نوال مصطفى
نوال مصطفى


يوميات الأخبار

هل ترغب فى الحياة بعد المئة؟

نوال مصطفى

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023 - 08:43 م

«فلسفة الخلق، الحياة، والموت وما بينهما.. سر إلهى، سرمدى، عجيب، تأملى لكل ذلك جعلنى أشكر الله على نعمة الحياة التى وهبنى إياها»

سؤال راودنى وأنا أتابع سلسلة حلقات وثائقية أعدتها منصة الأفلام «Netflix» عن الذين يعيشون بعد المئة، بحثوا عن البلدان التى يكثر وجودهم فيها، أسلوب حياتهم، ماذا يأكلون، ما هى عادات نومهم، كيف يمضون أوقاتهم الطويلة، التى من المفترض أن تكون مملة بعدما كبر الأولاد واستقلوا بحياتهم؟ والأهم من هذا كله كيف يفكرون؟ ما هى منظومة المعتقدات والعادات والأفكار التى يؤمنون بها، والتى ساعدتهم على أن يعيشوا تلك الحياة الممتدة بصحة جيدة، واستمتاع؟.

هى فعلا سلسلة ممتعة، تتضمن معلومات، وأفكاراً مهمة لأى إنسان يريد أن يعيش رحلته فى الدنيا براحة بال مهما طالت أو قصرت. فالحياة هبة يمنحها الله لعباده، وهى هدية غالية من الخالق الوهاب، تستحق أن نحتفى بها، ونثمنها حتى الرمق الأخير. وكما قال شاعرنا محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

وضعنى عنوان هذه السلسلة الوثائقية «الحياة بعد المئة» فى حالة تأمل، تبعها حوار، أشبه بمنولوج داخلى، سألتنى: هل ترغبين حقا فى الحياة بعد المئة؟ بعد تفكير عميق انطلقت إجابتى على سؤالى قاطعة، طبعا «لا».

وهنا تتابعت على شاشة عقلى صور لأشخاص أحبهم، رأيتهم فى محطاتهم الأخيرة فى الحياة، بعضهم كان فى سنواته الماضية نموذجا للحيوية، محبا للحياة، منطلقا، مغامرا، متجدد الفكر، دائم العطاء، ثم تحول إلى إنسان معتقل داخل جسده الواهن عندما امتدت به الدنيا إلى سنوات طوال. تابعت كيف دخل بعضهم فى حالة اكتئاب، وشعور بالوحدة، وحزنت على انطفاء الشعلة التى كانت متقدة بالحياة، مشعة بالأمل.

تخيلت نفسى فى هذا الموقف، فلم أرغب فى أن أكون كذلك، وأدركت حكمة الخالق العظيم الذى يجعل لكل أجلٍ كتاباً، والذى لم يجعل الخلود اختياراً فى حياة الإنسان، وإلا صارت الحياة جحيماً لا يطاق، بين ملل رهيب من فرط تكرار ما يحدث، أو وحدة موحشة بعد رحيل كل من أحببناهم، وصنعوا أجزاءً أصيلة فى ذاكرتنا.

فلسفة الخلق، الحياة، والموت وما بينهما.. سر إلهى، سرمدى، عجيب، تأملى لكل ذلك جعلنى أشكر الله على نعمة الحياة التى وهبنى إياها، وأشكره كذلك على نعمة الموت حينما يحين الأجل، فهو عندئذ رحمة لنا، وعبرة للآخرين.

باعثو الحياة

يبهرنى الأشخاص القادرون على بعث الحياة فى أى شيء. إحياء فكرة، إعادة ترميم وتصميم مبنى متهالك، تجديد ملابس قديمة بتغيير جوهرى فى شكلها، خلق قطع فنية فريدة أصلها أثاث قديم، تجاوزه الزمن، أو نالت منه عوامل التعرية. هؤلاء الذين يملكون موهبة خاصة جدا لتحويل التالف إلى لافت، وفاقد القيمة إلى شيء نفيس، يضاهى الماركات المعروفة، ويتفوق عليها. أراهم أصحاب موهبة فريدة، ترى الجمال المختفى داخل القبح، وتبرع فى انتزاعه، تلميعه، إحيائه، ليخرج قطعة نادرة من الجمال.

من هؤلاء، صادفت نموذجاً راقياً، رائعاً لسيدتين تشاركتا فى هذا الشغف، موهبة تحويل كل شيء متواضع القيمة إلى تحفة فنية. يفعلون ذلك بلمسات وأفكار مبتكرة، وخيال عظيم. التقت مروة ونانسى مصادفة فى كورس للأعمال اليدوية، فتلاقت أرواحهما، مثلما تقاطع حبهما للحرف اليدوية، وقررتا بدء مغامرتهما لتأسيس مشروع صغير تحولان فيه الأثاث القديم، الهالك إلى جديد، بالغ الأناقة والجمال، متقن الصنع.

شاركت السيدتان فى معارض «تراثنا» بأعمالهما المبتكرة، شديدة الجمال والروعة، وأقبل جمهور تلك المعارض على إنتاجهما، زارتهما الفنانة القديرة إسعاد يونس وشجعتهما على الاستمرار والنهوض بمشروعهما، كذلك أثنت الكاتبة الكبيرة أميرة سيد مكاوى على منتجاتهما فى صفحتها على فيسبوك مهنئة، متحمسة لهذا العمل المبدع.

مثلهما كثيرون لكننا لا نعرفهم، استطاعوا أن يؤسسوا منتجاتهم المصرية الصنع، العالية القيم، هؤلاء يؤكدون لى دائما أن مصر هى وطن الموهبة والإبداع، وأن أبناءها هم حقا أحفاد الفراعنة، القادرون دائما على بعث الحياة وخلق الجمال فى كل شيء، حتى الخواء.

محفوظ والحكيم

تستهوينى حكايات أدباء مصر المؤثرين، الرائعين، تستوقفنى علاقاتهم الشخصية ببعضهم بكثير من الإعجاب والتأمل. منذ فترة، شاهدت حوارا تليفزيونيا للأستاذ نجيب محفوظ على قناة ماسبيرو زمان، كان الحوار بمناسبة عيد ميلاد الأديب القدير توفيق الحكيم الثامن والثمانين، وكانت المحاورة هى الإعلامية سهام صبرى. أثناء هذا الحوار الممتع، تحدث نجيب محفوظ عن توفيق الحكيم، فماذا قال؟

أدين لتوفيق الحكيم بما يدين به التلميذ لأستاذه.

عيد ميلاد الحكيم هو عيد فرح للثقافة والفن.

الصفات الأصلية فى الشخصية المصرية تجسدت فى كتاباته بما تحمله من فكاهة وصبر، خاصة فى روايتيه الشهيرتين: «عودة الروح» و»يوميات نائب فى الأرياف» ومن أجواء هاتين الروايتين خرجت معظم أعمالى تأثرا بهما، وبأدب الحكيم الفريد.

بدأت علاقتى بالحكيم منذ 1947 واستمرت دون انقطاع.

وقال محفوظ : ركز الحكيم فى «عصفور من الشرق» على نقطتين أساسيتين: اندماج الغرب فى القيم المادية، وتطلع الشرق إلى القيم الروحية. لكنى أرى نقطة تلاقٍ بينهما، تتمثل فى تلك العلاقة الإنسانية، الإيجابية القائمة على تبادل المنافع، والتجارة، والثقافة، والعلم الذى تقدمه الحضارة الغربية للعالم. أما على المستوى السياسى والعسكرى، فهناك صراع قديم بينهما عبر العصور المختلفة، منذ أيام الدولة الإغريقية، والرومانية، الفتح الإسلامى، ثم الاستعمار.
هكذا تحدث نجيب محفوظ أديب مصر عن توفيق الحكيم أديب مصر أيضا بروح محبة، امتنان، وصدق نادر يحمل حبا أصيلا للفن والأدب، وتبجيلا حقيقيا لكل من يعطى من فكره وإبداعه لإثراء الثقافة والأدب العربى. هنا يتجرد الأديب الحقيقى من الأنانية، الغيرة، والحقد، وتسمو مشاعره بالحب الخالص لرفقاء الدرب، الذين يجد معهم القرب والونس.

«سويت» نوفمبر

أحب شهر نوفمبر. ربما لأننى ولدت فيه، وأنتمى إلى مواليد برج القوس، وإن كان البعض يحسبنى على «برج العقرب» لأن يوم ميلادى هو أول يوم فى برج القوس. أنا شخصيا أحب أن أكون «قوس» ليس «عقرب». أحب كذلك الفيلم السينمائى الذى يحمل اسم «sweet November» وهو فيلم جميل، ملهم. فى يوم ميلادى يغمرنى الناس بحب رائع، كل يعبر بطريقته، يعطينى هذا إحساسا بالسعادة. أشعر أننى حصدت حبا لا يقدر بثمن، ومن المؤكد أننى زرعت بعضا من بذوره بتلقائية على مدى عمرى. فالحب بذرة تنمو بالعطاء، وتنضج بالاهتمام، والصدق.

أتأمل ما مضى من العمر، فأشعر بالرضا، امتن كثيرا لله عز وجل الذى وهبنى الكثير من نعمه، وعلى رأسها محبة الناس، وحب العطاء، كانت أمى رحمها الله تقول جملة مأثورة، لا تزال محفورة فى قلبى وعقلى «من أحبه الله، حبب فيه خلقه» ولهذا أشكر الله كثيرا على هذه العطية الثمينة، وأشكر أمى التى زرعت فىّ حب العطاء، والتمسك بالعمل، لأنه سند المرأة وعمودها الفقرى، مثلما هو للرجل تماما. أشكر أبى الناشر القدير الذى بث فى جيناتى حب الثقافة، وعشق حبر المطابع، وشكل الحرف على الورق.

ليلة الفرح

أخيراً توقف إطلاق النار فى غزة مؤقتاً، ولمدة أربعة أيام بعد وساطة مصرية قطرية قوية تلعب دوراً أساسياً فى مجرى الأحداث. شاهدنا عملية تسليم الرهائن من قبل حماس، وإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين من قبل إسرائيل. واحد أمام ثلاثة، واحد من الرهائن مقابل ثلاثة من المعتقلين الفلسطينيين.

الدور المصرى قوى جدا، وجهود الرئيس عبد الفتاح السيسى فى إدارة الأزمة موضع تقدير من العالم كله، وليس الفلسطينيين فحسب. ابتداء من الإصرار على دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح رغم التشدد الإسرائيلى فى البداية، لكن مصر نجحت ودخلت المساعدات كشرط للسماح للمحتجزين الأمريكان بالدخول إلى رفح.

الرئيس الأمريكى بايدن اتصل أكثر من مرة خلال الأيام الماضية، وعلى مدار أيام الحرب بالرئيس السيسى للتنسيق والتشاور، وفى خطابه مساء الجمعة الماضية وجه الرئيس الأمريكى شكراً عميقاً للرئيس السيسى بشأن الوصول إلى هذه النتيجة المهمة على الأرض، فتوقف إطلاق النار لهدنة مدتها أربعة أيام، وتم بالفعل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، والمعتقلين الفلسطينيين.

صور لقاء الأسيرات الفلسطينيات بأسرهن جاءت مؤثرة، لقطات إنسانية تهز القلوب، والغريب أن النسبة الأكبر من المعتقلين من النساء، خمسة وعشرون امرأة وأربعة عشر طفلا، أطلق سراحهم فى اليوم الأول للاتفاقية، ثم توالت خطوات تنفيذ الاتفاق عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

خطوة مهمة وإيجابية هدأت كثيرا من نار القلوب الملتاعة على ما يحدث فى قطاع غزة. المفترض أن يستمر تبادل الأسرى مقابل الرهائن، نتمنى جميعا أن ينتهى هذا الكابوس الطويل الذى يعيشه المواطنون المدنيون فى قطاع غزة، وأن يستيقظ ضمير العالم لوضع تسوية شاملة وعادلة لهذه المأساة المستمرة منذ خمسة وسبعين عاما، وآن لها أن تنتهى، ويسدل عنها الستار من خلال حل الدولتين والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينى المشروعة.

لكن هذا كله يقودنى لسؤال مهم: هل استفادت القضية الفلسطينية فعلا من عملية «طوفان الأقصى»؟ لقد دفع عشرات الآلاف من مواطنى غزة أرواحهم فى هذه الحرب المجنونة، غير المتكافئة، تحطمت منازل، مدارس، ومستشفيات، وأصبحت غزة «الأرض المحروقة»، بلا طعام، أو كهرباء، أو حتى الحد الأدنى من الحياة الآدمية. ويأتى تصريح نتنياهو أن الحرب سوف تستمر حتى القضاء على حركة حماس، وسوف تستأنف الحرب بعد الهدنة، فإلى أين يمضى مصير قطاع غزة والضفة الغربية، ومتى يعيش أطفال غزة الأبرياء مثلما يعيش غيرهم فى العالم ؟ متى ينعمون بالدفء والأمان والاستقرار؟.
كلمات:

يا إلهى لماذا يموت الأطفال؟.. لماذا لا ترفعهم إلى السماء مؤقتا.. ريثما تنتهى الحرب، ثم تعيدهم إلى بيوتهم آمنين؟.. وحين يسألهم الأهل محتارين أين كنتم؟.. يقولون مرحين «كنا نلعب مع الغيوم».

فيودور دوستويفسكى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة