علاءعبد الوهاب
علاءعبد الوهاب


يوميات الاخبار

سرطان التوحش.. وأنيميا التحضر!

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 16 يناير 2024 - 07:19 م

يبدو أننا بصدد حضارة الهمج الذين لا يكفون عن ادعاء الأفضلية، دونما دليل من سلوك أو حتى مشاعر تنم عن صحة ما يدعون!

لماذا نجنح غالباً فى لحظات الحنين إلى استدعاء الماضى؟
ربما كانت قسوة اللحظة، أو بشاعتها، أو عبثيتها المبرر الذى يسوقنا، أو يدفعنا بقوة نحو تذكر الماضى، وقد يكون فى طياته مواقف طيبة، أو سعيدة، ولكن لم نتوقف لنسأل أنفسنا:
كيف أصبح الراهن بهذه الدرجة من القتامة بما يحمله من وحشية، وعنصرية، وتنكر للقيم الإنسانية المفترض أن الفطرة السليمة تحتضنها، فإذا بنا أمام لحظة عاتية، مشاهداتها دامية، بل الدم القانى يسيل أنهاراً، والسواد يجلل إطاراتها، بل يحتل القلوب، والضمائر قبل أن يفيض ليؤطر أو يؤشر؟!
والحال هكذا؛ تبدو الحياة والموت دون فواصل، بل ثمة من يفضل الموت على حياة، لا يقدر على مواجهة تحدياتها وصعوباتها.
تأملت، كما تأمل غيرى، وتفكرت مثلما حاول آخرون أن يفكروا، أو يتدبروا عسى أن يكون ثمة مخرج، أو ضوء يلوح من أقصى نقطة ممكنة، إلا أن المحصلة تكون حاصل «ضرب»، وليس «جمع» مفردات تقود إلى أن الإنسان الذى حظى بكل تقدمه، وما حازه من منجز علمى وتقنى، فإنه على المستوى الأخلاقى، لم يتجاوز بعد حدود الغابة كثيفة الأحراش، التى يتساوى فى دروبها مع الوحوش!
حالة مثالية، بل نموذج يدعو علماء النفس إلى إعادة النظر فى كثير من المسلمات والبديهيات التى بنوا عليها نظرياتهم فى تطور الإنسان، وتقدم الإنسانية، حالة من الفصام الإنسانى الواسع والجامح، وإذا كان ثمة استثناءات، فتظل بالفعل استثناء لا ينفى السياق العام، الذى تحت سحاباته الداكنة، لا ننتظر إلا الرعود والصواعق، وما ينجم عن ذلك من عنف مدمر، بالممارسة أو الحض عليه، أو تشجيعه، أو التواطؤ مع مرتكبيه، ألا يمثل ذلك حالة فصامية نموذجية، إذا كان المنخرطون فى فخاخ العنف الدموى الأسود هم أنفسهم من يدعى حراسة الحضارة، والحياة تحت ظلال التحضر، وهم، هم الذين نهضوا علمياً ومعرفياً، فصاغوا شكل العالم المعاصر، لكنهم فى حالة انكشاف حضارى مذهل ومذرٍ، فى غياب أى تقدم حقيقى على المستوى الإنسانى!!
سقوط مروع للإنسانية
هل هناك من يجرؤ على تساؤل من قبيل:
لماذا كل هذا الكم من السوداوية، الذى لم يعتده الأصدقاء والقراء من العبدلله؟
سوف أرد على ذلك بسؤال:
ألا تشاهدون معى ما تنقله الشاشات من غزة المدمرة، ومعاناة شعبها الصامد رغم نزيف دم غير مسبوق فى كل ما عرفته البشرية من حروب وصراعات، دون أدنى مبالغة؟
ألف ضحية يومياً فى أكثر إحصائية دموية بالتاريخ الحديث للحروب!
ثمة قطيعة صارمة مع الدنيا التى تفتحت عيوننا عليها، وعشنا تحت سمائها، وعرفناها سواء بقراءة كتب التاريخ، أو المعايشة أو المتابعة عن قرب أو بُعد حروب تراوحت فى ضراوتها وطولها وعنفها، وكنا نتصور أن البشرية بلغت قاعاً يصعب أن تجد هوة أكثر عمقاً منه، لكن إذا بمن استمسكوا ببقية من ضمير أو قيم، أو حافظوا على بعض من نقاء الفطرة يستيقظون على لحظة سقوط مروعة للإنسانية، لا يمكن أن يقلل من بشاعتها تصويت لصالح وقف إطلاق النار فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مظاهرات تنطلق فى هذه العاصمة أو تلك، منددة ومستنكرة بوحشية الكيان الصهيونى، وممارساته الإجرامية، وتورط الغرب الرسمى بحكوماته وبرلماناته فى دعم هذا الكيان اللقيط، أو استقالة لمسئول من المستويات الوظيفية المتواضعة فى إحدى وزارات الدفاع أو الخارجية فى أمريكا أو أوروبا، إن تلك المواقف لم تغير بشاعة المشهد قيد أنملة.
الحق، والحق أزعم أنى لا أقول سواه:
نحن إزاء حالة من تفشى سرطان التوحش، بالمقابل فإن الحضارة والتحضر يعانيان من أنيميا خبيثة شديدة الوطأة، سرطان وأنيميا من تلك الأنواع التى تعجز أى عقاقير عن مداواتها، أو شفاء البشرية من شرورها، وأمام عجز وتهافت ما يسمى بالمجتمع الدولى على مواجهة وحشية كيان لقيط، وداعم أقرب إلى البلطجى، تمضى المهزلة دون كوابح فى مدى منظور!
بين «المدنية» و«الحضارة»
ضبطت نفسى أردد:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى وما الإصباح منك بأمثل!
هل الزمن زمان الشعر، ولو كان على هذه الدرجة من التشاؤم؟
بالطبع: لا
لكن فيض التساؤلات لا يتوقف:
هل ثمة تناسب عكسى بين «المدنية» و»الحضارة»؟
إلى حد بعيد: نعم
أرى من يفغر فاه، ومن يقطب الجبين، ومن تتحرك رأسه كالبندول و..و... إلا أن ذلك لن يغير من قناعة المتأمل فى قليل أو كثير، والعبرة بالواقع المرئى، والحال الملموس.
وحتى أزيل أى مساحة من لبس أو غموض، فالمدنية تُعبر عن الجانب المادى أو التقنى فى المسيرة البشرية، بهدف توفير منافع تخدم الغايات الإنسانية، وثمارها بلا حصر، ولا يمكن التشكيك فى أهميتها، ولكن..
وآاااه من «لكن» تلك.


الحضارة أعمق بكثير إذ إنها تترجم الجانب الروحى والوجدانى والجمالى، والفكرى و..و.. ثم تنعكس على طبيعتنا وآليات حياتنا وتفكيرنا وتعاملنا مع «الآخر»، وتعاطينا مع الدين والفن والأدب و...و...
الاستنتاج البسيط والسريع أن ثمة تباينا بين المدنية والحضارة، ولا أقول تناقضا، فلا يمكن لعاقل أن يضع الحضارة مقابل المدنية أو فى مواجهتها، لأن المنطق السليم يقود إلى أنهما كوجهى العملة، إلا أن التجارب الإنسانية تخذل الحضارة لصالح المدنية، فبينما الثانية لا تتوقف عن التقدم، فإذا بالأولى قد تضربها الأنيميا الحادة، وهذا بالضبط ما يخيم على المشهد الإنسانى فى لحظتنا الراهنة.
هكذا؛ فإن أرباب المدنية يعانون من سرطان التوحش، ولا عجب فى ذلك!
أهى حضارة «الهمج»؟!
... ولأن التقنية والأدوات التى تنتجها ومجالات تطبيقها وكل ثمارها بمثابة التعبير عن مفهوم «المدنية»، فإن السلاح يأتى فى هذا السياق، والتقدم فى إنتاج الأسلحة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرب، فلا حروب دون سلاح، وللأسف فإن الحواجز سقطت تماماً بين توظيف الاكتشافات العلمية فيما يفيد الإنسان، واستثمارها فى إنتاج وسائل الدمار، بل الدمار الشامل!
ولأن الإنسان يُغلّب الجانب المادى على ما عداه، فقد جاء ذلك على حساب الجانب اللامادى المرتبط بالقيم، من ثم كان الفشل فى حل معضلة «الحرب والسلام»، لصالح الحروب، وخصماً من أرصدة السلام!
تطوير السلاح، والتوسع فى إنتاجه، والسعى لامتلاك ترسانات هائلة منه، رسخ فى النفس التى احتضنت هذا الثالوث روحاً وثابة للحرب والغزو والقتل والعنف، فإذا أضيفت لهذه «الخلطة» العنصرية المتعالية والتعصب الشديد، فالمنتج النهائى يكون على النحو الذى افتضح فى غزة، وترجم أعلى مراحل التدهور الحضارى، بينما الكيان الصهيونى، ومن يقف خلفه يحاولون على خلاف الحقيقة، تصوير الأمر على أنه مواجهة بين الحضارة والهمجية!!
ومن جديد تتناسل الأسئلة الهائمة بحثاً عن إجابة شافية:
هل من يتبنى وسائل همجية لإحراز نصر، بأى ثمن دون أى وازع أخلاقى، مهما سالت من دماء، بينها دماء أطفال ونساء وشيوخ وذوى احتياجات، ومرضى و... ودمار للمبانى والبيئة زرعاً ومياهاً وحتى الهواء، لا يسلم من التلوث، هل تتفق كل هذه الهمجية مع ادعاء التحضر، أو الانتماء لأى حضارة إنسانية بمعناها الإيجابى؟
يبدو أننا بصدد حضارة الهمج الذين لا يكفون عن ادعاء الأفضلية، دونما دليل من سلوك أو حتى مشاعر تنم عن صحة ما يدعون!
ليس هتلر وإنما واشنطن!
وعطفاً على السؤال الذى كان مفتتح هذه السطور، فإن لاستدعاء الماضى من صفحات التاريخ، أو الذاكرة المتقدة، له أكثر من وجه، فكما يستدعى إنسان أو نفر من الناس صفحات تشف عن المسئولية الأخلاقية التى تتحرك جيوش تحت راياتها، فتلتزم بآداب الحرب وشرف الجندية، فإنه بالمقابل هناك من لا يقرأ أو يتذكر إلا الصفحات المجللة بالدم والعار، لكنه يثمنها قدوة ومثلا يحتذى!
وبينما النوع الأول من البشر يحرص على استدعاء القيم الإيجابية كالرحمة والتسامح، والعدل والحرية،..،... فإن النوع الآخر لا يعجبه ويخلب لبه إلا القسوة والغلظة والظلم والعجرفة و...،...
فى اللحظة الراهنة يهيمن على المشهد دعاة الحرب، الذين لا ينظرون إليها باعتبارها أفظع منتج بشرى، وإنما هى وسيلة وغاية، لاسيما إذا اقترنت بجرائم ضد الإنسانية، وباحتراف الإبادة الجماعية، وغزة خير شاهد.


آلة الحرب المجنونة على أرض غزة وسمائها وبحرها، لم يقرأ غلاظ القلوب بكل قسوتهم ووحشيتهم، سوى أبشع صفحات خطها بالدماء الراعى الرسمى والأب الروحى للكيان الصهيونى، فى لحظة يقوده وآلته التدميرية الأكثر تطرفاً فى التاريخ الإنسانى، ولا يضارعهم إلا ما سطره العم سام عبر قرون، منذ تأسيس بل وما قبل تأسيس أمريكا، وحتى الآن!
عبر تاريخها كان يشغل قادتها حيازة القوة العسكرية المتفوقة، والقدرة اللامحدودة على التدمير، بأكثر مليون مرة من كل مزاعمها عن قيمها الحضارية، وحراستها للأخلاق.


ظلموا هتلر عندما شبهوا به نتنياهو، وعصابته، فمثلهم الأعلى أبعد من ذلك.


ما تشهده أرض فلسطين على مدى ٧٥ عاماً، وجاءت ذروته فى غزة، يكاد أن يكون نسخة كربونية مما ارتكبه الأمريكيون الأوائل فى حق أصحاب الأرض من الهنود الحمر، ولم يتوانوا عن إبادتهم بوحشية تفوق ما يقدم عليه وحوش الغابات، وربما يأنفونه!
بالتأكيد فإن نتنياهو وعصابته قرأوا بعناية بالغة هذه الصفحة من التاريخ الأمريكى، التى وقعت أحداثها قبل نحو ٢٥٠ عاماً.
كانت حملة على بعض قبائل الهنود الحمر، استهدفت حرق مدنهم بمن لم يستطع الفرار من السكان، ثم دُفعوا إلى الغابات ليكون مصيرهم الفناء، لكن ذلك لم يعجب چورچ واشنطن، فأصدر أوامره بإحالة مساكن قبائل أخرى إلى خراب، وأن يصم جيشه الآذان عن أى نداء للسلام حتى تمحى آثارهم من فوق الأرض تماماً، ولم يهدأ بال الچنرال حتى جاءته البشرى فى برقية من قائده الميدانى:
«قد حولنا المنطقة الجميلة من حديقة بديعة إلى أطلال مهجورة تثيرالرعب والمقت»!
إنه مجرد مثال، لاشك أنه مما قرأه المجرمون الصهاينة، وكان دليلاً ومرشداً لما يرتكبونه من فظائع ومذابح، استدعوا الماضى أيضاً ولكن على طريقتهم.


ثم يخرج هؤلاء وأولئك دون ذرة من حياء، ليتحدثوا عن حضارتهم مقابل همجية «الآخر» العربى والمسلم، بل كل من يقع خارج إطار قيم الثقافة الغربية، أو بالأحرى الأمريكية، وظلها الصهيونى على أرض فلسطين المحتلة.
يبدو أن سرطان التوحش سلبهم مع ضمائرهم، خلايا عقولهم!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة