صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


د. عبد الله إبراهيم يكتب: الآخرون الأغيار

أخبار الأدب

الإثنين، 16 أكتوبر 2023 - 04:02 م

ما من مفهوم اكتنفه الغموض والإبهام أكثر من مفهوم «الآخر » فلا حدود تحول دون انزلاقه من حقل إلى آخر كلما اقتضى الأمر. الآخر مفهوم عابر للحدود الجغرافية، فلا يكبحه كابح قومى أو دينى أو أيديولوجى أو ثقافي. فيتلوّن بألوانها، ويخلط بين تلك الألوان، ولذلك، تعريفه إلا فى سياق متفق عليه، فيتعذ وبقدر تعلّق الأمر ب الحضارات، بما فيها من ثقافات متنوعة، فالآخر هو الدخيل المزعزع لهوية الجماعة، باختلافه عنها، فهو المغاير لها فى الثقافة أو فى المعتقد أو فى العرق أو فى اللون أو فى الطبقة.وقد يحاول الانتساب إلى جماعة هو ليس منها، وغالبا ما يخفق فى مسعاه، فلا هى قادرة على قبوله بالحال التى يكون عليها، ولا هو قابل أن يتنازل عمّا ورثه من ثقافات ومعتقدات

ربما يقع نوع من التنازل يبديه المضّيف للضيف، فيغض الطرف عمّا يندّ عن حيثياته التى تشكل قوام هويته، وقد يبادله الضيف وبحسن الظن، ولا يجهر بما هو عليه، أو فى الأقل، لا يتمسّك بما ورثه من معتقدات، وسوف يمر زمن طويل قبل أن تتهذب مقاومة الطرفين فى عدم القبول من الطرف الأول، والنأى بنفس من الطرف الثاني. إن حياة الأفراد

اقرأ ايضاً| جليلة القاضي: هوية القاهرة تتبدل يوميًا | حوار

قصيرة، والحقب التاريخية الطويلة كفيلة بابدال الإعراض إلى قبول، فاستيعاب ينتهى بنوع من الصهر والاندماج. وفى ضوء ذلك فقد كان الآخر موضوع أخذ وردّ بحسب الأحوال

والغايات، إذ فى ما يكون مرغوبا فيه وقت الادعاء بالتنوع والتعدّد، يصبح غير مرغوب فيه عند القول بالانسجام والتآلف. ثمة تمويه فى إظهار الآخر على غير حقيقته، فترتهن مكانته بمقتضى تقلب الأحوال، فالآخر دخيل، ويقع فصمه عن نظام الانتساب العام لهوية المجتمع الحاضن له، ويجرى تمييزه بحسب شروط الأعراف السائدة فى العالم الذى دخل عليه، وغالبا ما يكون موضوع إقصاء قحم فى إطار جماعة صافية المعتقد أو ُإذا العرق أو المذهب أو اللون. وحيثما وقع تقليب أحوال الآخر يرتسم نوع الارتياب والالتباس. إن

التفاخر بقبول الآخر بما هو عليه، والزعم بأنه شريك كامل الأهلية فى الحقوق والواجبات، والتظاهر باستيعابه استيعابا تاما، وتكلّف القول بأنه بمثابة النفس، محض أقوال لا

براهين عليها فى السلوك الجمعى العام خلال الحقب الزمنية القصيرة. وليس خافيا أن الآخر، غالبا، ما يكون ضحية سوء التفاهم الثقافى بين الأمم حالما تشرع فى تركيب صور متخاطئة لبعضها، وليس من قبيل البهتان القول بأن معظم الأمم مهووسة بتركيب صور نمطية للأغيار لا صلة لها بحقيقة أحوالهم، فذلك هو دأبها فى العجز الدخلاء، فالآخر نتوء نافر لم يقع محو بروزه، ولا استئصال جذره باستيعابه ودمجه. ذلك هو واقع الأمر فى تجارب الأمم عبر التاريخ، والأزمان وحدها الكفيلة بإعادة ترتيب أوضاع الآخر فى المجتمع الحاضن له إلى أن يفقد هويته الأصلية، ويذوب فيه بعد وقت طويل من الضيافة المتعثرة، فمآله النسيان الذى هو نوع من عدم الاعتراف به. ينبغى استئصال كّل ما يذكّر بالماضى البعيد للآخر، فالجماعة المضّيفة لا ترغب فيمن يوقظها من سباتها الطويل. والحال، فتشتدّ حاجة الأمم للاعتصام بهوياتها الأصلية فى وقت الأحداث الجسيمة، والأزمات العميقة، والصراعات الكبيرة، فتخشى من الأغيار، وتنظر إليهم بعين الارتياب، وغالبا ما تسيء الظن بهم، أو فى الأقل لا توليهم الثقة الكاملة، فالشعور الجمعى يتوجّس خيفة من الأغيار، ويحسبهم مصدر خطر، ولا يفتأ يرمى عليهم المساوئ، ويقدح بأصولهم، وألوانهم، ومعتقداتهم. ذلك هو النهج العام الذى نهجته معظم الأمم فى علاقتها بالأغيار، وهو نهج تكرارى

اتخذ مظهر عادة لا يراد إعادة النظر فيها منذ الأزمنة القديمة. وكانت رهانات الأزمنة الحديثة غير تلك القديمة، فما عاد الإنسان عضوا منسوبا لجماعة عرقية أو اعتقادية أو

لونية، يتعرّف بها، وتتعرّف به، إنما وقع تغيير فى موقعه وهويته، فقد أضحى ذاتا تتعرّف بنفسها، وليس بامتدادها، تكتفى بشروطها الإنسانية، وليس بالروابط العرقية والدينية

واللونية. وبحسب هذا الزعم، فقد حّل الانتماء الفردى للمرء محل الانتساب القومى أو القبلى أو الدينى أو اللوني، فلا حاجة للتنقيب فى أصله إنما يكتفى بهويته الذاتية كائنا فاعلا

فى المحيط الاجتماعي، ذلك هو رهان الحداثة، وتلك فرضيتها العامة. ولكن ليس من الصواب القول بأن الأمم كافة قد استوعبت ذلك التغيير، وأخذت به، فما برح معظمها يرى فى الآخر دخيلا غير مرغوب فيه. فهو شخص انقطع عن سياق، وأخفق فى الانتماء إلى سياق آخر. وربما تكون الحداثة قد زادت من الأعباء التى تثقل كاهل الآخر، فحملته مزيدا من

الأحمال الجديدة فوق أحماله القديمة؛ فلئن ذوبت بعض التخوم الحاجزة بين الأمم، وفككت الانحباس المتوارث، ومن ذلك الروابط  التقليدية، فقد أوقدت فتيل خلاف من نوع آخر، لا يقل خطرا عن الأول، وهو إشاعة مفاهيم التفوق الحضاري، والثقافي، والديني، والعرقي، أى القول بتفوق أمم على أمم أخرى بذرائع كثيرة، ما جعل الآخر موضوع انتقاص،

ومحّل دونية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إنما رسّخت الحداثة نسق التبعية، وفجّرت حراكا فوضويا فى عمق المجتمعات التقليدية، تأدّى عنه انهيار الأنساق الأصلية فيها، وبإزاء

خطر التبعية الذى حملته الحداثة الغربية، أمسى من الضرورى التفكير بحداثة تقوم على التكافؤ، والشراكة، وليس التمايز والتراتب بين الأفراد والأمم، حداثة تضع الثقافات فى

منطقة مشتركة متفاعلة، وليس حجبها وراء أسوار التفوّق. وذلك، بصريح القول، استبداد نموذج حضارى بالنماذج الحضارية الأخرى فى العالم، مما دفع إلى إعادة بعث المشاحنات

العتيقة التى تخمّرت فى طّيات القرون الوسطى، وأمست تظهر بإشكاليات الهوية، والتمدّن، والخصوصية، والأصالة. ينبثق تفكير هوسى بالماضى حينما يكون الحاضر معتما، أو

أنه على مشارف تحولات جذرية بسبب تغيير داخلى يمور فيه، أو بفعل مؤثرات خارجية تزعزع أركانه. 

ثم أننى أريد طرق موضوع الآخر من زاوية القبول والاستيعاب، وليس الرفض والامتناع. فمن المحال قبول الآخر قبل التعرف إليه، فالتعارف هو الخطوة الأساسية للقبول، إن

اكتشاف الأغيار، وادراك الاختلاف معهم،وقبول ذلك الاختلاف أمر على غاية من الأهمية لأنه يفكك أواصر الانحباس فى وهم الهوية الأصلية، وعند توسيع القول فى هذا الأمر

بما يتخطّى حدود الأفراد إلى الأمم، فإنّ كّل تحالف بين الجماعات المختلفة ينبغى أن يكون مسبوقا بتعارف شامل، فليس يقوم أى تحالف من غير تمهيد بتعارف يقود إليه، أقول بضرورة التعارف الثقافى قبل التحالف الحضاري؛ لأن الثقافات أنظمة رمزية مرنة تتصل بالمعتقدات، والاعراف، وهى الحاملة للأفكار والمشاعر، فتكون قاعدة للتواصل، والتفاهم، والتفاعل.

وفى عالم تنوّعت حضاراته، ومعتقداته، وأعراقه، فبالوسع القول إنّ ثقافاته هى الإطار الجامع لمظاهر الاختلاف، ولذا يحسن البدء بها، وبما تكون عليه؛ فقد انبثق مفهوم الثقافة

من تداخل جملة من المعارف، والآداب، والفنون، والأديان، والتقاليد، وانسبكت فى قوالب من الأفكار، والعلامات، والرموز، والأعراف التى بها يعبّر الإنسان عن نفسه، وعن رؤيته العالم

الذى يعيش فيه، ومع ذلك، فالثقافات تتباين فى تشكيلاتها، وفى قدرتها على الوفاء بما تعد به، وهو أمر طبيعي، فحيثما يدور الحديث عنها، فلا محّل للتماثل، بل الاختلاف. وما

دام الاختلاف هو السمة الرئيسة من سمات الثقافات البشرية، فلا عجب أن تنشطر، فى العصر الحديث، إلى تقليدية ذات طابع محلّى وإقليمي، وحديثة ذات بعد قارى وعالمي، وكل

تيار منهما يعبّر عن مجتمعاته. ولا ينبغى الفزع من التباين الثقافى فهو محمود، وغايته استيعاب حاجات الإنسان، ولا تفلح ثقافة بعينها فى الوفاء بها كلّها. قال «ألان تورين » بأنّ «الحداثة انتاجٌ وابتكارٌ بمقدار ما هى وعى بالذات، وتحرير المجتمع من القوى التى ما زالت تأوى خلف جُدُر المقدّس» أى أنها مزيج من «ابتكار الذات بالعمل، وابتكار الحقوق الإنسانية»، فهى حركة ثقافية واجتماعية نزعت الإنسان عن هيمنة اللاهوت الديني. وما اقتصر أمرها على الجوانب.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة