سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الاخبار

ماما «فيس».. بابا «بوك»

الأخبار

الأحد، 31 ديسمبر 2023 - 10:25 م

سمير الجمل

وماتت الأم قبل أن تصل إلى ابنها.. وفى نفس اللحظة كان الابن يلفظ أنفاسه الأخيرة وكأن أرواحهما كانت على موعد مع السماء فى نفس اللحظة

فى حديقة الدار التى اختارها بديلا عن وحدته الموحشة.. انتحى جانبا على مقعده يعيد قراءة سيرة أيامه الأولى بين أولاده وزوجته ولم يقطع عليه سيل أفكاره سوى تلك القطة التى اقتربت منه تمسح رأسها فى ساقه.. ولما استشعر الدفء منها ترك ذكرياته جانبا وتطلع إليها يحاورها متسائلا:
− انتى زميلة جديدة فى دار المسنين.. ويا ترى وصلتى هنا بإرادتك.. أو أن أولادك جاءوا بكِ رغم أنفك؟
تطلعت إليه وكأنها أدركت أنه يكلمها وازداد اشعاع الضوء فى لمعة عينها الزرقاء وبدت لو كانت تبتسم ساخرة من سؤاله ولكنه واصل الحديث معها:
− يا ترى انتى عايشة لوحدك؟.. ولا عندك أولاد كبروا واشتغلوا وانشغلوا عنك؟.. انتى لازم تحمدى ربنا يا قطة هانم؟
(تكاد نظرة عينها تسأله: تقصد ايه؟).. لكنه واصل الحكى من جانب واحد:
− أولا لان مفيش سن معاش عندك وعندما يدق جرس الستين.. يقولون لك بيتك بيتك.. مع انهم ممكن أن يستفيدوا من خبرتك فى الشغل والحياة.. ولو بجلسات مجانية مع صغار الموظفين والشباب.. ولو مرة كل أسبوعين.. أو كل شهر.. وليس معنى كلامى أن يظل الكبار فى أماكنهم لا يغادرونها.. ويتجمد الشباب ويكبر دون أن يتقدم ويأخذ نصيبه من الترقى والقيادة.


يبدو هنا أن القطة لم تستوعب ما يقول وتريد شرحا وتفسيرا فكان لها ما أرادت وشرح:
− عارفة يا مدام قطة.. الكارثة كلها بدأت مع وجود وسائل التواصل التى باعدت بين الناس حتى داخل صالة البيت.. لكل امرئ منهم موبايله الذى يظن أنه يغنيه وإلى الدنيا يأخذه.. وبجناحيه يطير به وهو فى مقعده لا يغادره أو يتحرك فيه.. «وتوقف لحظة ناظرا إلى القطة وهو يضحك»:
− طبعا أنت مفيش عندك موبايل ولا تابلت ولا لاب توب.. ولا كانوا ولادك كل يومين تلاتة أو فى المناسبات يبعثوا لك على «الفيس» إن شاء الله تكونى بخير يا ماما ويبعتوا لجوزك الأستاذ «قط» نفس الكلام.. وربما استكتروا الرسالة على الفيس بوك.. وقسموها بينك وبين زوجك لك «الفيس» وله «البوك»!
يبدو أن القطة استشعرت أن الموضوع شرحه سيطول فتمددت على الأرض وتهيأت لسماع حواديت العجوز.. وهو من جانبه أراد بديلا عن الحكى المرسل أن يضعها فى الصورة كاملة.. اخرج موبايله وعلى شاشته الرئيسية صورة جماعية لأفراد عائلته.. أولاده وأحفاده.. فى لقطة لم يعد من السهل أن تتكرر بهذا الجمع.. ومنهم من غاب ومن ابتعد ومن أراد الغنيمة له وحده.. وقد تضاربت المصالح وتشعبت المطامع.


بص كده
فتح الموبايل ودنا من القطة يعرض عليها الصورة ويقدم لها أفراد أسرته بتعريف مختصر يلخص الأمر كله.. ثم انتقل إلى تطبيق «الواتس آب» يستعرض لها الرسائل مكتوبة أو مسموعة حسب ما تيسر.. أخذ يقلب ويقلب ثم اكتشف أن القطة راحت فى سابع نومة.. تركها لحالها.. وتطلع إلى زملاء الدار.. وقد جلسوا جماعات وفرادى.. يتكلمون فى نفس الموضوعات ويحكون نفس الحكايات.. قلة جاءت إلى الدار بكامل إرادتها والعدد الأكبر.. كانت لهم هى المنفى.. وانتهز فرصة غفوة القطة وأخذ يقلب صفحة ذلك الجروب الذى وجده لمن تجاوزوا الستين لعله يجد جديدا عما قرأ بالأمس:
بوست ١
هل يحق لى وقد قاربت على مشارف السبعين أن أتزوج؟ أولادى يرفضون رغم كل الوفاء لأمهم المرحومة شريكة العمر.. وحجتهم كيف ستأتى إلينا بمن تقاسمنا فى مالك؟
بوست ٢
أصابتنى غيبوبة السكر وحدى فى شقتى الصغيرة بعد أن جربت الزواج بمن فرشت لى الأرض بالأحلام وستكون خادمتى المطيعة.. واستدرجتنى خطوة خطوة.. وكتبت لها ما طلبت وأكثر.. ثم بدأت تتحول إلى «محمود المليجى» وتكيد لى المكائد حتى يكون الفراق من جانبى عندما أصل معها إلى طريق مسدود لا بديل عنه.. فى ظل أعصاب لا تحتمل ومناورات فوق الخيال كنت أعرف المخطط.. ولكنى أقف أمامه عاجزا لا حيلة لى ولا خلاص.. إلا أن أمنحها حريتها ومالى.. قبل أن تتحول إلى جلطة تأخذ ما تبقى من العمر قبل الأوان وبفعل فاعل.. فكيف فاتنى بعد هذا الرأس الذى اشتعل شيبا أن الماء لا يمكن أن يجتمع مع النار فى إناء واحد!!


بوست ٣
فجأة طلبت الطلاق بعد زواج استمر ٣٥ عاما وثلاثة أولاد وكانت تهمتى أنى لا أنفق عليها كما ينبغى.. تقول هذا وهى تسكن فى كومبوند ولكل ابن سيارة.. إنها تؤيد الأولاد فى طلب الأكل من الخارج.. والانصراف عن أكل البيت.. قلت لها انت تعرفين دخلى وأنا لا أريد بعد كل هذا العمر أن أمد يدى لأقترض.. وأدخل فى دوامة تمرغ رأسى فى تراب قلة القيمة.. حاولت أن أحافظ على البيت ورفضت كل محاولات القرب فكان لها ما ارادت.. وانحاز الأولاد إلى صنعها.. كل تليفون منهم معناه «هات فلوس».. فهل أنا مجرد شباك صرافة بعد كل ما فعلته لأجلهم.. لست ملاكا بلا عيوب.. ولا هى أيضا.. استطيع أن استبدل الزوجة بأخرى.. لكن هل يمكن استبدال أولادى أيضا!! سأدفع فيهم ما تبقى من عمرى إذا كان لهم من ثمن!
تغريدة
أبى العزيز.. أدركت أن الدنيا كلها ماتت بموتك.. وغابت بغيابك.. لم أعرف أن السقف الذى كان يظلنى قد هوى إلا برحيلك.. ولم أشعر بالضعف إلا بفقدك فهل تسامحنى وأنت فى رحاب ربك؟ سألنى ابنى أكثر من مرة عنك: أين جدى لماذا لا تكلمنى عنه؟ وجوابى فى كل مرة: اسأل أمك؟.. ثم أقول لنفسى خجلا: بل عليك يا ولدى أن تسأل والدك عديم الشخصية!
بوست ٤
«طفت الهند.. طفت السند.. طفت العالم الأصفر.. ولم أعثر على امرأة تمشط شعرى الأشقر.. وتحمل فى حقيبتها إلىّ عرائس السكر.. وتكسونى اذا أعرى.. وتنشلنى إذا أعثر.. أيا أمى.. أيا أمى.. أنا الولد الذى أبحر.. ومازالت بخاطره تعيش عرائس السكر»..


كنت أود لو أكتب هذا على قبر أمى من شعر نزار قبانى.. وقد رحلت من سنوات وما يزال طعم سكرها الحلو فى فمى أستعين به على مرارة الأيام.
قصة
داهمنى مرض السكر.. وقرر الأطباء بتر ساقى وأصبحت عاجزة عن  الحركة إلا بمساعدة غيرى. كان ابنى يعيش معى فى شقتى.. وتزوج فيها.. وأنجب أولاده.. وضاق علينا المكان.. وأصبحت حملا ثقيلا على ابنى وهمست إليه زوجته أن يضعنى فى غرفة ملحقة بجراج العمارة لا يسكنها سوى الفئران وأنا لاحول لى ولا قوة.. وأشفقت جارتى على حالى وجاءت بى إلى دار المسنين.. وتكفل الجيران بمصروف الدار.. واعتزلوا التعامل مع ابنى فأصبح منبوذا مكروهاً.. وباع الشقة.. وكان قد توسل أن أكتبها باسمه وفعلت راضية فهو وحيدى.. وحاولت أن أتعلم التعامل مع الفيس بوك لعلى اتواصل معه.. وبحثت عنه ولم أجده.. وعرفت أن زوجته أخذت الشقة الجديدة وطلبت الطلاق.. وتركت له الأولاد.. واضطر أن يمد يده إلى أموال الشركة التى يعمل بها.. وقبضوا عليه ودخل السجن..


وكل ما أطلبه من الله أن يعلم ابنى أنى رغم كل شيء قد سامحته فمن يبلغه هذا فى سجنه.. ويقول له إن أمك ما زالت تحتفظ بسلسلة ذهبية.. يمكن أن يأخذها ويستعين بها على ضائقته؟
حاول بعض زملاء الدار مساعدتها للوصول إلى ابنها.. وكان هو يبحث عنها فى المقابل.. طلبا للعفو والسماح.. وماتت الأم قبل أن تصل إلى ابنها.. وفى نفس اللحظة كان الابن يلفظ أنفاسه الأخيرة وكأن أرواحهما كانت على موعد مع السماء فى نفس اللحظة وترك خطاباً أوصى مأمور السجن ألا يفتحه إلا بعد موته وكتب فيه:
 (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٠٨− ١١٠ النحل).
عودة إلى القطة
مات العجوز على مقعده فى دار المسنين.. وظلت القطة ترافقه حتى آخر أيامه.. ثم اختفت كما جاءت!!

 


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة