إيهاب الحضري
إيهاب الحضري


يوميات الأخبار

أحاسيس موسمية!

إيهاب الحضري

الأربعاء، 27 ديسمبر 2023 - 07:59 م

طوبى للفلسطينيين الصامدين، وسط عالم صامت على محاولات الإبادة. إنها مجرد محاولات فاشلة، فما ضاع حقٌ وراءه مُقاوم.

رأس السنة وجزيرة القُطن!

الأربعاء:

إنها الساعات الأخيرة من ديسمبر. تمرّ علينا بمشاعر موسمية، وتمنح كلا منا فرصة ممارسة طقوس اعتاد عليها. لن تتغيّر طباعنا غالبا، فمن اعتاد استدعاء الشجن، سيترحّم على عام مضى من عُمره بحلوه ومرّه، أما هواة التفاؤل فسوف يتمسّكون بعُملتهم النادرة، ويفرحون بعام جديد يكون أكثر رفقا بهم. العامل المُشترك بين الجميع هو سؤال سنوى مُعتاد: أين ستقضى رأس السنة؟ الإجابة شبه محسومة لدى الكثيرين، فعلى مدى سنوات أعمارهم ظلّت «العين بصيرة والإيد قصيرة». إنه أحد الأمثال المصرية الأكثر تداولا، وحضوره فى الساعات الفاصلة بين عامين بالغ القوّة، لأن أسعار السهرات تقْهر أحلامنا منذ طفولتنا، لهذا تحايلنا على ضيق ذات اليد بدعابات سمجة، نؤكد عبرها أننا سنقضى الليلة الفاصلة فى «سريراميس» أو «جزيرة القُطن»! تعبيران يشيران إلى فِراش يُرحّب بنا فى تلك الليلة الباردة، باعتباره الوحيد الذى يمنحنا فيها حقّ اللجوء. نحت أحدهم المُفردتين ذات لحظة تجلٍ، وانضما إلى قائمة الأقوال الموسمية المأثورة، واكتسبا مع التكرار مذاق السماجة، دون أن نتوقف عن ترديدهما. 

عبر نصف قرن من عُمرى، لم أخرج عن السياق المعتاد سوى مرتيْن تقريبا. فى طفولتى ظلّ الاحتفال مقصورا على السماح لى بالسهر وقتا أطول نسبيا، أمام شاشة تليفزيون تضمّ قناتين أو ثلاثا فقط، مع فيلم أجنبى يكون جديدا فى البداية، قبل أن يُصبح مكرّرا مع تتابع السنوات. «وحدى فى المنزل».. فيلم اعتمد لسنوت كأيقونة ترتبط بالدقائق الفاصلة بين سنتين، وكأن المسئول عن إعداد خرائط البث يُذكّرنا بأن السهرة مُخصصة لمن أجبرتهم الظروف على البقاء فى بيوتهم. مع تطوّر الزمن تعدّدت الفضائيات، فامتلكنا حُرية الحركة بينها، لنتابع أكثر من عمل فى وقت واحد، خاصة بعد أن تخلّصنا بفعل تقادم السن، من قيود تفرضها امتحانات دراسية، لا تعترف بحقوق الإنسان فى الاحتفال دون مُنغصات. 

كما سبق أن ذكرت، تمكنتُ لمرّتين فقط من اقتناص ليلتين مُختلفتين. الأولى مع بداية الألفية الجديدة. بقدر ما تجود علىّ به ذاكرتى، فقد حلّت الليلة فى رمضان، ووقتها استقبلتُ الحافة الفاصلة بين زمنين فى منطقة الأهرامات، لحضور حفل موسيقى نظّمته وزارة الثقافة للموسيقى الفرنسى جان ميشيل جار. قرّر الوزير الأسبق أن يُنعم علينا باحتفالية مُختلفة، ووقتها ذهبتُ مع عدد من الزملاء فى «أخبار الأدب»، لنتابع الحدث عن قُربٍ ثم ننقضّ على الوزير بالانتقادات. أما الليلة الثانية فكانت بعد زواجى، وأمضيناها فى مسرح أبطال عرضه من الشباب. الأولى مهمة عمل، والثانية محاولة لتحقيق حُلم قديم بقضاء أمسية مُختلفة، وفى الحالتين أدركتُ أن البديل الأمثل هو قضاء الليلة فى البيت، لمن لا يملك ثمن احتفال فخْم مثل الحفلات التى نسمع أخبارها فى حكايات تُشبه الأساطير. 

اللعب بالنار!

المهم، كلّ عام وأنتم فى بيوتكم آمنون، دعاء أصبحنا أكثر قُدرة على استيعابه، ونحن نتابع معاناة أشقائنا فى فلسطين. يتلقّون قذائف من السماء، بدلا من ألعاب نارية تنطلق من الأرض، وتعلو فى كل أنحاء الكوكب احتفاء بما هو قادم. منذ عرفها الإنسان، أدمن البشر اللعب بالنار، أحياناً يكون اللهو بها آمناً، وغالبا يُخلّف دمارا شاملا، وبعد أن ساهمتْ النيران فى دفْع عجلة الحضارة، صارتْ فى أيدى الحمقى وسيلة للفناء. كل عام وأنتم فى بيوتكم آمنون، بينما الكثيرون فى غزة ومحيطها، لا يملكون رفاهية استقبال سنة جديدة فى منازلهم التى تحولتْ إلى أطلال، والتهمت الوحشية أرواح الأهل والأصدقاء، حتى أصبح مجرّد تبادل الأمنيات بسنة سعيدة، أمرا بعيد المنال. غير أن الأمر لا يخلو من بصيص أمل، فلن يهنأ مواطنو الكيان الصهيونى، وسط حالة رعب تعبث بقلوبهم، بدأتْ فى السابع من أكتوبر وتزايدت مع بسالة المقاومة. فى الأدبيات اليهودية قرّر شمشون هدْم المعبد عليه وعلى أعدائه، وفى واقعنا الحالى تسبّبت رعونة الاحتلال فى تصدير الذُعر للجميع. الفارق أن من اعتاد الألم سيكون أكثر قُدرة على الصمود، مقارنة بمن عاش وهْم الأمن وظن أنه فوق الجميع.. طوبى للفلسطينيين الصامدين، وسط عالم صامت على محاولات الإبادة. إنها مجرد محاولات فاشلة، فما ضاع حقٌ وراءه مُقاوم.

رقابة الخوارزميات

الخميس الماضى:

فى البدء كانت الصدمة. منشوراتى تعانى من وِحدة مُزعجة، وجميع محاولات إنقاذها من الهجْر تبوء بالفشل. استعدتُ الحديث عن ألاعيب «الخوارزميات»، وذلك المنشور العجيب الذى استنسخه الكثيرون، كى يفكّوا طلاسم عمل سُفْلى أصاب حساباتهم، وجعل ما ينشرونه خفيّا أمام أعين الناظرين. وقتها سخرتُ من ظاهرة «البوست المُستنسخ»، واعتبرتُه حيلة ساذجة من جهة ما، لتعمل على رصد مدى استجابتنا لخرافات التكنولوجيا. هل ينتقم «فيس بوك» من سُخريتى، ويُخبرنى بشكل غير مباشر أن الخوارزميات حقٌ، وأن الاستهزاء بها يستحق إصابتى باللعنة؟ كدتُ أستسلم للخرافة لكنى تذكرتُ أن منشوراتى ظلّت تحظى بمعدّلات التفاعل نفسها، بعد أسابيع من سُخريتى.

فجأة انتبهتُ إلى أن الأزمة بدأتْ مع نشر مقالاتى عن مذابح الاحتلال فى غزة. إنها الرقابة الخفية إذن، حيث تعامل الأخ مارك مع مهاجمى الكيان الصهيونى بدرجات متفاوتة من الشدة، تبدأ برسائل تحذير من المُحتوى المنشور، وقد تصل لحدّ إغلاق الحساب. كان أكثر رفقا بى عندما فرض حصارا على منشوراتى، بحيث لا تصل إلا لمن يدخل صفحتى باحثا عنها، بينما أعتمد عادة على مُتابعى الصُدفة. الأمر لم يقتصر علىّ، فعندما بدأت البحث عن الأسباب روى لى الكثير من الأصدقاء تجاربهم الشبيهة. 

اليوم قرّرتُ أن أجرى اختبارا أخيرا، نشرتُ رابط استضافتى ببرنامج صباحى شهير، تحدثتُ فيه عن استهداف الكيان الصهيونى لتراث المنطقة وتاريخها. أرفقتُ المنشور بلقطات لى خلال البرنامج وأخرى مع المذيعيْن. جمهورى القليل مولع دائما بالصور، لهذا تكسر إعجاباتها حاجز المائة، وهو عدد لو تعلمون عظيمٌ بالنسبة لى، خاصة عندما تُصاحبه حفنة تعليقات مجامِلة، يبدو واضحا أن من كتبوها لم يشاهدوا محتوى الحلقات! على مدار ساعتين لم أستقبل سوى إعجاب وحيد، والثانى جاء بطلبِ منى لزوجتى، ربما تكون نقْرتها فاتحة خير تؤدى لتنشيط التفاعل، غير أن سحرها فقد مفعوله.  

لمّا كان الإحساس بـ«الونَس» طبيعة بشرية، فقد اكتسبتْ نقرات الإعجاب قيمة استثنائية، إلا من بعض الزاهدين، الذين أدّعى علنًا أننى منهم، ثم أتلصّص على التفاعلات فى الخفاء كلّ دقائق، لأفرح بمن اهتم وأصبّ لعناتى على من امتنع! قد يحسبنى الأصدقاء غنيا عن الإعجابات بالتعفّف، ولا يعرفون أن آفة البشرية أصبحتْ حصْد «الشير»، أو «اللايك» على أقل تقدير. قلّة يسعون إليهما لجنْى الأموال، وكثيرون يكتفون بسعادة لأنهم محور للاهتمام. أصحاب الفئة الأولى من صائدى الأرباح المالية خبراء فى مجالهم، ويُدركون تماما من أين تؤكل الكتف.

فاصل قصير لأكل الكتف!

لأول مرّة أتوقف عند التعبير السابق، منذ أن تعرفتُ على لُغة المجاز تعاملتُ معه، واستخدمته كثيرا دون تفكير فى معناه. ما علاقة الدهاء و«الشطارة» بأكْل الكتف؟ حاولتُ استنتاج الصلة بين الأمرين بنفسى وفشلتُ، وفى النهاية لجأتُ إلى «جوجل»، غير أنه زاد المشكلة تعقيدا. التعبير سهل الفهم أصبح أكثر غموضا عبر التفسير التراثى. واجهنى «الأخ جوجل» قائلا: «قال المطرزى فى شرح المقامات: إن هذا المثل يُضرب للرجل الداهية، الذى يأتى الأمور من مأتاها، وذلك لأن الكتف أعسرُ من غيرها. وقيل إن أكله من أسفله لأنه يُسهّل انحدار لحمها، أما أكل الكتف من أعلاها يكون مُعتقدا مُلتويا، لأنه غضروف مُشتبك باللحم»!!

شعرتُ بالندم على تضييع وقْتى فى البحث، فما كان مفهوما قبله زاد تعقيدا بمفردات تحتاج إلى مُعجم لتفسيرها، لكن وفقا لما فهمته، قدّم «الكتالوج» السابق «إيتيكيت» أكْل اكتف بالأسلوب الأمثل، كى يصل بنا إلى ما كان معلوما بالضرورة، وهو أن من يُتقن تناولها خبير لا يُشقّ له غبار! ها هى التعبيرات نفسها تقفز على السطور من جديد، لكنى لن ألدغ من المجاز نفسه مرتين، ولا داعى للبحث عن دلالة شقّ الغبار! الأسهل أن أعيد صياغة العبارة دون منحوتات كلامية مُعدّة سلفا، وأرجع للسياق الأصلى.

التحريض على «الشير»!

الفئة الأولى من صائدى الأرباح المالية خبراء فى مجالهم، بارعون فى اقتناص «اللايك» والتحريض على «الشير»! إما بالفجاجة والتفاهة أو بفضْح أسرار البيوت، وأحيانا بمنشورات استفزازية جاذبة لاهتمام عشّاق الجدل. بينما يتعامل أبناء الفئة الثانية مع نقرات الإعجاب، باعتبارها وسيلة لرفْع المعنويات وإنقاذها من السقوط فى هوّة الإحباط، لهذا تجد بعضهم مصابين بداء سرعة النشْر، والكتابة عن كلّ شيء وأى شيء. لا ألوم هؤلاء، فكلنا نحتاج للشعور بالألفة للخروج من دوامات الحياة، أو ملء فراغ أيامنا. إنها الوحدة المعنوية وسط الزحام، أو الحقيقية فى زمن انشغلنا فيه عن بعضنا ببدائل مُعظمها إليكترونية، حيث يفرّ المرء من أخيه وصاحبته وبنيه إلى مواقع التواصل الاجتماعى، للحديث مع الآخرين من وراء حجاب! 

عموما، تجاوزتُ مُشكلتى الشخصية سريعا، فالأزمة لا تقتصر على منشور يخصنى، بل تمتد إلى سياسة منصة منحتنا شعورا خادعا بالديموقراطية، وعادتْ لتفرض رقابتها بقسوة، بينما تمنح الحُرية كاملة للمنشورات منزوعة الدسم!


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة