د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران


يوميات الأخبار

فى ضيافة فهمى عمر والهوّارة

د.محمد أبوالفضل بدران

الخميس، 21 ديسمبر 2023 - 07:18 م

عُدنا للديوان أجلسنا بجانبه على الدكك التى تحمل تاريخا مشرّفا بينما يجلس أبناء القبيلة فى نظام متوارث؛ كِبار السن أولًا ثم الأصغر فالأصغر ومهما كانت وظيفتك ومركزك المهنى فالسنُّ له الأولوية

فى ديوان الهمّامية

كان الصباح شتاءً صعيديا وأنا أتوجه إلى قرية الرئيسية بنجع حمادى موطن الإعلامى الكبير الأستاذ فهمى عمر شيخ الإعلاميين ورئيس الإذاعة السابق وعميد قبائل الهوّارة وكبير الهمامية، والمولود فى 1928 أطال الله عمره؛ وتذكرتُ عندما كنتُ رئيس اتحاد طلاب كلية الآداب فى الثمانينيات دعوتُه لندوة بالجامعة فأكرمنى بحضوره ومعه الشاعر فاروق شوشة والشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، كان المسرح يعج بالدكاترة والطلاب وتحدث فهمى عمر فكان أكثرنا فصاحة وبلاغة وحضورا إعلاميا متميزا، يعطى كل حرف حقه صوتيا ودلاليا وجاء صوت فاروق شوشة بكل جمالياته وأنشد محمد إبراهيم أبوسنة قصائده الجميلة ولاسيما «غريبٌ أتى من قنا» وكانت ندوة لا تُنسى، فى الجمعة الماضية بصحبة ابن العم أخى الأستاذ محمد عبدالفتاح آدم سكرتير عام محافظة الأقصر وأمين حزب مستقبل وطن بقنا توجهنا لزيارة سيادته، وصلنا قبيل صلاة الجمعة، يقف الأستاذ فهمى عمر فى استقبالنا ومعه كبار الهمّامية، وأسعد بلقاء النائب طارق رسلان الذى كان فى استقبالنا أيضا وبعض طلابى الذين درسوا على يدى وجمع من أصدقائى من الهوارة، بدا الديوان مُشرقا، توجهنا جميعا لصلاة الجمعة فى مسجده الملاصق لديوان الهمامية، أشفقتُ على خطيب المسجد المفوّه وهو يلقى الخطبة وبين الحضور فصيح بليغ وهو فهمى عمر، عُدنا للديوان أجلسنا بجانبه على الدكك التى تحمل تاريخا مشرّفا بينما يجلس أبناء القبيلة فى نظام متوارث؛ كِبار السن أولًا ثم الأصغر فالأصغر ومهما كانت وظيفتك ومركزك المهنى فالسنُّ له الأولوية، ولديهم مَن وصل أعلى الرُّتب إذا وقفَ الكبير وقفوا وإذا جلسَ ظلوا واقفين حتى يأذن لهم بالجلوس، يشكو لى من هذه العادة، لكنى أقول له: توقير الكبير من الإيمان، لكنه لا يريد أن يتعبهم، ويسرد لى عن تعليمه بقنا وكيف كان يبحر بالنيل حتى يصل إلى مدرسته الثانوية بقنا.

خمسون عاما وراء الميكروفون

فى برنامج سنوات التكوين الذى يقدمه الإعلامى الفصيح حسين الناظر، يتحدث الإذاعى فهمى عمر عن قصة التحاقه بالإذاعة فور حصوله على ليسانس الحقوق عام 1949، وتقديم أوراقه للالتحاق بسلك النيابة العامة، وتأخر إعلان النتائج بسبب انتخابات الوفد، فبادر صديق له بتقديم طلب له للالتحاق بالإذاعة ليمتحن أمام لجنة الإذاعة ليتم اختياره مذيعا مع تدوين ملاحظة بضرورة التخلص من اللهجة الصعيدية وقد دوّن ذكرياته فى الإذاعة فى كتابه «خمسون عاما وراء الميكروفون» يبهرنى بذاكرته وفصاحته، يتذكر كيف دخل عليه فى الاستديو أنور السادات ليلقى بيان الثورة وكيف قرأ البيان قبل أن يلقيه ليكون أول إعلامى يطّلع على بيان الثورة وكم أكبرتُهُ وهو يؤكد حرصه على اللغة العربية وعن أمنيته أن نهتم بها فهى هويتنا الخالدة، وحينما أسأله عن اللغة فى ألسنة المعاصرين يلجأ إلى قوله تعالى{وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي} ويأسى على لافتات المحلات والشركات المكتوبة بحروف لاتينية فى أرجاء مصر مناشدا مجْمع اللغة العربية أن يهب لتصويب هذا الأمر؛ وآمل من النوّاب أن يتبنَّوا قانون اللغة العربية وقانون مجمع اللغة العربية. أعود إلى ذكريات الإذاعى الكبير فهمى عمر وكيف قدّم الشاب الصغير عبد الرحمن الأبنودى فى برنامجه الشهير «مجلة الهواء» ليشق طريقه ويغدو الشاعر الأشهر.. سِربٌ من الحكايا الممتعة من ذاكرة وطنيٍّ غيور على بلده تنساب على شفتيه بفصاحته المعهودة وصدقه المعروف وتواضعه الجم.

الأمير همام عظيم الصعيد

أسأله عن جده الأكبر الأمير همام عظيم بلاد الصعيد (وُلد فى عام 1709 م وتوفى فى 7 ديسمبر 1769) وكتب عنه الجبرتى وزاره الرحالة الأجانب، ومنهم الأسكتلندى جيمس بروس الذى استضافه همام فى فرشوط، وهو فى طريقه لاكتشاف منابع النيل فى أفريقيا.. يبتسم الأستاذ فهمى متذكرا عندما هاتَفه الدكتور لويس عوض ليجلس معه كى يحدثه عن جده الأمير همام والتقيا وأعطى للدكتور لويس بعض الوثائق والمخطوطات عن جده ليكتب د. لويس عوض فصلا فى كتابه عن الأمير همام، ورحتُ أتساءل لماذا لا يُدرج الأمير همام فى المناهج الدراسية؟ هؤلاء رموز الوطنية والانتماء، وهم جديرون بالتكريم، ولذا أودّ أن أرى ترميم جامِعه وقلعته وآثاره وأن تكون من المزارات السياحية، وقد زرتُ مسجده من قبل وهو بناء أثرى مدهش وقرأتُ على خشبة واجهة المسجد الرئيسة أبيات شعر بالنحت البارز مؤرّخةً بناءه وتشييده وقد كتبها على تابع شيخ العرب همام وقد صوّرها أخى الدكتور عصام حشمت وكيل كلية آثار قنا عندما ذهبنا لرؤية المسجد وقلعة الأمير همام:

لجامعِ همام بن يوسف رونقٌ/ به لاذت العبَّاد من كلّ وجهةِ

عليهِ علاماتُ القبولِ لوائحٌ/ وقد طابَ من أرجائه كلُّ بقعةِ

فيا داخلا بالبابِ أُدعُ لمنشئٍ/ وأرّخْ «يسـدُّ الله شــرّ المنيةِ»

ويؤكد الأثرى الدكتور أيمن هندى مدير آثار قنا اشتغال بعثة فرنسية مع كلية آثار جامعة عين شمس فى التنقيب عن آثار الأمير همام بفرشوط وستعلن الوزارة عما اكتشفته قريبا؛ لذا آمل من د. مصطفى وزيرى الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار وهو يعرف قيمة الأمير همام أن يرمم مسجده الذى زرتهُ ويعانى من إهمال واضح وأن يستكمل ما بدأه من اكتشافات وترميمات لما تبقى من آثاره التى شاد بها الجبرتى وهو يكتب عن الأمير همام وعن عدله وحكمته وحُسن تدبيره. ومن الصدف السعيدة أن يكون يوم زيارتنا الهمامية يصادف مرور ذكرى وفاة جدهم شيخ العرب همام بن يوسف وقد كتب صديقنا الحقوقى النابغة الدكتور منتصر يوسف الهمامى على صفحته «اليوم تطل علينا الذكرى ٢٥٤ مائتان وأربعة وخمسون عاماً على رحيل الجناب الأجل والكهف الأظل.. شيخ العرب همام أمير بلاد الصعيد، شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيح بين سيبيه الهوارى عظيم بلاد الصعيد ٨ شعبان ١١٨٣ هجرى = ٧ ديسمبر ١٧٦٩ ميلادية».

مسلسل شيخ العرب همام

نتجاذب أطراف الحديث مع زعيم الهوارة الأستاذ فهمى عمر لأسأله عن رأيه فى مسلسل جده «شيخ العرب همام» فيقول لى: إنه من خلال النائب المحترم اللواء خالد خلف الله تناقش مع المؤلف قبل عرض المسلسل ووعده أن المسلسل سيكون رائعا ومحايدا ويعطى حق زعيم حكَم إمارة من المنيا إلى أسوان وقاتل بحسه الوطنى المماليكَ، ولكنْ عندما شاهدتُ أول حلقة بالمسلسل فوجئتُ باختيار ممثلين لا يتناسبون مع الشخصيات التى يؤدونها وبأحداث ومشاهد لم تقع وأن القائمين على المسلسل لم يصِلوا لشخصية الأمير همام بل ابتعدوا عن شكله ونُبله وكرمه وعدله وحبه الأولياء ونضاله الوطني، وأغلقتُ التليفزيون واتصلتُ بالمؤلف فتعذّر بالدراما وما تتطلبه من تغييرات، فقلت له: أنا أُدرِّس الدراما، وهذا ليس من الدراما فى شىء.

شكر واجب

وقد نشر الأستاذ فهمى عمر مقالا بجريدة القاهرة أشاد بكتاب منقريوس وزير مالية الأمير همام للصحفى المتمكن الأستاذ أمير الصراف الذى كان معنا بالديوان، وهو كتاب جدير بالقراءة لأنه يلقى الضوء على رجال الأمير همام الذين أرسوا أركان أموره المالية وقد كتبتُ مقدمة هذا الكتاب فأطرى الأستاذ فهمى عمر فى مقاله على هذه التقدمة كاتبا: «ويضاعف من جمال الكتاب المقدمة التى سطرها ببراعة أستاذنا الدكتور أبوالفضل بدران …» وكالَ من الثناء لى ما لا أفيه حقه، فله منى كل الشكر والتقدير على كلماته القيّمة وتقديره الجم لهذا التقديم الذى زاد تيها بكلماته الجميلة.

عادات الصعيد الجوانى

كم أعجبنى توقير الصعيد له وهو حقيق بكل تقدير واحترام، فديوانه يجمع ممثلى كل قبائل أهل الصعيد دون تمييز فقد التف الجميع حوله؛ كما يلجأ إليه ذوو الحاجات فلا يرد طالبا؛ ورأيتُ كيف يسأل عن الشباب والصغار الذين التفوا حوله قياما وهو يعلمهم ويثقفهم فى حب ومودة، كان ديوان الهمامية عامرا والوقت يمر بسرعة استأذنّا فى الانصراف فأقسمَ -فى تواضع الكبار- أن يسير معنا حتى سيارتنا، قِيمٌ وعادات حسنة أتمنى أن يعيها شبابنا وأن يتخذه قدوة فى عمله وخلقه. فمتى تكرّم مصر ولاسيما محافظة قنا رموزها وعلى رأسهم الإعلامى الكبير فهمى عمر؟ ألا يوجد ميدان نسميه ميدان فهمى عمر مع كثرة ميادين قنا بأسمائها المضحكة؟ ميدان المحطة، ميدان اليافطة، ميدان الدولفين وكأنّ الدلافين تمشى فى شوارع قنا، لماذا لا تذهب جوائز الدولة إليه؟ أعرف أنه زاهد فى هذا وذاك لكن حقه علينا واجب.

من الرئيسية إلى الشاورية

مضينا من قرية الرئيسية نحو قرية الشاورية جنوب غرب نجع حمادى لنسلّم على العمدة صبرى محمد حسين قاسم عمدة القرية حفيد الأمير همام وشقيق اللواء قاسم محافظ المنيا السابق، كان الدوار عامرا، تفحصت الصور المعلقة على جدران المضْيفة تحكى تاريخ مجد متصل وسليل كبار ساروا على نهج جدهم الأكبر الأمير همام رمز العدل والتسامح والقوة، وهم ركن ركين فى أمن هذا البلد مصر التى جعلها الله آمنة؛ بينما كنا عائدين إلى قنا وقرية العُوَيْضات رحتُ أكرر قول أحمد شوقى:

قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً / وتهونُ الأرضُ إلا مَوضِعا

فى النهايات تتجلى البدايات

كمْ ذا رضيتُ من الأشياءِ أشبهَها / فما وجدتُ لأيامــى هنا بَدلا


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة