خالد محمود
خالد محمود يكتب .. السينما الفلسطينية .. حضور مؤثر رغم القيود
الخميس، 19 أكتوبر 2023 - 09:16 ص
من جديد تفرض الاعتداءات الإسرائيلية الغاشمة على غزة النظر لمشهد السينما الفلسطينية المعاصرة خلال السنوات الماضية، وإلى أي مدى اشتبكت مع القضية وتقرير المصير، وهل استطاعت أن تحجز لها مكانا لائقا وسط الحالات السينمائية المشابهة في واقعها الاجتماعي والسياسي، وأن تفرض نفسها على الساحة.
نعم من الصعوبة رصد قضية كبيرة ومتراكمة من عشرينيات القرن الماضي، بكل تناقضاتها بسهولة، بجانب صعوبات التصوير والإنتاج التي تدفع صناع السينما الابتعاد عن الدخول في مشكلات تؤدي إلى عرقلة خروج الأعمال الفنية للنور.
والواقع أن هناك أعمال فلسطينية تحاول الذهاب إلى مناطق جديدة لم تعتد تسليط الضوء عليها من قبل في محاولة لتعريف العالم بأبعاد القضية من جوانبها المختلفة، وركزت على سرد قصص أهالي القرى المهجّرة بسبب الاحتلال، في عرض غلب عليه الطابع المجتمعي أكثر من السياسي، وهنا تكمن الأزمة، فباتت أغلب الأفلام تنسحب للقضايا الاجتماعية، متجاهلة أو متناسية القضية الأهم، وهي توحيد القوى الناعمة في وجه الكيان المغتصب.
هذا ليس اتهاما لصناع السينما الفلسطينية، فهناك بعض المخرجين الفلسطينيين “أصحاب القضية” انسحبوا إلى اهتمامات أخرى، وضلوا الطريق، وانغمسوا في إنتاجات دولية مشتركة لها شروطها ومواصفاتها، ولم تعد فلسطين شغلهم الشاغل، لكن هناك البعض الآخر من الذين لم يفقدوا الأمل بعد يجاهدون ويحلمون بدور أكثر تأثيرا لوصول قضيتهم قبل أن تفقد رمقها الأخير بصناعة أفلام ربما تشكل ضربات موجعة في قلب الإنسانية وتجعلها تنبض من جديد للإلتفاف حول حقهم في تقرير المصير، ووطن من حقه أن يعيش حياة طبيعية.
من هؤلاء المخرجين نجوى نجار التي قدمت فيلمها “بين الجنة والأرض” وهو فيلم جذاب وعصري، ورغم فيض الكآبة التي طالت معظم أحداثه، إلا أن به شيء من البهجة والأمل لأنه لم يغلق كل الأبواب أمام أبطاله، بل منحهم منفذ لرؤية جديدة يعيدون فيها نظرتهم لأنفسهم، وعلى أي أرض يقفون، وبالتالي بداية جديدة.
وخلال سرد السيناريو الذي كتبته المخرجة أيضا، نرى كيف يبدأ الأثنان البحث في ماضي والد تامر لإثبات محل إقامته الحقيقية لإتمام إلاجراءات، فتأخذهما الرحلة إلى طريق بين الضفة وهضبة الجولان، وفي اتجاهات عديدة يلتقيان خلالها بنماذج مختلفة من سكان هذا الطريق، ويتعرّف الزوجان على نفسيهما من جديد خلال رحلة البحث حتى يجد الزوج أمه الصماء التي فقدت الكلام بعد خطف مجموعات إسرائيلية ابنها الصغير، وأعطته لعائلة أخرى لتكتشف أن هذا ابنها، وتقوم باحتضانه ويلتقي بشقيقه كي يعيشا في النهاية حياة سعيدة.
كانت أزمات الوطن حاضرة كما كانت دائما في خلفية الأفلام السابقة للمخرجة، وهي أشبه بشبح يطارد الحياة اليومية ويشغل بال قلوب وأرواح الشخصيات المضطربة.
ويأتي أيضا فيلم “200 متر” للمخرج الشاب أمين نايفة، ليتناول قضية معقدة عبر قصة عائلة فلسطينية فرقها جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، حيث صار الأب مصطفى “علي سليمان” عامل البناء يعيش مع والدته في الجانب الفلسطيني بالضفة الغربية، وخلف الجدار - الذي بنته إسرائيل عام 1994 - تعيش زوجته سلوى “لانا زريق” وأطفاله في الأراضي المحتلة الخاضعة للسلطة الإسرائيلية.
يرفض مصطفى الحصول على التصريح الذي يسمح له بالعيش في إسرائيل مع زوجته وأطفاله، معتقدًا أن ذلك يضفي الشرعية على الخط الأخضر، لذلك يفضل استخدام تصريح عمله للعبور، لكن تتصاعد الأحداث لنرى كيف أن عنصرية الاحتلال تحول دون لم شمل هذه العائلة، وفي أحد الأيام يدخل أحد أبنائه المستشفى، ويحاول الأب الوصول إليه للاطمئنان عليه، ومن ثم يكون عليه أن يجد طريقة لعبور الجدار، لكنه يحتاج للسفر هاربًا في رحلة تمتد لـ200 كيلو متر، بينما هو لا يبعد سوى 200 متر عن ولده.
قيمة الفيلم تكمن في واقعية صورته خلال رحلة البحث عن حلول، والأداء المبهر لبطله الممثل علي سليمان الذي أصر على الذهاب لأسرته والوقوف بجانب ابنه، رغم منعه من عبور الحاجز والوصول إلى الطرف الآخر من الجدار، وكانت انفعالاته مؤثرة للغاية.
كشف الفيلم الذي رسخ لمبدأ أن الحياة تعكس الفن، وكيف يمكن للواقعية المؤلمة والمستمرة أن تشكل بذرة لصناعة سينما حقيقية كما حدث في “200 متر” الذي يعد من أفضل الأفلام الفلسطينية التي تتحدث عن القضية على مستوى الفكرة وتطوير السيناريو وصورته الاحترافية الجيدة، وكيف أظهر بدون أي افتعال أن الوضع معقد، وأن فلسطين التي شاهدناها دولة أسيرة، فنقاط التفتيش في كل مكان لا يمكنك السفر أو القيام بأي شيء دون موافقة السلطات الإسرائيلية.
في رؤية جاءت مغايرة لنموذج آخر من السينما الفلسطينية التي تدعو للتصالح والتسامح مع المحتل بشكل يثير كثيرا من التساؤلات، قدم المخرج رشيد مشهراوي فيلمه “كتابة على الثلج”، تناول في أحداثه الانقسامات التي نالت من فلسطين ــ وطن ومجتمع ــ بمفرداتها السياسية الأيديولوجية والدينية والجغرافية، التي تنمو على أسس عرقية طائفية، فيما تلقي الأحداث أيضا بظلالها على الانقسامات الموجودة بالوطن العربي، وكأنه حالة عربية ممتدة، فالعمل في جانب منه لا يتعامل فقط مع الحالة الفلسطينية، بل ينعكس أيضا الحالة العربية، بينما يظهر بين ثناياه أن المحتل هو المستفيد من تلك الانقسامات، يسرد الفيلم شخصيات يدفعها تفكيرها لإعادة النظر لذاتها ربما تصل للحقيقة الغائبة، وهي لماذا أصبح الوضع الراهن هكذا، وهو ما أوحى بأن الإنقسام “الفلسطيني ــ الفلسطيني” أصبح همًّا ثقيلا وأخطر من الاحتلال، وكل الصراع الذي يدورعلى السلطة يكون تحت الاحتلال، أي أن ما نتصارع عليه هو السلطة لا نملكها.
فيلم المخرج رائد انضوني “اصطياد أشباح”، الحاصل على جائزة أفضل وثائقى بمهرجان برلين، وقدم فيه إعادة تركيب للواقع، واقع السجناء والذاكرة المؤلمة للمخرج نفسه الذي أمضى في سجن المسكوبية الشهير بقسوة المعاملة بداخله 3 سنوات، ويصور طريقة التحقيقات التي يقوم بها الاحتلال مع السجناء الفلسطينيين.
في الفيلم يضع المخرج رائد أنضوني إعلانا بصحيفة في رام الله، أنه يبحث عن السجناء السابقين من مركز إستجواب المسكوبية في القدس، حيث قضوا مرحلة من حياتهم، في إعلانه يطلب أنه يجب أن يكون لدى هؤلاء الرجال أيضا خبرة الحرفيين والمهندسين المعماريين، لأنه سيشارك من يقع عليهم الاختيار ليس فقط في تجسيد أدوارهم بالسجن، وما تعرضوا له بداخله، لكن ليساهموا ببناء ديكور لنسخة طبق الأصل من غرف الإستجواب بالمركز كما شاهدوه في الواقع، حيث ستكون القاعات تحت إشراف دقيق من السجناء السابقين وبناءً على ذاكرتهم، ثم بعد ذلك يقومون بإعادة تمثيل عمليات الإستجواب، وهذا هو ما يجري بالفعل داخل أحداث الفيلم، فالمخرج والمساجين يدخلون طوال الوقت في مناقشة تفاصيل صغيرة حول مشاهد العنف وعن الإهانة التي واجهوها أثناء احتجازهم، بإستخدام تقنيات تشبه ما يسمى “مسرح المضطهدين”، حيث يعملون معا لتهويل تجارب الحياة الحقيقية، وأجمل لحظات الفيلم هي أن تلك الذكريات المؤلمة أعادت مشاهد الصدمة إلى الواجهة من جديد لتترك تأثيرها الكبير على الرجال جسديا وعقليا على حد سواء، لإندماجهم الكامل في تجسيد المأساة التي يعيشونها.
وطوال الوقت يهيم حولك السؤال: “أنت أمام سجناء سابقين أم ممثلين يجسدون شخصيات اعتقلت بالسجون الإسرائيلية؟،” إنهم بلا شك الأثنان معا، فالكادر يطوف طوال الوقت بين صرخات أوقات مؤلمة، وأحلام تسكن حريتها الجدران، لقد أراد رائد أنضوني أن يتجاوز كل أشباح ومآسي تجربته الشخصية، بل ويهزمها بداخله بعمل يجسد فيه شخصيته الحقيقية كمخرج ذاق الاعتقال، وهو يصور حاضره وحاضر أبطاله، في لغة سرد تلمس معها بسخرية الذكريات والتشوهات النفسية أحيانا.
مع تتابع المشاهد تكتشف أن الآلام لا تزال حية بآهاتها داخل شخصيات أنضوني، وهو ما يعبر عنها حديثهم عنها طوال الوقت، ليضفي حميمية واقعية، فالكثير من مشاهد الإنهيار والدموع والآلام نتابعها في رحلة بناء السجن.
ويقدم فيلم المخرج هاني أبو أسعد “عمر”، إطلالة جديدة على الواقع الفلسطيني تتسم بالجرأة تتيح لنا التفكير في تناقضاته مع أنفسنا وتعقيدات الصراع في الشرق الأوسط وفق حبكة بوليسية، أبطالها 4 شباب يحاولون العيش بكرامة ضمن واقع لا يرحم أحلامهم البسيطة بالعيش الكريم، منهما قصة واقعية لشاب وشابة فلسطينيين تجمعهما قصة حب ويفصل بينهما الجدار العازل الذي بنته إسرائيل.
يظهر الفيلم مدى العنف الذي يتعرض له الشباب الفلسطيني، والذي يعكس عنفا آخر في قلب مجتمعهم المحاصر، والعرضة لكل التأثيرات من قبل المحتل الذي يتلاعب بمصائر شخصيات الفيلم، ليصبح كل منهم في النهاية إما قاتلا وإما مقتولا، إما مناضلا وإما عميلا.
فيما يحمل فيلم “غزة مون أمور” للأخوين طرزان وعرب ناصر، رسالة كبرى، وهي إستمرارية الحياة وسط عبثية العيش، والرغبة في الحب بغض النظر عن العمر، في مقابل دنيا حاصرها اليأس طويلا.
الفيلم يلتقط أحداثه بنظرة مبهجة رغم أن الظلام يحيط بها، فنحن في منطقة مزقتها النزاعات بمدينة غزة المعاصرة، حيث تدور الأحداث حول عالم عيسى “سليم ضو”، صياد تجاوز الـ60 عامًا، يقع في حب سهام “هيام عباس”، وهي أرملة تعمل خياطة وتعيش مع ابنتها ليلى المطلقة، ويخفي حبه عنها طويلا، وفي إحدى رحلات الصيد يعلق في شبكته تمثالٌ برونزي أثري لأبولو، يعقد أمالا كبيرة ليغير مسار حياته، وحين يحاول اخفاء التمثال عن رجال “حماس”، يتم كشف أمره واستجوابه وسجنه بزعم أن التمثال ملك للسلطات الفلسطينية، ولا يأبه عيسى بأي شيء سوى التفكير في إعلان حبه لسهام، ويقرر الإقتراب منها، ويفكر في أن يتقدم لها طالبا الزواج، ويأتي ذلك على خلفية مشهد المناخ السياسي بغزة التي تعاني كثيرا، وتعيش حالة من النضالات اليومية، وتحديات تشكل أساس الحياة بها، وإن كان الفيلم يضفي الطابع الإنساني على تجارب مواطنيها، حيث يفتح مشاهده على أصوات إطلاق النار في التلفزيون، القصف المنتظم من قبل الجيش الإسرائيلي يخيم على الأجواء، مع إستمرار المجتمع في أنشطته المعتادة، وفي جميع أنحاء غزة، نشهد أيضًا انقطاعًا يوميًا في التيار الكهربائي، وتوقفًا متكررًا عند نقاط التفتيش التابعة للشرطة، ونشهد إستمرار تشغيل نشرات الأخبار حول تحرير قطاع غزة.
يفضل الأخوين ناصر الغوص بقصصهما الإنسانية على خلفية القضايا المجتمعية شبه المعقدة، وعلى طريقة كوميديا العبث منذ فيلمهما الروائي الطويل الأول عام 2015، “Dégradé”.
وهما هنا يواصلان الرحلة على أرض شبه مدمرة، وكذلك بشرها الذين مازالوا يتمسكون بالحلم، ففي خضم القصف والحرمان الاقتصادي لا يزال عيسى يمارس مرارًا وتكرارًا سعيه بحب المرآة التي يريدها، على الرغم من التحديات.
ويأتي فيلم المخرجة مي مصري “3000 ليلة” ليتحدث عن قصص حقيقية من الواقع الذي عاشه الآسيرات داخل السجون الإسرائيلية، وبداية نضال الآسيرات السياسيات، حيث كانوا يضعوا الآسيرات الفلسطينيات السياسيات مع المحبوسات جنائيًا ورغم قسوة المشهد لواقع مليئ بالمصداقية، إلا أن الفيلم صور قيمة التمسك بالحلم والمقاومة.
مي تعاملت مع القضية الفلسطينية من زاويتيها السياسية والإنسانية، من خلال بطلتها الشابة الفلسطينية “ليال”، التي تعتقلها قوات الأمن الإسرائيلى في نابلس عام 1980، بعد تلفيق تهمة لها.
وتتعرض ليال لمواقف صعبة أولها عندما يضغط عليها مدير السجن حتى تتجسس على زميلاتها، لكنها ترفض، بل وتنجح في اكتساب ثقة اللصة المدمنة “شالوميت” الإسرائيلية بعد أن تساعدها عند تعرضها لأزمة صحية، وفي السجن تكتشف “ليال” أنها حامل، وتنجب طفلها بالسجن، وفي عدة مشاهد مؤثرة نراها تحاول أن تعلم طفلها “نور” كيف يطير العصفور، بعد أن ترسم له ملامحه، وبرعت ليال أو الممثلة ميساء عبدالهادي في أداء تلك المشاهد بعينيها وتعبيراتها الموجعة لها ولنا.
ويكبر نور تدريجيا داخل المعتقل الإسرائيلي، وتزداد الضغوط عليها لكي لا تشارك في الإضراب الذي تنظمه السجينات الفلسطينيات احتجاجا على تدهور الأوضاع داخل السجن، وكذلك على مذبحة صبرا وشاتيلا التي عرفن عنها من خلال قصاصة صحفية أتت بها “شالوميت” إلى “ليال”.
وعندما تحسم أمرها وتشارك في الإضراب تنتزع الحارسة الشرسة ابنها منها، سيناريو الفيلم الذي كتبته مي أيضا كان سلسا في تنقله بين عوالم متعددة لشخوص مختلفة داجل السجن، وهو ما حرصت عليه لتوحد المشاعر بين جميع الفئات والأعمار، فهناك المناضلة التي تبدو متشككة من البداية في سلوك “ليال”، التي كادت تستسلم للضغوط الإسرائيلية تفاديا لإنتزاع طفلها منها، و”رحاب” التي تقبل بالتجسس سعيا للخروج إلى ابنيها التي تركتهما، إلى الفتاة التي ترتبط بقصة حب مع سجين، تتلصص عليه من أعلى الحاجز الذي يفصل النساء عن الرجال بالسجن.
التفاصيل كانت مهمة، خاصة ميلاد الطفل بالسجن، وهو ما يمنح الأمل.
مثلما لعبت السينما دورا محوريا في سياسة الدعاية الصهيونية بجانبها الوثائقي والروائي، لتطيح ببشر ووطن، لخدمة أهداف كل مرحلة من مراحل الصراع العربى الصهيونى، وحاولت باستماتة ضياع هوية المواطن الفلسطيني وجذوره، يمكنها أيضا أن تعيد طرح الوقائع وتهدم ما هو زائف عبر قصة الشعب والأرض، يمكن للسينما أن تلعب دورها وتعيد الإنسانية إلى الإلتفاف حول مائدة الحق والتعاطف مع شعب سلبوا منه الأرض والعرض.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة