يؤمنون بالعلم  حتى لا يؤمنوا بالعلم
يؤمنون بالعلم حتى لا يؤمنوا بالعلم


يؤمنون بالعلم حتى لا يؤمنوا بالعلم

أخبار الأدب

الإثنين، 13 نوفمبر 2023 - 01:00 م

قصة: بريندا نابارو

حماتى تسميه الوزن. هل تريدين الوزن؟ أجيبها بنعم بإشارة من رأسى وأتركها تقيس السعرات الحرارية والدهون التى فقدتها أو اكتسبتها أسبوعيًا. دراسة تفصيلية للدهون، ومؤشر كتلة الجسد، والدهون الحشوية، والعضلات الهيكلية، والكتلة العضلية، ونسبة المياه فى الجسم، والكتلة العظمية، ونسبة البروتين، ومعدل الحرق، وعمر الأيض. كل ذلك فى أقل من ثلاثين ثانية. عندما يقوم الوزن بعمله، ينطلق جرس صغير معلنًا صدور الحكم وأننا سنتقابل فى غضون مائة وثمان وستين ساعة. وحينئذ، يمكننى النزول من هنا، وارتداء ملابسى والذهاب للاستحمام كى أخلع مجددًا قميص النوم الذى يتفحصنى بدقة ويصدر أحكامًا قاطعة علىّ. إذا وضعت قليلًا من الصابون الذى يباع فى ميركادونا وغسلته على يديك، جيدا، يمكن أن يستعيد لونه الأبيض الأصلى مثلما اشتريته. من أين اشتريته؟ طرحت محال الكورتى إنجليس علامتها التجارية الخاصة، ربما وجدت هناك ما يمكنك شراؤه. أخبرينى، سأقوم بإيداع أموال لك، هل يتعلق الأمر بالمال. نعم، أقول نعم لكل شىء: يتعلق الأمر بالمال، نعم. ومن الجيد أن تقومى بوزنى، أن ترسلينى للاستحمام، وغسل الملابس والأطباق، وأن تعطينى تعليمات. علمينى أن أفكر بالطريقة التى تقترحينها، فمن المؤكد أنه سيكون أفضل. 

وأنا لست أنا، رغم أننى كذلك. أنا أيضا شخص آخر ما زال يحتل جسدى، ووجهى، واسمى، وحياتى. أنا ولا أنا. وهذا يعنى، أن هناك أنا منى: خطواتى وإرادتى، ورغبتى فى خدمتها، وطاعتها. يتعايش ذلك مع أنا الداخلية وتستمر من خلال ما أقوله، وأفكر فيه، وأسمعه، وأقوم به مع كل فعل سلبى وخاضع فى الوقت ذاته. أنا. تلك، المطيعة، الجادة والصامتة التى طالما راقت لحماتى وتشعر أنها يمكن أن تتحدث معها لساعات. انظرى كم هى جيدة علاقتنا. لا أحد يصدقها،  تقول لى ثم تقترح علىّ أن ألقى نظرة على الوصفات من خلال هاتفى وتطلب منى أن أرسل ما يروق لى من وصفات منصة كوكيدو لطهوها على جهاز الترموميكس الذى أهدانيه ابنها منذ بضع سنوات. لاحقاً، تطهو لى أطباقاً (لن أتناولها) رئيسية تحتوى على قشر البياض والسردين والذرة الصفراء وتحفظهم لى فى أطباق تابر وير زجاجية مرتبة بشكل جيد فى الثلاجة ثم تودعنى بقبلة، وتنظر لى بشفقة وتخبرنى بأننا سنتقابل. (سنلتقى مجدداً). يجب أن أكون على يقين من أننا سنتقابل مجدداً. أتقولين ذلك لى؟ أسألها وتؤكد ذلك، وأنه لابد  من أن أصدق أن هذا سيحدث: أننا سنتقابل فى الدائرة. 

أنا تلك، التى علاوة على ذلك، فى بعض الأحيان، تبتسم لها وتجيبها باقتضاب كأنى ولدتُ منذ فترة قصيرة. لم تعرفنى هكذا. كنت أنا ولم نكن نستطيع الحديث أكثر من إلقاء التحية رغم تبادل الابتسامات كلما جمعنا ابنها. كيف حالك، كيف تسير الأمور؟ وتعانقنى وترد عليّ وتأخذنى من يدىّ وتبتسم لي، رغم أننى فى تلك اللحظة كنت لا أزال غير قادرة على تجاوز تلك الحقيقة التى تفصلنا بشكل واضح أمام العالم. مكانها ومكانى البعيدان واللذان يتقاطعان زمنياً ومكانياً قليلاً جداً. 

ربما يعود ذلك لشعورى بأننى جزء من الأرض أكثر من عالم التكنولوجيا. أفضل أن ألمس وأن ألُمس. طعم الليمون، حرقان الجرح تحت الصابون، وسخونة الشاى. احتكاك يدى ابنها بجلدي. الغضب من استجوابى أو مواجهتى لكونى مختلفة، لعدم تفاعلى مع حماسها، لعدم رغبتى فى أن أحيا حياة نظيفة، لعدم قدرتى على التطلع لأشياء مثل تلك التى تتطلع إليها. 

بالطبع فهمت. كنت واعية بشكلٍ ما، أن كل هذه العناية، والنظام، والمثابرة من أجل أن يكون كل شيء مثالى، على نحو ما، أكثر ما يجذبنى لابنها، الذى يحيا على أطراف أصابعه كما علمته. أشعر بالإثارة لتشويهه، بعثرة أفكاره، وإرباك قناعاته. عض أذنيه وإسالة اللعاب على إيقاع رغباته المكبوتة. هل تشعر بالشغف تجاه أمر ما؟ أتحداه ويجيب بنعم، أننى من أن أثير شغفه. ورغم ذلك، كان يدربني: يتعهد بأن يوضح لى أن الحياة أفضل مع النظام. العشرة آلاف خطوة، الركض خمسة عشر كيلومترًا بهرولة، دقائق التنفس لإعادة ملء الرئتين، بتزويدها بالأوكسجين وتنقيتها، كان طاهراً، تطلع دوماً أن يصبح شيئاً طاهراً. 

هكذا أصبحت شفافة وفى كل احتفالات أعياد الميلاد ومواكب الملوك المجوس وكل أيام الاحتفالات التى يتوجب علينا الذهاب لبيتها كان يبدو عليّ نوع من السرحان، والارتياب، أبدو معها كشبحٍ. ويتكرر نفس الأمر: كيف الحال، أهلا، هههه، ما هذا، ما ذلك؛ لكن بحدودٍ واضحة تظهر فيها حدتها وتسلطها، وتنظيمها للمنزل فى حين أكتفى بأن أكون ظلاً صامتاً يبتسم على الرغم من شعوره بالحياة. يزعجنى اختفاؤك كلما زرنا عائلتي. ألا يمكن أن تبذلى بعض الجهد.لا أطلب منكِ سوى بضع ساعات. وبعد ذلك، دائماً ما يكون هناك بعد ذلك، نذهب لاحتساء الشراب مع أصدقائنا ونقضى وقتاً سعيداً. أنتظر أنا الأخرى. أنا الحقيقة. التى تضحك، وتتحدث، وتتحرك وتنبض بالحياة.
ربما أتمسك بذكرى الضحكات. الضحكات. نقطة ضعفى هى الضحكات. ضحكات هنا، وضحكات هناك. ضحكات الآخرين وضحكات المجاملة للسخرية من طبيعة العالم. هل شاهدتِ الرئيس، هل شاهدت الوزير، هل رأيتِ الممثل، هل رأيتِ اللاعب، رأيتِ هذا وذاك؟ ثم ضحكات. ضحكات طوال الوقت مع ابن حماتي. دائما ضحكات، حتى التى أتظاهر بها، فلو لم تخرج طبيعية كنت أجعلها كذلك: ببسط العضلات، وإبراز أسنانى خارج شفتى وإصدار صوتٍ يحاكى الضحكات. ربما لا أكون أفضل زوج، لكنى أضحكك. ونضحك. يا للضحكات. حياة زوجية قائمة على الضحكات. حتى انتهت.

خمسون نبضة فى الثانية على مدار حياته أفنت نفسها كى يستطيع قلبه القوى المقاومة حتى لم تعد قادرة. وفجأة حدث اختلال النبض، والدوخة، والشعور العام بالضيق. لكن ماذا حدث؟ لم يحدث شىء، بل لم يعد يحدث شىء: توقف القلب الذى كان ينبض عن الخفقان. هكذا، بين يوم وليلة، دون سابق إنذار. ابن حماتي، أثناء إلقائه نكتة استطاعت انتزاع ضحكته، وقع بين الأكواب والأطباق على المائدة. كحركة أخيرة. كوميديا هزلية. أنا الحقيقية تسمرتَ، وشعرت أنا الأخرى بالبزوغ. تشبثت حماتى التى لم تستطع أن تصدق بكل إمكانية للاحتفاظ به قريباً منها. هكذا توافقنا على أن هذا أفضل شيء. أنا الأخرى معها. كلانا دون ابنها. أنا الحقيقية محبوسة فى الوزن، وأنا الأخرى تتعايش مع الذكرى، والحنين، والحداد الذى لا ينتهى. 

كان الوزن عبارة عن إحدى الخطط المستقبلية التى يتم بيعها أونلاين. باشتراك شهري. وخصم 30% إذا تم الاشتراك لمدة سنتين، متضمناً نفس الجسد، ووجهاً حقيقياً. هيئة كنا نحتاجها نحن الاثنتان كى تتوقف معاناة الحداد: الكلام، الأكل، الرقص، التسوق. برامج شخصية. كيلومترات مفصلة وطرق. لدى خمسة. يمكننى الذهاب من الجنوب للشمال ومن الشرق للغرب. نهاراً، يعمل ببطارية شمسية يُعاد شحنها، وليلاً، يتم توصيل الجهاز اللاسلكى بشبكة الواى فاى. أغلقه فى أيام المطر بشكل تلقائي، لأنه على الرغم من تأكيد الشركة أنه عازل للمياه بدرجة كاملة إلا أن حماتى كانت تشك بذلك. نؤمن بالعلم حتى نكفر به. تقول ذلك بسبب ابنها، كان بطء القلب عيباً خلقىاً وأكدوا لها أنه لن يسبب أى مشكلة. هو لم يستطع برمجته، لم يكن هناك اتفاق. أنا كنت حازمة. منحت نفسى الأخرى غير القابلة للاستبدال بشرط وحيد وهو ألا يجعلنى أتحدث بصدقٍ معها. ألا يلجأ إلى ماضيّ وأن يكتفى بعمل روتين غير مرهق. ألا تتحدث عن ابنها، ألا تذكر ألمه. أن يصبح مثل دميةٍ تعتنى بها وتطعمها كلعبة. قبلت. هذا أفضل أن أحيا بمفردي، أنت أفضل من لا شىء منه. هى أفضل من أن أعيش وحيدة.

اقرأ ايضاً|«الجميلات النائمات» في متحف متروبوليتان بنيويورك

لا أتذكر اسمها، ولا اسمى ولا اسم ابنها. احتفظ بفكرة وجود نسخةٍ منى أتمسك بها عندما يقومون بتحديث وظيفتي. تمسكى بكينونتك الحقيقية، يعيده عليّ صوت أنثوى مُسجل بداخلي. تمسكى بكينونتك الحقيقية، طالما أردتِ الحياة. لكن من أنا الحقيقية، يتبقى القليل، أخسر كل شىء. لا أعرف لكم من الوقت.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة