رفعت رشاد
رفعت رشاد


يوميات الاخبار

طه حسين

رفعت رشاد

الأربعاء، 11 أكتوبر 2023 - 09:52 م

هذا هو طه حسين الذى لم يكن شخصية واحدة ذات ملامح محددة، إنما كان مجموعة شخصيات تتميز جميعها بالعزيمة والإرادة القوية والتصميم والعناد والتحدى

ما قيمة طه حسين؟ ولماذا هو مشهور إلى هذه الدرجة؟ لماذا يحظى بمكانة مرموقة فى الفكر العربى الحديث؟ هل مازالت أفكاره حية بعدما مات منذ خمسين عاما؟. ما الفرق بينه وبين غيره من المفكرين والأدباء؟. أسئلة إن لم تطرح علانية فهى تدور فى أذهاننا ونتساءل، لماذا هو بهذا الحجم من المكانة الفكرية والأدبية والعلمية؟.

كان طه حسين شخصية معضلة، قال عن نفسه: أنا قلق.. قلوق.. مقلق، كتب الآلاف من المقالات الأدبية والصحفية فى الصحف منذ بدايات القرن العشرين، وألف ما يزيد على ثلاثمائة  كتاب فى مجالات عديدة متنوعة، فى النقد الأدبى، فى التاريخ العربى والإسلامى، فى الإصلاح الاجتماعى، فى التربية والتعليم، فى الثقافة، فى الشأن السياسى المصرى والعربى.

كان جبارا ذا شخصية مهيبة، تحدى عماه وانتقل من التعليم فى كُتّاب القرية إلى التعليم فى الأزهر وتمرد على مناهجه، ولأنه صاحب رؤية.. انتسب إلى الجامعة المصرية - القاهرة حاليا – منذ تأسيسها عام 1908 ومنها عبر البحر إلى فرنسا لينكب على مناهل العلم ويعود محملا بألقاب علمية رفيعة المستوى، لكنه لم يتوقف وصار يرقى بنفسه علميا وثقافيا حتى أصبح رقما بارزا فى الحياة الثقافية والصحفية المصرية وزادت شهرته بعدما أصدر كتابه «الشعر الجاهلى» وأُتهم بالإلحاد وبُرئ من التهمة وشغل منصب عميد كلية الآداب فى الجامعة فصار بغزير إنتاجه وعلمه ومكانته يحمل لقب عميد الأدب العربى وهو لقب فريد لم يحمله غيره..

رحلة كفاح ومسيرة عناد وإصرار وتحدٍ مع قدره فحقق ما لم يحققه المبصرون، فمن يوازيه فى مكانته! إنسان ضرير شغف بالعلم والمعرفة، سعى لإصلاح المجتمع، واجه حكاما عتاة، انحاز للفقراء.

دافع طه حسين عن استقلال الجامعة وشرف العلم ورفض تدخل الحكومة فى الشأن الجامعى ففصله إسماعيل صدقى رئيس الحكومة وقتذاك، إلا أنه عاد بعد سنوات وزيرا للمعارف فجعل شعاره الخالد «التعليم كالماء والهواء حق للجميع» فصار هذا الشعار الذى طبقه بالفعل مبدأ نسخته ثورة 23 يوليو فى التعليم الجامعى فصار مجانا أيضا وكانت فرحة طه حسين بذلك عظيمة بعدما رأى حلمه فى تعميم التعليم لكل مواطن يتحقق فى حياته، بيده ومن بعده بيد ثورة يوليو. 

العقل والحرية

استحق طه حسين مكانته التى نالها بجهد وعرق نادرين تغلب خلال رحلته إلى تلك المكانة على عوائق جسدية تمثلت فى عماه وعوائق سياسية وبيروقراطية ونحت فى صخر مجتمع متخلف لكى يزاوج بين السلف والخلف، بين الماضى والحاضر، بين العقل والحرية.

طبق ما اعتنقه من منهج فكرى وهو منهج الشك الذى قال به ديكارت ولم يكن يهدف إلى الإساءة للدين فى كتابه الشعر الجاهلى الذى استخدم فيه هذا المنهج، وكتب أول سيرة ذاتية بأسلوب معاصر فى الأدب العربى وهى كتابه «الأيام» الذى كتبه بأسلوب متميز وغير مسبوق وصدرت منه طبعات عديدة لا يعرف عددها وقيل إنه الكتاب الأكثر قراءة فى الأدب العربى. وكتب مستقبل الثقافة الذى يعد منهاجاً لما يجب أن يكون عليه التعليم.

وكتب عن «الفتنة الكبرى» فى جزءين متمردا على ما جاء فى سير الأولين عن أحداث تلك الفترة، وكان يرى نفسه فى أبى العلاء المعرى رهين المحبسين بل كان يراه كأنه ذاته ومثله الأعلى وظل على إعزازه وتقديره له وأظهر فى كتابه عنه «مع أبى العلاء فى سجنه» تعاطفه معه وتفهمه لمشاعره التشاؤمية رغم رفضه لها، كما كتب عنه «تجديد ذكرى أبى العلاء». عمل طه حسين بالصحافة كمحترف وليس فقط ككاتب، فأصدر مجلة «الكاتب المصرى» وتولى رئاسة تحرير عدد من الصحف. 

العدل الاجتماعى

ارتبطت قضية العدل عند طه حسين بقضية الحرية، فقد آمن بالعقل وتحرر الإنسان وكتب مرات فى ذلك خاصة كتابه «المعذبون فى الأرض» الذى نشره فى لبنان عام 1949 بعد أن منعت الحكومة المصرية نشره وسحبت نسخه من المطبعة وقيل إنه تأثر بالأديب الفرنسى فيكتور هوجو فى كتابه «البؤساء». كانت مؤلفات العميد تحمل مفهومه عن العدل الاجتماعى وحرية الإنسان مثل «دعاء الكروان، شجرة البؤس، ما وراء النهر، والوعد الحق».

أما كتابه «المعذبون فى الأرض» فهو يجسد مشاعره التى تحدث بها فى الكتاب عن عذابات الفقراء من أبناء الشعب وقد تسبب هذا الكتاب فى اتهامه باليسارية وقد أهداه فى مقدمة الكتاب إلى: «الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، والذين يؤرقهم الخوف من العدل، وإلى الذين لا يجدون ما لا ينفقون والذين لا يجدون ما ينفقون».

كان منع نشر «المعذبون فى الأرض» صداما بين من لا يؤمنون بالفكر وحرية التفكير، ومن يؤمنون بالفكر وحرية التفكير، كان صداما بين السلطة وطه حسين.

كان «المعذبون فى الأرض» كتابا ثوريا اشتراكيا قبل أن تقوم ثورة يوليو، فيقول طه حسين فى كتابه: «إن الله لم ينشر ضوء الشمس ليستمتع به فريق من الناس دون طائفة، ولم يجر الله الأنهار ولم يفجر الينابيع لتشرب منها جماعات من الناس وتظمأ إليها جماعات أخرى، ولم يخرج الله النبات من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون». 

أسلوب طه حسين

ولد طه حسين فى عام 1889 ومات فى 28 أكتوبر 1973، أى أنه عاش 84 عاما، لكن موته أثناء حرب أكتوبر جعل الناس لا تشعر بفقدانه وهم فى ذروة معايشة أهم حدث لمصر منذ قرون.

كان طه حسين كاتبا فريدا فى أسلوبه يصنف ما كتبه من نثر على أنه نادر ورفيع المستوى. قال مفكرون غربيون عن أسلوبه إنه ثالث ثلاثة كتبوا بهذا المستوى على مر التاريخ وهم: هوميروس صاحب الإلياذة وشكسبير وطه حسين.

كان العميد يستحق جائزة نوبل وقد رشح لها بالفعل فى خمسينات القرن الماضى لكن نوبل جائزة تتحكم فيها السياسة فى المقام الأول خاصة فى جائزة الآداب، واللافت أن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا حصل على نوبل فى الآداب رغم أنه ليس أديبا، لكنها مجاملة له على مجمل خطبه السياسية باعتبارها من الأدب الرفيع!! 

هذا هو طه حسين الذى لم يكن شخصية واحدة ذات ملامح محددة، إنما كان مجموعة شخصيات تتميز جميعها بالعزيمة والإرادة القوية والتصميم والعناد والتحدى للوصول إلى الأهداف المرجوة وتخطى العراقيل القدرية والبشرية. هو العميد الذى كان الجسر الفكرى الذى وصل بين الماضى والحاضر ونقل الحاضر إلى مصاف أقرانه فى العالم المتقدم.  

ممدوح الصغير

صديقى الكاتب الصحفى ممدوح الصغير قصة كفاح تستحق أن تروى. عرفته شابا يسعى لإيجاد موطئ قدم له فى عالم الصحافة الصاخب بالقاهرة بعد أن تلقى دروسه وشهادته فى قسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة سوهاج. كان ينحت فى الصغر محاولا التجويد والاختلاف حتى يظهر تميزا فيكون له مساحة ينضم من خلالها إلى زمرة دراويش الصحافة الذين أصابهم سهم هواها فى ننى قلبوهم. 

بدأ فى جريدة «أخبار اليوم» وبعد أن تأسست «أخبار الحوادث» فى أوائل التسعينات انضم مع مجموعة من خيرة شباب وصحفيى المؤسسة إلى الجريدة الوليدة التى سرعان ما قفزت بجهد محرريها إلى ما يقارب المليون نسخة. ومرت الأيام وصار ممدوح رئيسا لتحرير «أخبار الحوادث» وأثبت جدارة فى إدارة الجريدة التى تعتمد فى الأساس على القارئ والتوزيع..

فى خضم العمل وانهماك الصحفى يتعرض لمشاكل عديدة قد يشعر ببعضها ويتوقف لمعالجته وقد لا يقدر على متابعة بعضها فتتراكم وتتضخم حتى يصعب علاجها.

ورزق ممدوح بولد جعله ينسى الدنيا ويسخر كل حياته له وأسماه  «باسم». خصص ممدوح معظم وقته لباسم الذى صار له ابنا وأخا وصديقا ورفيقا لدرجة أنه استقال من عمله كرئيس تحرير الحوادث لكى يستكمل باسم مسيرته التعليمية على خير.

كان باسم عند حسن الظن فتفوق وحصل على درجات عالية تؤهله للالتحاق بما يريد من الكليات لكنه بعد أن مر بموقف ما قرر أن يدرس القانون وكرر مرة أخرى تفوقه فتم تعيينه معيدا بكلية الحقوق.

كانت فرحة ممدوح طاغية وشعر أن الله عوضه خيرا فى كل ما مر به، فقد كان مثل سيزيف فى حياته يبذل الجهد لصعود الجبل وعندما يقترب تجرفه الصخرة وتعود به إلى السفح مرة أخرى..

كفاح ممدوح أضاف إلى محبيه أحبابا آخرين ممن أعجبهم صموده فى كفاحه وحياته وصار له مريدون فى كل الصحف. ومؤخرا كان الخبر الذى أسعد كل محبيه وهو تعيين نجله باسم وكيلا للنائب العام.

وقد كان أمامه أن يستمر فى هيئة التدريس بكلية الحقوق أو يعين فى جهة قضائية أخرى لكنه اختار النيابة العامة بحكم تخصصه فى القانون الجنائى ليبدأ خطوة جديدة فى مسيرة تفوقه ولكى يرتاح قلب ممدوح بعد أن منَّ الله عليه بالتعويض. مبارك لممدوح ولباسم. 

د.يسرى عبد العال

يندر أن يجمع الناس على شخص فيحبونه جميعا ولا يختلفون فى حبه. لكن الناس اجتمعوا بالفعل على حب الصديق د.يسرى عبد العال مدير تحرير مجلة آخر ساعة. أعرفه منذ سنوات طوال فهو جارى من أبناء شبرا يقيم مع عائلته الوقورة وكان والده رحمه الله من خيرة الناس فى تدينه وأدبه ما جعل الناس يلتفون حوله فى مكان سكنه ويصير قائدا طبيعيا لهم فى النصح والخير. ورث الدكتور يسرى هذه الصفات عن والده وأضاف لها من علمه ما جعله محل محبة زملائه ومعارفه وتلاميذه. 

يوصف د.يسرى بالأدب ويعرف بالأخلاق وزادت معرفتى به بعدما توليت رئاسة تحرير مجلة آخر ساعة فزادت فترات تواصلنا ووجدته أصيلا فى صفاته، غير متصنع أو متكلف وكفء للغاية فى عمله كمدقق لغوى وزاد من كفاءته حرصه على استكمال مؤهلاته بالحصول على الدكتوراه فى اللغة العربية فصار ممن يملكون ناصيتى التميز، الخبرة العملية والتأهيل العلمى.. يحظى د.يسرى الذى يقوم بالتدريس فى أكاديمية أخبار اليوم بحب تلاميذه الذين يتحلقون حوله يجلونه ويوقرونه رغم تواضعه الجم وهو حيى لدرجة الخجل فلا يطلب شيئا من أحد ولا يتطفل على أحد. من حسن الحظ أن نلتقى شخصا مثله فى زمننا هذا. أتمنى لو أن هناك كثيرا من أمثاله.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة