سناء مصطفى
سناء مصطفى


يوميات الأخبار

فلسطين: حين تفجر الخيوطُ منابع الحياة

الأخبار

السبت، 30 ديسمبر 2023 - 08:42 م

بقلم: سناء مصطفى


لفتت نظري، وهي تدخل من بوابة المدرسة في أول أيام العام الدراسي الجديد. من هذه؟ هي طالبة في المرحلة الإعدادية بلا شك؛ هذا واضح من زيها المدرسي، لكنها لا ترتدي بلوزة وبنطالا وحجابا عاديا كبقية زميلاتها. هي تلتزم فقط باللون، لكن ثوبها فضفاض ويغطي طوله حذاءها، بل ويزيد. ترتدي حجابا طويلا، يغطي جبينها بالكامل، بينما تضع على وجهها كمامة سوداء لا تكاد تُظهِرُ منه إلا عينين صغيرتين لا يلمحهما الرائي إلا إذا دقق النظر.
أصابتني الدهشة حين عرفتُ أنها تلميذتي التي جاوزت الثلاثة عشر عاما من عمرها بقليل. إنها تلك الصغيرة المتفتحة المقبلة على الحياة بابتساماتها وضحكاتها التي تخطف القلب. لماذا تسير الآن بين زميلاتها، تداري نفسها في ظلهن، وهي التي كانت تفتح للشمس أبوابها ونوافذها، فتغار أشعة الشمس من بريق الحياة على وجهها؟
أيقنت أنها تغيرات المرحلة العمرية الجديدة التي دلفن إليها برؤى وأفكار وقناعات وتقاليد مجتمعية لا ينجو من براثنها إلا من رحم ربي. هذه المرحلة التي يبلغن فيها سن الرشد، ويرتدين فيها الحجاب، ويلتزمن بالصوت المنخفض، والمشي ببطء حتى لا تهتز أجسادهن التي "خرطها خراط البنات".
ماذا فعلت بنا عمتي "فاطمة"؟
في بيت العائلة الكبير الذي نشأت به، اعتادت أمي وجداتي وعماتي وزوجات أعمامي داخل الدار على ارتداء فساتين، طرازها واحد، ولا يفرق بينها إلا الألوان. الفستان يتجاوز ما أسفل الركبة بشبرين أو أكثر قليلا، به كشكشة أسفل الصدر، ولا يرتدين بنطالا أسفله، بينما يغطي إيشارب قصير زاهي الألوان الشعرَ إلا الجزء الأمامي الذي يظهر بفرق لطيف في المنتصف. كن يخبزن، ويغسلن، ويطبخن في البيت الكبير، ولا يعرفن زيا غير هذا، وكانت فساتيننا نحن الأطفال كذلك أيضا، ولا تختلف إلا في ألوانها الأكثر تعددا وبهجة وحيوية. يختلف الأمر بالطبع عند الخروج من البيت؛ فقد كانت جداتي يضعن "البردة"، وهي عبارة عن رداء أسود يغطي المرأة من رأسها حتى قدميها، أما النساء الأصغر سنا فكن يضعن رداءً يدعى "الحَبَرة" يشبه الملاية اللف، وهو أصغر من "البردة"، ومصنوع من قماش أسود لامع، وفي الحقيقة لم يكن يعجبني على الإطلاق. استمر الوضع هكذا حتى انتقلت عمتي "فاطمة" للحياة في سفاجا مع زوجها وأبنائها، فلفت نظرها أن النساء هناك يرتدين ثيابا مختلفة. حين عادت في أول إجازة، حملت معها مجموعة من العباءات الطويلة السوداء أو الداكنة بعدد نساء الدار، وهكذا ودعت نساء الدار "الحبرة"، والفساتين القصيرة الملونة، وتمسكت الجدات بالبردة أثناء خروجهن من الدار، وتم اعتماد العباءة الزي الرسمي في بيوتنا منذ هذا اليوم.
ألبوم أبي
كان أبي عليه رحمة الله ورضوانه يمتلك ألبومات من الصور لا أحصي لها عددا. كنتُ وأنا طفلة صغيرة أتأمل صوره في المرحلة الجامعية، وهو طالب في كلية الهندسة جامعة عين شمس، بين رفاق ورفيقات، جميعهن يرتدين ملابس قصيرة جميلة، أو بلوزات وبناطيل، شعرهن مصفف بعناية ورقة. أسأله عنهن، وعن سبب اختلاف ملابسهن عن ملابسنا. يعرفني أبي على أسمائهن، بينما يتجاهل سؤالي عن ملابسهن، مكتفيا بالحديث عن تميزهن وتفوقهن، وعن حلمه في أن يراني يوما ما طالبة جامعية متميزة مثلهن.
طعنات في قلب طفولتي
أعود بذاكرتي للوراء سنين طويلة، كأني أشاهد نفسي على شاشة سينما، طفلة تخطو أولى خطواتها في مدرسة نجع علي سالم الابتدائية المشتركة. يمسك بي خالي من يد، وعمي باليد الأخرى. أرتدي مريلة مدرسية لونها بيج لا تشبه غيرها في المدرسة كلها، ابتاعها أبي من القاهرة التي كان يعمل بها في ذلك الوقت. كانت جميلة ورقيقة ولافتة، تشبه أبي في ذوقه وشياكته وجاذبيته، تصل لتحت الركبة بقليل، يزيد من جمالها جورب دانتيلا أبيض بكرانيش، مع حذاء مدرسي أسود براق، كما زينت أمي ذيل الحصان في شعري بتوكة بيضاء أنيقة. كنت أسير بين خالي وعمي أرفع رأسي، وأبتسم بزهو طفلة تشعر بتميزها بين قريناتها، وبأنها يوما ما ربما تصير نجمة في السماء تخطف الأنظار ويشار إليها بالبنان.
حين دلفنا من بوابة المدرسة، لم يكن طابور الصباح قد بدأ بعد، وكان التلاميذ جميعهم يجلسون على الأرض، بينما يقف المعلمون جميعهم تقريبا في أرض الطابور انتظارا لرنين الجرس. تقدم بي عمي ناحية الصف الذي تجلس فيه البنات، وأجلسني وسطهن، وابتعد للوراء قليلا. تقدم منه أحد المعلمين، وهمس في أذنه بشيء ما، فوجئت بعمي بعدها يتقدم نحوي ويطلب مني أن أقف. وقفت، بينما الجميع يجلسون، ولم أكد أفعلها حتى بدأت البنات عن يميني وعن يساري بالوقوف كما فعلتُ، لكن المعلمين طلبوا منهن الجلوس جميعا إلا أنا، وساد الهرج والمرج حتى دق الجرس وانتظمنا جميعا في الطابور.
عرفتُ بعد ذلك من أمي، وهي تخيط لي بنطالا يقارب لون المريلة البيج، أن المعلم طلب من عمي ذلك، لأن المريلة القصيرة أظهرت جزءا من ساقي حين جلست بين رفيقاتي في أرض الطابور، وكن جميعهن يرتدين البنطال أسفل المريلة البيج.
أحسستُ وقتها أن طعنة وجهها المعلم إلى طفولتي، انتزع بها إحساسي بالتميز والجمال، لكنَّ أبا كالمهندس مصطفى عبد الله البربوري استطاع بما حباه الله به من ذكاء واختلاف أن يوجه طاقات طفلته الصغيرة نحو تميز من نوع آخر أبقى وأدوم: تميز علمي وأدبي لم يبدأ فقط بقراءة الصحف القومية في الصف الثاني الابتدائي، وإلقاء كلمة الصباح في الإذاعة المدرسية، ومباهاته بي أمام أصدقائه، لكنه ترك لي مكتبته  أقرأ منها ما أشاء، فأقبلت عليها بنهم وفضول حتى أنني في الصف الثالث الابتدائي كنت أحفظ رباعيات الخيام، وأصطحب مسرحية "بنك القلق" لتوفيق الحكيم في حقيبتي المدرسية. أخرجها في الفسحة، وأنزوي بها في ركن هادئ، ولا تخطئ عيناي ابتسامة معلميَّ التي تنبئ بالفخر والإعجاب.
في سن العاشرة تقريبا، بدأت أمي تعبث بفساتيني، وتخيط لي كرانيش تغطي منطقة الصدر، حتى تخفي عن الأعين ملامح أنوثةٍ بدأت تشق طريقها نحو الحياة. كرهتُ وقتها كل فساتيني، وكنت أحدث الله في سري: لماذا يا رب تمنحنا أشياء تضايق أمهاتنا؟ أشياء نخجل منها، ونداريها؟
بصوا وشوفوا الملكة
بدأت أمي محاولاتها بعد انتهاء المرحلة الابتدائية، في تذكيري بالحجاب الذي ينبغي عليَ ارتداؤه طالما وصلت للمرحلة الإعدادية، فتذمرتُ وجادلت رغم يقيني بأنه لا اختيار لي في هذا الأمر. يفاجئني أبي حين عودته من القاهرة بمجموعة مميزة من الطرح البيضاء الجميلة، التي رحتُ أجرب كلا منها بسعادة حتى استقرتْ شمس الأنوثة التي بدأت تبزغ في روحي على إحداها. بمجرد أن نزلت من السيارة التي تقلني إلى المدرسة، زَفَّني الأولاد حتى بوابة المدرسة، وهم يضحكون: بصوا وشوفوا الملكة.. وسَّعولها السكة. شكوتهم لمدير المدرسة، فنهرهم، ثم نصحني قائلا: ما تلبسي طرحة عادية زي بقية زميلاتك يا سناء، وللا أنتِ لازم تثيري الجدل يعني!
بدلة وعباءة
في الصف الأول الثانوي، في المدرسة الثانوية الوحيدة في مركز قفط كله- مدرسة قفط الثانوية المشتركة- أو أم المدارس كما يطلق عليها اليوم، كنتُ أحب ارتداء البدلة الكحلي الجميلة التي اختارها لي أبي، بينما قررت أمي أن تفصل لي زيا طويلا يشبه العباءة، كنتُ أشعر فيه بالاختناق، لكنني إرضاءً لخاطرها اتفقت معها أن أرتديه مرة واحدة في الأسبوع أو مرتين، وقد فعلت، فهل سلمتُ من المتنمرات؟ لم أسلم منهن بالطبع، فقد أشارت نحوي واحدة وهي تضحك وتحدث رفيقتها بصوتٍ مرتفع: دي البنت اللي قلت لك عليها؛ مرة تلبس بدلة ومرة تلبس عباية. تقدمتُ نحوهما، وسألتهما: وإيه المشكلة يعني، ما أنا لابسة الحجاب سواء مع البدلة أو مع العباية. تقمصت إحداهما دور الناصح الأمين، وقالت: لا يا ماما، ما هو يا تبقي محجبة بما يرضي الله، يا تقلعي الحجاب، مينفعش الرقص على السلالم دا. حين حكيتُ لأمي عن هذا الحوار أقسمت عليّ ألا أرتدي البدلة مرة أخرى، بل وبالغت في قسمها، لدرجة أنها لم تسمح لي بارتداء البنطال حتى تزوجت، فلم تعد تمانع في ارتدائه طالما "زوجها راضي، وانت مالك يا قاضي".  
الملابس ما بين الأمس واليوم
تعتبر الأزياء مؤشرا يستدل به على كثير من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في أي مجتمع من المجتمعات على مر العصور. من خلالها يمكننا الكشف عن تراث الشعوب عبر أزمنة مختلفة، ومراحل تطورها، ويمكننا من خلالها رصد التغيرات المختلفة التي تطرأ على أي مجتمع. لا أعتقد أن الملابس في البداية كانت تعني بالنسبة لنا شيئا أكثر من كونها ضرورة حياتية كالمأكل والمسكن، تستر عورة، وتقي من الظروف المناخية المختلفة. لكن الأمر تغير على مر العصور، فصارت هناك عوامل كثيرة تفرض اختيار ملابس معينة تختلف حسب عادات المجتمع وتقاليده، أو حسب المناسبة والعمر مثلا، لكن يظل أقوى عامل يفرض سطوته على اختيار ملابسنا هو عامل الدين، لذلك يختلف شكل الملابس- ملابس النساء على وجه التحديد- من مجتمع لآخر وفقا لمعتقداته وأفكاره ورؤاه، فتتنوع الأزياء وتتباين ما بين عباءات سوداء، وفساتين طويلة، وحجاب عادي، وخمار، ونقاب. إن النساء في بعض المجتمعات يرفضن البنطال رفضا قاطعا، ويرون فيه تشبها بالرجال، وفي غيرها يعتبرنه حماية للفتاة وسترا لها.
الثوب الفلسطيني
لم أعشق زيا عربيا كما عشقت الزي الفلسطيني، إذ كان وما يزال يحمل هوية ثقافية، ويشهد على تاريخ شعب صامد اتخذ من الكوفية البيضاء المقلمة بالأسود رمزا وطنيا لنضاله المستمر في سبيل استرداد أرضه ووطنه وهويته. يتميز الثوب الفلسطيني الذي يعود لزمن الكنعانيين بغرزه  وتطريزاته الملونة والمتنوعة بحيث يعبر كل ثوب عن منطقة جغرافية معينة في فلسطين، ولكل منطقة حكايتها الخاصة. الثوب الفلسطيني لمدينة نابلس يشبه طبيعة الحياة التجارية في بلاد الشام مضافة إليه التطريز بخيوط الكتان والحرير، والألوان التي يسيطر عليها الأحمر والأخضر إلى جانب الربطة الخضراء مع الشال. أما الثوب الفلسطيني في جنين فيمتاز بلونه الأبيض المقلم بشكل طولي بألوان متعددة، وهو يرمز لنساء الريف والزراعة في فلسطين. أما عن الثوب الفلسطيني في القدس، فهو يحوي الكثير من الدلالات لفترة الحروب والاحتلال الصليبي، من خلال بعض الغرز التي تظهر التصليب في تطريز الثوب. أيضا يحتوي على رموز للهلال والآيات القرآنية التي تدل عن عودة القدس للحكم الإسلامي. يتميز الثوب الفلسطيني في القدس بألوانه الداكنة التي تعبر عن الحزن. يعتبر الثوب الفلسطيني لبيت لحم أكثر الأثواب الفلسطينية بساطة، فهو يصنع من أقمشة الحرير بألوان زاهية ومخططة، والأكمام تكون على شكل مثلث مليئة بالرسومات، وهي أكمام واسعة يطلق عليها "البنايق"، ويطرز ثوب العروس بخيوط من الحرير والقصب. أثناء مشاركتي في أحد مواسم برنامج أمير الشعراء بأبي ظبي كان من حسن ظني لقاء صديقتي الجميلة الشاعرة الفلسطينية الرقيقة "عبلة جابر". حين لمحتها بزيها الفلسطيني المميز، خطفت قلبي. استنشقت في جوارها رائحة الأرض الطاهرة المفعمة بالأمل والعزيمة والحق والخير والحرية. حلمتُ بارتداء ثوب فلسطيني كثوبها، وكنتُ وما زلت أتساءل: هل يمكن أن يفجر ارتداء ثوبٍ فلسطيني مثلهم منابع الحياة والأمل في روحي ، ويجدد الرغبة في القفز خارج أسوار الخوف والتخاذل والاستسلام؟ أم أن ذلك سرهم الخاص الذي لا يمكن أن ينكشف أو تنحل خيوطه لغيرهم؟ هنيئا لهم الخلود وطوبى للغرباء.
 
 
إنها الخمسون
بماذا يمكن أن تحلم امرأةٌ عاشت للخمسين؟
بنزفٍ جديد؟
كان لها خمسون نزفا
ارتوت منها الأرضُ حتى شبعت..
بحبٍّ جديد؟
كان قلبها نهرًا
تقتات من كفيه حتى اليمامات الجائعة
وتبحر نحوه قطعان من الأحزان
لتأنس بابتسامة رباها في دمه
كما من صفعات الرمل يربي المحارُ لؤلؤه
وعند بابه خلع الحبيب نعليه وهو يرتلُ:
تقدستَ يا نهرٌ عرفتُ وحدي سره..
ثم قبل الخمسين بغَرْفَةٍ
قال: اكتفيت.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة