أسامة عجاج
أسامة عجاج


يوميات الأخبار

ذكريات غزاوية

أسامة عجاج

الخميس، 23 نوفمبر 2023 - 08:43 م

ثلاث زيارات لقطاع غزة، فى سنوات ومهمات مختلفة، خلال أكثر من خمسة عشر عاما، وهو فى كل مرة، يعانى سكانه من الاحتلال والإغلاق والاعتداءات الإسرائيلية، ولكن روح الصمود لم تنتهِ، وفعل المقاومة أبدا لم يختفِ.

الزمان: الأول من يوليو ١٩٩٤

المكان: معبر رفح على آخر الحدود بين مصر وفلسطين

المناسبة: وقائع أحد الأيام المفصلية فى مسيرة القضية الفلسطينية، والذى مثل التماس الصحفى الأول لى مع قطاع غزة، حيث كنت شاهد عيان على واحد من المشاهد التاريخية فى مسار القضية، لحظة عودة الزعيم الفلسطينى الشهيد ياسر عرفات بعد غياب استمر ٢٧ عاما، كانت اللحظة استثنائية فى تاريخ النضال الفلسطيني، وله شخصيا، عندما أجبر على النزوح قسرا بضغوط إسرائيلية، بعد أن بدأ فى تنظيم خلايا ثورية لحركة فتح، وقام بعدد من العمليات الجهادية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وباعدت الأيام بينه وبين وطنه، ولكنه لم ينسَ أبدا أرض الصبا وأيام طفولته، حتى كانت اتفاقيات أوسلو فى عام ١٩٩٣، كانت بداية رحلة العودة من مطار العريش.

حيث قام الرئيس الراحل حسنى مبارك باستعراض حرس الشرف مع الرئيس الفلسطيني- وهذا هو اللقب الجديد- ياسر عرفات، مع حرص وإصرار مبارك على اصطحابه بالسيارة إلى منفذ رفح النقطة الحدودية بين البلدين، حيث عانقه متمنيا له النجاح فى مهمته الصعبة والجديدة، وأتذكر وكنا مجموعة من المحررين العسكريين، نستقل أتوبيسا تابعا للشئون المعنوية للقوات المسلحة، مع ركب من السيارات المرافقة للزعيم، لتبدأ رحلة العودة، سجد عرفات شاكرا لله بعد أن عاد ليس متخفيا كفدائي، ولكن تحت بصر وأمام أعين العالم، تدافعت الحشود من كل الجهات على أبو عمار، طوال الطريق.

مشوار العودة

 دخل عرفات ومعه مرافقوه فى طريق خاص يمين المنفذ دون توقف، حيث استقبله عدد من أعضاء المجلس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، تم رفع أعلام فلسطين، ولوحات الترحيب وكتب على واحدة منها (أهلا بك فى معبر الأنبياء والرسل)، استمر الموكب حتى ميدان الجندى المجهول، والذى تحول إلى كتلة بشرية متراصة، وصلت بعض التقديرات بهم إلى أكثر من ربع مليون فلسطيني، ولم يقتصر الحضور على أهل القطاع، بل وصل غزة فلسطينيون من القدس ورام الله ونابلس والبيرة وأريحا، كلهم متعطشون لرؤية القائد الرمز، تسلق بعضهم الأشجار وأسطح المنازل، وما إن ظهر حتى اندفع إليهم كاسرا لسياج قوات الأمن، محطما الحواجز.

والتى كانت مهمتها فقط منع الجماهير المحتشدة، من الاقتراب من المنصة، ويومها كان اللقاء الأول وجها لوجه بين أبو عمار والفلسطينيين فى الداخل، تغيرت خلالها أمور كثيرة، شباب تحول إلى شيوخ، وتخطت القضية عقبات، وواجهت أزمات عديدة حتى كان اتفاق أوسلو، وزار عرفات من بين عدد من الأماكن فى القطاع مخيم جباليا، وهى التى شهدت انطلاق الانتفاضة الأولي، يومها خاطب عرفات عشرات الآلاف من المحتشدين، وقال (لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما حصلنا عليه من تسوية، فى ظل الظروف العربية والدولية) لم ينسَ عرفات الدور المصري.

فقال: (إنه دور أساسى ولن أنسى للرئيس مبارك أنه جاء يسعى على قدميه ليوصلنى إلى وطني، وهى خطوة مباركة، ونحن ننتظر من مصر الكثير، فهى الدولة القائد فى المنطقة) يبدو الوضع فى القطاع كارثيا، حيث خرب الاحتلال كل مقومات الإنتاج، فى القطاعات الزراعية والصناعية، وسيطرت على موارد المياه، وفرضت ضرائب عالية، مع انهيار تام للبنية التحتية.

من جديد فى غزة

أعادنى خبر تفجير، عدد من قوات النخبة من وحدة جولانى فى الجيش الإسرائيلي، للمجلس التشريعى الفلسطينى فى، غزة منذ أيام ذكرى زيارتى الثانية للقطاع بعد عامين من الأولي، فالمبنى رمز فلسطينى مهم، الزيارة كانت مهمة، فالهدف تغطية أعمال الدورة الـ ٢١ للمجلس الوطنى الفلسطيني، والأولى له بعد قيام السلطة الفلسطينية.

وكان هدفها الأساسى هو تعديل الميثاق الوطنى الفلسطيني، بما يتلاءم مع اتفاقية أوسلو وحذف أى مواد أو بنود فيه تتناقض مع ذلك، لقد كانت إحدى اللحظات الفارقة حيث نجح أبو عمار فى ضمان دخول كل أعضاء المجلس الوطني، رغم تحفظ تل أبيب وصل عددهم إلى ٨٦ من بين ٦٠٠ عضوا، ومنهم أسماء لامعة قادت عملية فدائية ضد إسرائيل، منهم أبو العباس أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية الذى اشتهر تنظيمه بخطف السفينة السياحية الإيطالية أكيلى لاورو، ومنهم أيضا تيسير قبعة الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وفاز قرار التعديل بأغلبية كبيرة زادت على الثلثين المطلوبة، حيث وافق على القرار ٥٠٤ ورفضه ٥٤، وامتنع عن التصويت ١٤، يومها نجح عرفات فى تجاوز معارضة شرسة من رموز فلسطينية مهمة، كانت رافضة، استخدم عرفات قدراته فى إقناع الأعضاء بالمنطق والعواطف، لدرجة انه قال لهم، (وافقوا حتى يعرف كل منكم أين سيتم دفنه) وللتاريخ فإن التعديل لم يكن بدون ثمن، حيث قام حزب العمل الإسرائيلى الحاكم فى ذلك الوقت، بعقد دورة استثنائية، وقام بحذف البنود التى ترفض قيام دولة فلسطينية، بما يعنى «تنازل مقابل تنازل»، «وتعديل مقابل تعديل»، «وحذف مقابل حذف».

كما قام بيريز يومها بالموافقة على سحب القوات الإسرائيلية من مدينة الخليل، وكانت الملاحظة المهمة لى بعد عامين، من عودة أبو عمار، استمرار التحديات الاقتصادية والأمنية على السلطة، فهناك تدهور للبنية التحتية وارتفاع معدلات البطالة، وجزء كبير منها يعود لإسرائيل، وتلكؤ الدول المانحة فى دفع التزاماتها المالية لدعم السلطة.

المرة الثالثة

مرت عدة سنوات، وتحديدا فى أغسطس ٢٠٠١، غبت جسدا عن قطاع غزة والضفة والقدس، ولم أغب صحفيا أبدا، عن كل ما يجرى من تطورات يوميا فى مسار العلاقات المتوترة دائما بين الحكومات الإسرائيلية مهما كانت انتماءاتها، والسلطة الفلسطينية، نتيجة الممارسات العدوانية التى تقوم بها ضد الشعب الفلسطينى من اعتداءات، وإغلاقات، واستمرار لعمليات الاستيطان، التى تؤثر على حل الدولتين، وشعور فلسطينى عام باستحالة استمرار الوضع على ما هو عليه، وانتهاء الفترة المقررة لإنهاء المرحلة الانتقالية عام ١٩٩٩.

وفقا لاتفاقية أوسلو، مع عدم تطبيق تل أبيب للعديد من الاتفاقيات الموقعة، مما خلق انطباعا شعبيا فلسطينيا بعدم جدوى عملية السلام، وأضيف الى ذلك فشل قمة كامب ديفيد، والتى كانت المحاولة الأخيرة لإيجاد حل، بعد أن جمع الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون وأبو عمار ورئيس الوزراء الاسرائيلى يهودا باراك فى يوليو ٢٠٠٠، نتيجة رفض عرفات تقديم أى تنازلات تخص مدينة القدس، وكانت النتيجة فى سبتمبر من نفس العام، حيث اندلعت الانتفاضة الثانية، بعد اقتحام شارون زعيم المعارضة وأعضاء من حزبه الليكود المسجد الأقصي، وبدء مواجهات بين الفلسطينيين، وكانت الشرارة الأولى للانتفاضة الثانية.

وقررت السفر إلى غزة والضفة، بمناسبة دخول الانتفاضة عامها الثاني، وكانت فرصة للعديد من الحوارات ولأول مرة مع الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة حماس والذى تم نشره فى سبتمبر ٢٠٠١ فى مجلة آخر ساعة، وهو مؤسس الحركة، والذى تحول إلى رمز للمقاومة الفلسطينية فى الداخل، أثناء فترة سجنه نتيجة صدور حكما عليه فى عام ١٩٨٩ بالسجن مدى الحياة، بتهمة إعطاء أوامر بقتل متعاونين مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وأطلق سراحه عام ١٩٩٧ فى عملية تبادل للأسري، مقابل اثنين من العملاء الإسرائيليين، تم القبض عليهما فى الأردن حاولا اغتيال خالد مشعل.

الشهيد المؤسس

وقد تم اللقاء فى منزله الأكثر من متواضع، فى حى الشجاعية أحد أحياء مدينة غزة الفقيرة، الرجل قعيد يجلس على كرسى متحرك، يعانى من ضعف فى السمع والنظر، هو جسمانيا (بقايا إنسان) ولكنه رمز، زادته سنوات محنة الاعتقال الطويل صلابة وعزما، يقول (المقاومة هى الطريق الوحيد لمواجهة الاحتلال، يرصد بإعجاب تجربة مصر فى تحرير سيناء، بعد نصر أكتوبر، وما قامت به المقاومة فى لبنان، عندما قلت له (ألا تخشى من اغتيالك من قبل إسرائيل) قال بحسم (الذى يخاف هو من يحب الدنيا الذين بنوا العمارات، وأقاموا فى الفلل، وامتلكوا السيارات وجمعوا المال، أما الذين باعوا أنفسهم لله، فلا يخافون نحن طلقنا الدنيا، ونطلب الشهادة، ويسعون إليها، جنازات الشهداء تتحول إلى عرس، يوزعون الحلوى والمشروبات) وقد نالها بعدها بثلاث سنوات، وتحديدا فى مارس عام ٢٠٠٤، بهجوم صاروخى أثناء عودته من صلاة الفجر، فى عملية إرهابية أشرف عليها آرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلى بنفسه

كما التقيت مع أبو عمار فى مقره فى (المنتدي) وسط مدينة غزة، وتم نشره فى أخبار اليوم، وهو لا يختلف كثيرا عن مكتبه فى تونس، قاعة اجتماعات ومكاتب لمساعديه، وغرفة ليقضى فيها ساعات نومه المحدودة، ويومها قال (لى نحن جميعا مشاريع شهادة، وكشف لى تفاصيل الخطة (جهنم) الذى ينفذها شارون فى حق الفلسطينيين، ومخططات إسرائيل لفصل مدينة الخليل القديمة عن ضواحيها، للسيطرة على المسجد الإبراهيمى واستمرار العدوان على كل مناطق قطاع غزة.

كما كانت الزيارة فرصة لعمل تحقيق ميدانى فى أحد معسكرات كتائب الأقصى الجناح العسكرى لحركة فتح، وتم نشره فى مجلة آخر ساعة، وكانت فرصة أيضا، لرصد أحوال الوضع على الأرض فى تقرير مهم نشر فى الأخبار، فى الخامس من سبتمبر من نفس العام، تحت عنوان ملفت وهو (الأخبار شاهد على النازية الإسرائيلية)، وتناول عمليات هدم المنازل فى القطاع، رفح ودير البلح وخان يونس. 

هذه بعض من كل، عندما كنت شاهد عيان على أحداث تاريخية، مرت على قطاع غزة وفى الضفة والقدس.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة