إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

رقابة غربية على مشاعر عربية !

إيهاب الحضري

الأربعاء، 25 أكتوبر 2023 - 07:52 م

البكائيات حيلة العاجز. وأنا عاجز لا أملك إلا القدرة على تشكيل عبارات قد تستدر تفاعل من يتبنّون مشاعرى، وربما لا يُكمل آخرون قراءتها لأنها مجرّد نحيب لا يُغنى ولا يُسمن من وجع!
 

الأيام كلّها تتشابه. لون الدم يجعلها مجرّد وحدات زمنية مُستنسخة برتابة. الدمار الشامل يتسبب فى تداخل الجمعة مع السبت والأحد. أيام مُقدسة فى ثلاث ديانات، تنتهك حُرمتها آلات غدْر تستبيح مدنيين عُزّل، برعاية دُول كبرى ذات نظرة قاصرة، تتحامل على بشر ضاقوا بالظُلم، فقرّروا التخلى عن الصراخ مؤقتا، وقاموا بردّ فعل قلب حسابات العالم. إنه المظلوم حين يفيض به الكيْل، فيقف على حافة فاصلة بين الموت قهْرا.. والموت قتلا. 

بحر البقر.. وبحور غزة

يوم ما:

لا أذكر تحديدا متى دخلتْ ذاكرتى دائرة الوعى، لكنى أدرك الآن أن تفاصيل الماضى صارتْ ضبابية، تتداخل الأحداث وتبقى منها ملامح عامة. لولا الاستعانة بـ«الإنترنت» لظللتُ أكرّر بعض الحكايات، على مُستمعين أعرف أنهم لن يُرهقوا أنفسهم بمراجعة التواريخ، فكل ما يعنيهم فى تلك اللحظة أن أتوقّف عن سرد قصصى المُكرّرة.

لو أننى عشتُ فى عصر سابق وقررتُ تدوين الأحداث، لارتكبتُ جناية فى حق التاريخ، مثلما فعل المؤرخون القدامى دون قصد، فآفة البشر كلهم النسيان، والمفارقة أنه يتحول فى أوقات كثيرة إلى نعمة.. لا نستطيع أن ننالها.

كل أكتوبر، أستعيد الحكاية نفسها، وأروى ذكرياتٍ تعود إلى أيام أعقبتْ جريمة قصف مدرسة بحر البقر الابتدائية. فى هذا الشهر تزدحم الفضائيات بأفلام حاولت الإمساك بتلك اللحظات الاستثنائية فى تاريخ الوطن، وخلال استحضار النصر من الطبيعى أن تكون جريمة إسرائيل حاضرة. أروى لمن يوقعه حظه البائس فى طريقى أننى عاصرتُ مجزرة الأطفال البشعة. فى ذلك الزمان البعيد عشتُ بمنزل جدى فى الشرقية، وتوقفتُ عن الذهاب إلى المدرسة مع باقى الأطفال، بقرار من سُلطة خافت علينا من مجازر أخرى مُحتملة، يرتكبها أحفاد دراكولا الذين أدمنوا الدماء، وكأن حياتهم تنتعش بموت الآخرين. 

أتابع مآسى أشقائنا فى غزة وأشعر بمعاناتهم، ليس فقط لأن الألم موصّل جيّد للأحزان، بل لأننى عايشتُ الخوف طفلا مع صوت أية طائرة تقترب. فى الليل ظلّ الظلام رفيقا دائما، وسط تحذيرات دائمة من خطورة الضوء الذى يجذب انتباه العدو. لم تعِش القرى رفاهية مُدنٍ تطلى زجاج نوافذها باللون الأزرق، فيمارس سكانها حياتهم بحُرية نسبية داخل الشقق المضاءة، لأن أشعة النور لا تتسرّب إلى الخارج. الخطر المُتوقع وقتها لا يُقارن بدمار حاضر يحصد أرواح إخواننا، ويجعل العُمر لحظة والموت سنوات. أتابع الشاشات فى حضرة الوجع، ولا أندهش من عالم أحمق يجعل المظلوم جانيا، ويتعاطف مع السفاحين كضحايا، رغم أنهم يشقّون بحور الدماء. لا أندهش لأننى اعتدتُ ذلك منذ استيقظ وعيى ذات فترة من عُمرى على قضيتنا المُزمنة. 

بفضْل سياسات الدول الكبرى اكتسبتُ مناعة ضد الغيظ من انعدام المنطق، غير أن إحساسى بالألم يتزايد، أحبس الدموع وأنا أقرأ وصية طفلة تقرر منح ألعابها لصديقاتها وأحذيتها للفقراء، أو خلال متابعتى لطفل يُلقّن صديقه الشهادة، وينتابنى الغضب ممن يزعمون أن الفلسطينيين فجروا مستشفى المعمدانى، رغم تصريحات قادة الاحتلال المتكرّرة، التى تزعم أن المستشفيات الفلسطينية مخازن للذخيرة، مما يؤكد أنهم دمّروا «المعمدانى» مع سبق الإصرار والترصّد. ينسى الزعماء المتآمرون كل ذلك، والمهم لديهم أن ينجو القاتل الحقيقى من جريمته، وكأنهم لم يقرأوا تاريخ مجازره، ولا تابعوا محاولات استثمار فشله فى ترويج مخططات تهجير قديمة.

«فلاش باك»

يوم سابق:

كان العدو يجترّ أحزان أكتوبر، بينما نعيش ذكريات نصرٍ عُمره خمسون عاما. الأجيال الجديدة لم تُعايشه غير أنها توارثتْ بهجته من حكايات الآباء.. الذين هم أبناء جيلي. بدورنا، عاصرنا الانتصار أطفالا وانتقلت إلينا عدْوى البهجة، من آباء استمتعوا بمذاقها بعد سنوات من كابوس الهزيمة. على الجانب الآخر ظلّ العدو يحاول التشكيك وصناعة الأكاذيب، إلى أن فاجأته صدمة أخرى بعد نصف قرْن، والمفارقة أنها جاءت فى الشهر نفسه لتكشف من جديد خواء عسكريته وأجهزة مخابراته العديدة. أمام الزلزال لم يجد أمامه إلا الزيْف، فبدأتْ ماكينات دعاياته فورا فى اختلاق أكاذيب تمنحه التعاطف. وهو ما تحقّق عند رأى عام غربى مستعد لتعاطى الكذب بتلقائية يُحسد عليها. انطلقت كذبة ذبح أبطال المقاومة لأطفال الاحتلال، وترددتْ على ألسنة زعيم دولة عُظمى، قبل أن تعتذر عنها فضائية أمريكية شهيرة وتؤكد عدم حدوث الواقعة من الأساس. من يرغب فى تبرير تعاطفه مع الظلم لن يهتم بالتكذيب، لأنه لو اهتم سيكون مطالبا بشجْب مذابح الأبرياء. بدمٍ بارد يسفك السفاحون دماء مدنيين عُزّل، تحت رعاية سامية من قادة يمنحونهم غطاء شرعيا، بزعْم حقهم فى الدفاع عن وجودهم أمام كائنات غير بشرية!

شهادة وفاة حرية التعبير!

البكائيات حيلة العاجز. وأنا عاجز لا أملك إلا القدرة على تشكيل عبارات قد تستدر تفاعل من يتبنّون مشاعرى، وربما لا يُكمل آخرون قراءتها لأنها مجرّد نحيب لا يُغنى ولا يُسمن من وجع! أستحضر معركة السابع من أكتوبر، وأقول لنفسى: على الأقل هذه المرة ندفع ثمن ردّ فعلٍ ضرَب الآخر فى مقتل، وهو الذى اعتاد إزهاق أرواح أشقائنا دون مقابل يُذكر.

ردّ فعل تناسى العالم المُتحضر أنه جاء حصيلة سياسات خرقاء لحكومة مُتطرفة، ومن أشعل النيران لا يرغب أن يُطفيها. تعامل العالم مع التحذيرات المتتابعة من خطورة التصعيد الإسرائيلى، باعتبارها ضجة بِلا طحْن، وعندما وقع الزلزال هرب الجميع من توابعه، وانتقدوا الأرض لأنها تجرأت واهتزت احتجاجا على القهر.

فى اليوم الأول تابعتُ ما يجرى بشغف، وفى الأيام التالية شاهدتُ المجازر بشجن، ثم صرتُ أختزل الأحداث فى صور نتداولها وتعصر قلوبنا ألما، بينما تتبارى وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل المنحازة فى حجبها، لتمارس رقابة مُسبقة على المشاعر، وتكتب شهادة وفاة حرية التعبير، التى اعتاد الغرب استخدامها كسلاح سابق التجهيز فى وجه من لا يُعجبه.

سيذكر التاريخ ذات صحْوة أن جريمة إعلام الزيف لا تتمثل فى قمع الرأى فقط، بل فى محاولة إجهاض الكلمات والصور، ليُضلل ضمائر بشر يعيشون فى مناطق أخرى من الكوكب، ويزرع فى قلوبنا كراهية تنتقل عبر الجينات لأجيال أخرى، فتبقى منطقتنا دائما فوق صفيح ساخن.

رحمة.. والكلام المُباح

يوم آخر:

أعترف أننى خضتُ أكثر من مغامرة لإتقان إحدى اللُغات الحية، وفى كل مرة لم تستوعبنى سوى «العربية». هى الوحيدة التى تمنحنى القُدرة على التفكير والبوْح، بينما اعتادت الإنجليزية مثلا أن تتخلى عنى. فى كل مرة اضطر للحديث بها أظلّ أبحث عن الكلمات ثم أنشغل بتركيب الجُملة، وينتظر مُحدثى الأجنبى ما يجود به لسانى. يتوقع منى الكثير ويُفاجأ بأن ماكينة ضخ الكلام عندى تُنتج قماشا يحتاج إلى عملية «ترقيع» صعبة، فيقوم فى المقابل باستنتاج ما أقصده. فى النهاية نصل إلى منطقة وُسطى، تتطلب غالبا الاستعانة بلغة الإشارة كى نبلغ حافة التواصل!

الظروف غير مُهيأة للسُخرية.. حتى لو من نفسى. لكنى استحضرتُ تاريخى المَرضى مع اللّغات، وأنا أتابع طلاقة الفتاة الثائرة فى مواجهة إعلامية أمريكية. فى تحوّل دراماتيكى غير معتاد، لم أنشغل هذه المرة بالتركيز على الملامح النسائية لطرفى المعركة الكلامية. حدّة عبارات الإعلامية رحمة زين لامستْ غضبى، وشدّ كلامها المُباح أزرى، وتمنيت أن تفهم الأخرى «روح الكلام».

بالتأكيد كانت كلمات رحمة مفهومة لمراسلة سى إن إن، لكن من قال إن استيعاب المعنى وحده يكفى؟ هناك كلمات تحتاج لضمائر تستوعبها فى زمن اكتسب ألوان الحرباء، وأصبحت القناعات فيه نابعة من المصلحة وليس الضمير.

هنا فقط ندمتُ على ما مضى من عُمرى، لأننى اكتفيتُ بلغة لا تصل للعالم رغم أهميتها. اكتفيتُ عبر سنوات طويلة بما يكفل لى تواصلا مقبولا مع أصدقاء أجانب أعرفهم، يُحقّق لى المُستهدف بينما يبقى عاجزا أمام الأحداث الكُبرى. وهكذا اكتشفتُ أننى مُصاب بالخَرَس، لأن توصيل القناعات وكشْف الزيف يحتاج إلى بنية لُغوية أساسية تدعمه، كى يتمكن المنطق من تحقيق غاياته.

تعدّدت الأزمان والموت واحد

عودة لليوم الأول:

فى البدء كان الحب، وفى النهاية طلع الحزن علينا من ثنيّات الفزع. كلمات تختزل إحساسا عشناه فى طفولتنا، ونحن نخشى قذائف غدْر تهبط علينا من السماء دون موعد سابق. تتداخل صور أطفال بحر البقر مع أبرياء غزة. تعدّدت الأزمان والموت واحد، بينما تتسع مساحة الزيف، وبعد أن كان العالم يشجب ويُدين، أصبح يقف فى صف القتلة ويكذب دون أن يتجمّل. لا أعرف ما الذى جعلنى هذا العام تحديدا أرغب فى اختبار ذاكرتى. المهم أننى بحثتُ عن تاريخ مجزرة بحر البقر، واكتشفتُ أنها وقعتْ فى إبريل 1970. فى ذلك الشهر البعيد كان عمرى أقل من عامين ونصف. بالتأكيد لم أنقطع عن المدرسة لأننى لم أكُن قد ألتحقتُ بها أصلا. أتعجب من حكاياتى القديمة وأحزن على ذاكرتى المتآكلة. لكن فجأة أجد أن الأمر لا يخلو من دلالة مُبشّرة. اقتلوا من شئتم ولا تعتقدوا أنكم فى مأمن، لأن الذكريات تخضع لقوانين الوراثة، ومن زرع مجزرة سيغرق فى دماء شهدائها.. ولو بعد حين.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة