جورج حنين
جورج حنين


الفن والحرية والتمرد.. لماذا جورج حنين؟

أخبار الأدب

السبت، 23 ديسمبر 2023 - 02:47 م

■ كتب: محمد شعير

ليس فقط لمرور خمسين عاما على رحيله، وليس أيضا لأنه صاحب تجربة متميزة فى تاريخ الإبداع المصرى الحديث، إذ قدم عالما جديدا من الروئ والأفكار والأساليب ذات الوهج الثورى والحالم فى الوقت نفسه. وليس أيضا لأنه ساهم فى وضع الفن والأدب المصرى والعربى فى لحظة ما إلى حركة الفن العالمية، جعله جزءا منها، وجعل مبدعين مصريين متميزين معروفين فى أوروبا ومشاركين فى نشاطات ثقافية ذات طابع طليعى فيها.

إنما إضافة لكل ذلك، لأن أسئلته وأفكاره راهنة، لم تتقادم، لم تدخل متحف الأفكار، بل تتجدد دائما. أسئلة حول اللغة والحداثة والفن والعلاقة بالغرب، وموقفنا من العالم، والحروب والفاشيات والدكتاتوريات.

اقرأ أيضاً| القاهرة مؤرخة: لمحات من التاريخ العمراني لمدينة آسرة

تمرد جورج حنين (١٩١٤-1973) على كل شىء، طبقته الأرستقراطية، ونظام التعليم، والأدب السائد وقتها، وعلى اسمه أيضا.

ولد لأب كان يعمل دبلوماسياً، ثم وزيراً فيما بعد، وأم إيطالية، لم يلتحق كأقرانه بالتعليم المدرسى، بل عُين له مدرسا خصوصيا علمه القراءة والكتابة فى البيت، ومدرس أخر لأصول الإتيكيت والتعامل.. وقد سخر حنين من ذلك فيما بعد – كما يكتب ساران ألكسندريان من تلك التربية : «تلقيت باكراً جداً صفعة التربية الجيدة».

اختارت له العائلة اسما، واختار هو أن يوقع بعض مقالاته وكتبه باسم آخر جان دوميان«فعل ذلك مع كتاب من أنت أيها السيد أراجون»، وعندما أحب بولا العلايلي، ورفضت أسرتها ارتباطه بها لاختلاف الديانة ذهب إلى الأزهر ليعلن إسلامه واختار اسماً آخر هو «بايزيد»..ليصبح اسمه الجديد فى الأوراق الرسمية بايزيد حنين. ربما استلهم الاسم من إحدى مسرحيات الكاتب الفرنسى الشهير راسين، وربما كان يسخر – بهذا الاختيار- من الموقف كله!

تحكى صديقة قاهرية شهدت حفل زفاف حنين أن المأذون سأله أثناء عقد الزفاف عن اسمه فأجابه: بايزيد. اندهش المأذون من غرابة الاسم ...فشرح له جورج الأمر، فقال المأذون: جورج اسم كويس..وسجله فى قسيمة الزوج رافضا وساخراً من اسم بايزيد!

عادة ما ينظر إلى عقد الثلاثينيات بوصفه عقد الأزمة فى مصر سياسياً- كما يقول إسرائيل جرشونى وجيمس جانكوفسكى فى كتابهما «مواجهة الفاشية فى مصر» (ت: بدر الرفاعي) حيث «تقوض النظام الدستورى البرلمانى الذى تأسس فى العشرينيات، واقتصاديا كان للكساد الإقتصادى تأثيره الحاد على أسعار الصادرات الزراعية. وفكريا انجذب عدد من الشباب المصرى إلى نماذج سياسية أكثر تسلطا ، وتراجع عدد من المثقفين عن القيم الليبرالية التى كانوا يؤمنون بها واتجهوا نحو رومانتيكية تقليدية جديدة ورجعية»..

كان العالم كله يعيش أزمة، صعود الفاشية والنازية ..وكان هناك من يقاوم ذلك فكانت الحركة السريالية التى تسعى إلى تحرير الفكر، والنضال ضد الأفكار والقيم الموروثة، وكان سلاحها لذلك اللجوء إلى الأحلام واللاوعى.. وشعارها تغيير الحياة.

يحكى الصحفى كامل زهيرى فى كتابه «مذاهب غريبة» أن عددا من الشعراء والكتاب الفرنسيين اجتمعوا على أحد مقاهى باريس، وكتبوا على أوراق صغيرة عدة أسئلة، وكتبوا الإجابات فى أوراق أخرى إجاباتها:

ما هو الفجر؟ وكتبوا الإجابة: هو بزوغ الصباح

وما هى المرأة؟ هى ما نرى فيه أنفسنا

وما هو جندى البوليس؟ هو حامى الأمن العام

والساخن الكهربائي؟ هو أنبوبة مليئة بالماء الساخن

والحلم: هو وهم النائمين

وخلطت الأوراق بعضها ببعض، وجمعت كل ورقتين: واحدة من الأسئلة وواحدة من الأجوبة، فكانت النتيجة كالآتي:

ما هو الفجر: هو ما نرى فى أنفسنا

ما هى المرآة: هى بزوغ الصباح!

ما هو جندى البوليس: هو أنبوبة مليئة بالماء الساخن

ما هو الحلم: هو مصباح من مصابيح الشوارع

ما هو المصباح الغازي: هو وهم النائمين

يقول السرياليون إن هذه التجربة تدل على أن أغرب الصور التى لم يتصورها المنطق ونألف من تصورها لأننا تعودنا على منطق معين.. أغلب هذه الصور قد يقبلها الخيال ويهضمها.. فماذا لو قلنا إن الحلم هو مصباح من مصابيح الشوارع..وما الغريب فى أن نقول إن الفجر هو ما نرى فيه أنفسنا.

كانت السريالية كحركة عالمية تسعى إلى تحرير الفكر، والنضال ضد الأفكار والقيم الموروثة، وكان سلاحها لذلك اللجوء إلى الأحلام واللاوعى.. وشعارها تغيير الحياة.

 شىء من هذا القبيل بدأ به جورج حنين، عندما نشر فى مجلة جهد (un effort) التى تتبع الجماعة التى ينتمى إليها حنين (المحاولون) وتعرف نفسها بأنها المجلة الوحيدة النزيهة فى مصر، ومركز الفكر الحر قاموسه السريالى :

فوضى = انتصار الروح على اليقين

جمال= سلطة تنفيذية

كرامة= فرضية ملائمة جاهز لأيام الاستقبال

امرأة شريفة= احتكار جنسي

فكرة= لعبة غير قابلة للكسر

صوفية: وسيلة روحية لعدم تمضية الوقت

الأنا= الشىء الأكثر أهمية فى العالم

متحف= أكبر مزبلة معترف بها رسميا

عمل= كل شىء لا ترغب فى فعله

عيب: نزول درابزين فرشخة

آثار هذا القاموس استياء حتى أن جريدة البورص ايجيبسيان نشرت رسالة غاضبة من قارئة وصفت حنين بالشاب المسكين ذى القلب الميت والروح الجامدة. ولكن حنين رد ساخراً«هؤلاء الوحوش الدمويون كانوا يتمرغون بالضبط فى الوحل، حين جاءت رسالتك الانتقامية توقفوا عن ممارسة وظائفهم».

خاض حنين معركة ضد الأفكار الفاشية بما فيها ضد جماعته التى دعت الشاعر الإيطالى مارينيتى وكان داعما لموسوليني، فترك الجماعة، وأخذ يبشر منفردا بالسريالية.

تعرفون كل تلك الأكشاك الرمادية الباهتة الملساء التى تحتوى تارة على محولاتٍ كهربائية قوية وتارة أخرى على كابلاتٍ عالية التردد والتى تجدون على جوانبها عبارة قصيرة تحذركم : «لا تفتحوا : خطر الموت» . حسناً!، إن السريالية هى شيء كتبت عليه يد لا حصر لأصابعها رداً على الصيغة السابقة : «نرجوكم أن تفتحوا: خطر الحياة». ( جورج حنين- ت: بشير السباعي)

فى ديسمبر 1938 وقع ما يقرب من 32 فنانا بيان«يحيا الفن المنحط» الذى صاغه منفردا جورج حنين، وكان قادما من باريس وقتها. كان البيان ردا على معرض فنى أقامه الفاشيون فى ميونخ بعنوان الفن المنحط وكان المعرض يتألف من 650 عملا فنيا حديثاعلقت بشكل عشوائى مصحوبة بملصقات تسخر من هذه الأعمال. صمم المعرض لإثارة الرأى العام ضد الحداثة، وأُقيم بعد ذلك فى عدة مدن أخرى فى ألمانيا والنمسا. ومن بين الأعمال المعرضة لوحات لمارك شاجال، بول كيلي،بيكاسو، ورينوار.. وقد شكل بيان المصريين نواة لتأسيس الحركة السريالية المصرية، إذ أعلن بعد شهر واحد عن تأسيس جماعة الفن والحرية.

ورغم أن السريالية كانت بمثابة حركة احتجاج ضد وحشية الحرب العالمية، إلا أن السريالية المصرية لم تكن نتاج حرب، حتى وإن بدت كذلك، كانت حسب لويس عوض ردا فنيا على معاهدة 1936 التى أدت إلى انفصال السلطة عن الشعب الذى رأى بعد المعاهدة الجمود فى كل شىء، وأن نضاله وكفاحه من أجل التحرر قد تم إحباطهما، فكان لا بد من التحديث، وثورة فى الفكر والفن والحياة تعبر عن الروح المصرية. كانت سريالية حنين ابنه للواقع المصرى مرتبطة أكثر بالثورة لا بالاحباط، كما لم تكن تقليدا غربيا صرفا حتى أن أندرية بريتون كتب إلى حنين: «يبدو أن للشيطان جناحا هنا والآخر فى مصر»

أشار البيان الأول للحركة إلى مساندة ما سمى فنا منحطا «ففيه كل آمال المستقبل لنعمل لنصرته ضد العصور الوسطى الجديدة التى يحاولون بعثها فى قلب أوروبا مرة أخرى». وقد استمر نضال الجماعة ضد «العصور الوسطى الجديدة» إذ تدعم الجماعة بعد أيام قليلة طه حسين فى معركته ضد الحركة الرجعية داخل جدران مجلس النواب. وكان أقطابها هذه المرة خمسة من أعضاء المجلس وهم عبد الرحمن فهمى والشيخ رضوان السيد وأحمد والى الجندى والشيخ محمد دراز وأحمد مفتاح معبد.

وجهوا استجواباً إلى وزير المعارف «بشأن الأسباب التى حدت بالوزارة إلى إسناد وظيفة مراقب الثقافة العامة إلى رجل كطه حسين عُرف بنزعات وآراء ضد تقاليد البلاد وأخلاقها ودينها».

وتعلن الجماعة فى بيان جديد لها: إذا كانت عوامل الرجعية قد شاءت أن ترفع رأسها من جديد لتقضى على الخطوة التى اجتازتها البلاد على يد مفكرين كطه حسين وغيره ممن لا نؤمن نحن بهم تمام الإيمان كمعبر صادق عن حقيقة النزعات المتوثبة فى نفسية هذا الجيل.

فنحن نصرخ فى وجه دعاة الرجعية هؤلاء: نحن مع طه حسين إلى أن نقضى على كل القوى التى تحاول أن تخلق لنا فى القرن العشرين «عصور وسطى جديدة».

فى تلك الفترة يكتب حنين بالعربية فى محاولة للوصول إلى الشارع، ينشر مقالات ويصيغ بيانات ويدخل فى معارك كان من بينها معركته ضد توفيق الحكيم ، والشيخ ابوالعيون وقرارات وزارة التضامن التى تنتقص من المرأة، لذا خصص مقالاته للدفاع عن حقوقها معتبرا أن « المرأة هى المرآة الصادقة التى ينعكس عليها حال المجتمع من حيث تقدم الأخلاق واتساع الحرية، فنظن من هنا أن تقدم المجتمع المصرى لا يزال تنقصه خطوات كثيرة جريئة حتى يصل الى ما نريد له من تمدين ورقي». وتواصل الجماعة حربها ضد ما اسمته ثالوث الفقر والجهل والمرض، وقد كانت هذه الموضوعات محور مجلة التطور، ثم المجلة الجديدة التى تَرك لهم فيها سلامة موسى مساحة للتعبير عن آراءهم.

وكان الفن أيضا جزءاً من المعركة. كتب حنين عن موقف الجماعة قائلاً: «إن هدفنا ليس تغيير الرغبة، بل تغيير المجتمع وتكيفه مع رغباتنا، لا يمكن للفن أن يكون عاطفياً فقط، فهو ضد النظام القائم وضد الطبقة الحاكمة، فالفن ليس سوى مَعْمل بارود». ساعيا إلى « إعادة الحرية للخيال السجين مرة أخرى، وإعادة الرغبة بكل ما بها من قوة وإعادة الجنون بقوته القاتلة إلى الأشياء... كل هذا لا يمكن أن يسمى عملا سلبيا. يا شباب.. لقد حان الوقت للاتجاه نحو الآفاق الخصبة وعندها نسير جميعا نحو كل تلك الكنوز الحقيقية التى هى ملكنا».

ظل حنين فى كل ما قام به ضد زمن الازدراء،داعيا جميع المفكرين الأحرار أن يوحدوا جهودهم لإعادة الثقة باستمرار الترقى الإنساني، فالتغلب على النظم الفاشية ما هو إلا مرحلة فى طريق التحرر يكتب فى بيان له:  «إن النظم الفاشية تمثل اليوم قوات الظلام. ولكى نواجه هذه النظم ونحمس الجماهير، ونحرز النصر النهائى يجب على قوات النور أن تتقدم إلى العالم بمنهج شجاع يتجاوز الحدود المظلمة الحاضرة، فهذه الحرب لابد أن تكون خيبة أمل جديدة للمحاربين ولا مبرر لها، إذا كانت لا تمهد مستقبلا أصلح».

فى عام 1948 يقطع حنين صلته بالحركة السريالية معلنا فى أن القيمة الوحيدة، القيمة المنسية، القيمة المهددة هى الفرد، ونصرخ بأن للفرد موارد ثمينة لم تكتشف ولم تستغل بعد وأولها الخيال بما له من صفة جهنمية، بما فيه من قوة اندفاع وانطلاق.

الفرد فى وجه الدولة

الخيال فى وجه المادية الديالكتيكية

الحرية فى وجه الإرهاب المتشعب

اختار الصمت لأنه وسيلة من وسائل المقاومة، إذ «يبقى الصمت التعبير السريالى الأكثر جدارة بالاحترام» كما كتب إلى بريتون فى رسالة له.

بعد يوليو 1952 كان العالم قد تغيير، هاجر زملاء حنين ورفاق دربه موزعين فى منافى مختلفة، وغادر العالم من غادر، ويهاجر هو لإقامة فى باريس.

وقبل أن يموت بلحظات، يسأل جورج حنين زوجته إقبال العلايلي:

لماذا يموت أبناء الفيلة بمفردهم؟

كان يتذكر رفاق الرحلة الذين كانوا قد تفرقوا بين المنافى المختلفة، وسبقوه إلى الموت فؤاد كامل وكامل التلمسانى ورمسيس يونان. كانت وصيته أن يدفن فى مصر، فى غير مقابر المسلمين أو المسيحيين، لانه كان يرى أن إيمانه الثورى يمنعه من تملق الديانات حتى بعد أن فارق الحياة.

هذا الملف رسالة محبة إلى مبدع مختلف!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة