن الثمن المعروض بخس لا يُسمن ولا يُغني!   
الثلاثاء:
رسالة «فرتونة»!
تكمن قوة الحاكم فى ارتباطه الوجودى بالفئة الأضعف من شعبه وذوى الخصاصة والحاجة منهم، بل ومدّ حبال التواصل معهم والاستماع إلى شكاواهم وإجابتها بصورة فورية وكأنها مسألة أمن قومي، لأن الفقراء هم وقود الأوطان وماؤها الذى تحيا به، وإذا كان الحاضر يذكر للرئيس السيسى علاقاته الإنسانية الموصولة مع المستضعفين من شعبه، حتى أطلق عليه الناس «جابر الخواطر»، فإن التاريخ يذكر لنا أن امرأة فقيرة من الجيزة بمصر، واسمها «فرتونة» السوداء، قد أرسلت إلى خليفة المسلمين فى دمشق تطلب إليه بكل قوة أن يبنى لها حائطها، لأن الأطفال يسرقون دجاجاتها، فلا ينام الخليفة حتى يكتب إليها يُطمئنها بالاستجابة لطلبها، ويأمر «أيوب بن شرحبيل» عامله على مصر أن يبحث بنفسه عن «فرتونة» ويبنى لها حائطها.
علاقة عمر بن عبد العزيز بمصر ممتدة منذ ولادته ونشأته بها فى حى «حلوان»، ولهذا فقد كان يهتم بها وبأهلها وحتى بهائمها، فقد أوصى فى إحدى رسائله قائلًا: «بلغنى أنكم تحملون على الجِمال بمصر فوق طاقتها، فلا تحملوا عليها أكثر من ستمائة رطل»، بهذه السياسة العادلة التى تحفظ الحق للإنسان والحيوان والمسلم وغير المسلم والرجل والمرأة، ساد المسلمون العالم، رغم أن دولة عمر لم تستمر سوى عامين وأربعة أشهر، ولكنها كانت كافية ليضع الأسس لدولة أمِنَها الأصدقاء وخافها الأعداء.


الجمعة:
مذكرات الإمام
الاعترافات وفنون السيرة الذاتية للعلماء التى تكشف أحداثًا حقيقية بلا تزويق أو مُجاملة تبقى قليلة ونادرة فى أدبنا العربي، ولهذا تظل مذكرات الأستاذ الإمام محمد عبده كنزًا معلوماتيًا يحمل رسالة تربوية نافعة لكل الأجيال. ورغم اختلافى مع بعض آراء الأستاذ الإمام حول شخصية محمد على باشا، أو أحمد عرابى وثورته، فإن الآراء السياسية تبقى دائمًا رهينة لاختلاف وجهات النظر، لكن المدهش فى المذكرات التى قدّم لها وحققها طاهر الطناحى (رحمه الله) تلك الرسائل التربوية والاجتماعية، فضلًا عن الصفحات الناصعة للجهاد المصرى ضد الاستبداد والفساد والاستعمار الذى ابتُلى به الوطن فى فترة فارقة من تاريخه الحديث.
اهتم الإمام بإبراز أمرين كانا مناط حياته التربوية، وكأنه يقول لنا الآن: إن البداية من هنا، وهما: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والأمر الثاني: إصلاح اللغة العربية، سواء فى المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة أو فيما تنشره الجرائد، وحتى فى المراسلات بين الناس. وقد لفت انتباهى ذلك التشريح الدقيق لأوضاع مصر الاجتماعية والعلمية فى ذلك الوقت، وكيف أثّر ذلك على مستقبل الوطن سياسيا، حيث يذكر الإمام عند حديثه عن والده كيف أنه كان ينفرد بالطعام دون والدته وإخوته الذين يأكلون بعده، وأن ذلك كان دليل الرفعة فى ذلك الوقت، وأن الفقراء وحدهم هم الذين يأكلون مع نسائهم وأبنائهم!
الأمر الخطير حقا الذى نبه إليه الإمام هو كيف أنه قضى عامًا ونصف العام يدرس فى المسجد الأحمدى بطنطا دون أن يفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم فى الأزهر وقتها، حتى إنه يئس من النجاح وهرب من الدراسة وتزوج وقرّر أن يعمل بالزراعة، ولولا إلحاح والده وسياسة خال والده الشيخ «درويش خضر» وأسلوبه المتصوف الهادئ فى تدريسه ما كان لدينا مثل هذا الإمام الجليل، ومن يُطالع الصفحات التى يتحدث فيها الإمام عن سيرة هذا الرجل يُدرك ما أدركته الأمم المتقدمة كلها أن السر دائمًا يكمن فى مُعلم جيد، حتى إن الإمام كان يدعوه «بسر سعادتي»، وكم من إمام وفقيه وعالم وعبقرى فقدناه منذ ذلك الزمان حتى الآن لرداءة الأساليب التربوية فى التعليم، وكم من نابغة ما زلنا نفقده حتى الآن لغياب أمثال الشيخ درويش!


ولأنه لا بد لكل مُصلح من «خضر» يُرشده بإلهاماته، فإن الإمام يذكر كيف أن أحد مجاذيب السيد البدوى ناداه وقال له: «ما أحلى حلوى مصر البيضاء!» فيفهم الإمام تلك الإشارة ويذهب إلى القاهرة ليُكمل تعليمه بالأزهر، ثم يضع لنفسه منهجًا للدراسة صالحًا لكل زمان ومكان، حين يقول: «داومت على طلب العلم على شيوخه، مع محافظتى على العُزلة عن الناس، حتى كنتُ أستغفر الله إذا كلمتُ شخصًا كلمة لغير ضرورة».


مثل هذه المذكرات والكتب التى تكشف تاريخنا الحديث وتحض على التعليم ضرورة ملحاح يجب أن ينتبه إليها القائمون على معرض الكتاب فى دورته المقبلة، بحيث تُصبح بين يدى أبنائنا بأشكال جديدة وأسعار زهيدة، فالتاريخ دائمًا هو الطريق إلى المستقبل.

 


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة