عصام عبد الحافظ
عصام عبد الحافظ


يوميات الاخبار

شعب الجبارين

عصام عبدالحافظ

الأحد، 21 يناير 2024 - 08:15 م

لا يختلف هذا الكيان المزروع عنوة فى أفعاله عن مآسى الفكر النازى الذى أشعل حربًا عالمية مدمرةً فى أربعينيات القرن الماضي

الأربعاء:
إنها النكبة الثانية التى يعيشها الأشقاء فى قطاع غزة، لكنها ليست كنكبة عام 1948، ففى الجولة الأخيرة من جولات الجهاد والمقاومة الفلسطينية، واجه ومازال يواجه الفلسطينيون واحدة من أشرس الكوارث التى يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، حتى إن التوقعات والمقارنات لما يرتكبه الجيش الصهيوني، قد أصبحت تضعهم فى ميزان التشبيه لمعاصى أقوام بائدة مثل عاد وثمود ولوط، ولا يختلف هذا الكيان المزروع عنوة فى أفعاله عن همجية حملات المغول والصليبيين فى بدايات الألفية الثانية، ومن بعدهم مآسى الفكر النازى الذى أشعل حربًا عالمية مدمرةً فى أربعينيات القرن الماضي.


لكن الشعب الفلسطينى استوعب الدرس، وتعلم الكثير ليأبى أن يتكرر ما حدث فى النكبة الأولى، وواجه جيش الاحتلال بعد عملية «طوفان الأقصى» للمقاومة فى السابع من أكتوبر العام الماضى بالثبات والإصرار والتمسك بالأرض، فلم تُجبره حملات التجريف وحرب الإبادة والتطهير العرقى إلى الفرار وترك أرضه، وعلى الرغم من سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين والذين دفنتهم الغارات الإسرائيلية وأطنان القنابل تحت الأنقاض، فإنهم مازالوا يقاومون ويتمسكون بالأرض، وأجبروا العالم الحر على التعاطف معهم والتظاهر من أجلهم لإيقاف الحرب المجنونة، وتكَشَفَ للعالم حقيقة هذا الكيان العنصرى بجرائمه التى يرتكبها بمباركة ودعم الإدارة الأمريكية وحكومات الغرب الأوربي.


استهداف الهويات الصحفية
كانت المشاهد القادمة من قطاع غزة مروعة وصادمة، ونقلت وسائل الإعلام صور الدمار والخراب والموتى والجرحى فى الشوارع والطرقات على امتداد القطاع، ومعظم الضحايا من الأطفال والنساء، ولم يسلم كل بيت فلسطينى أو أسرة من نصيبه فى شهيد وجريح ومعتقل على الأقل. ومنذ حرب الكيان الصهيونى على القطاع فى الثامن من أكتوبر 2023، ارتفعت الأرقام إلى شهيدين وجريحين ومعتقلين على الأقل، بل إن القصف العشوائى للقرى والمدن والمخيمات الفلسطينية أدى إلى إبادة العديد من الأُسر الفلسطينية بالكامل، ولم يستثن المدارس والجامعات والمستشفيات والكنائس والمساجد من القصف والتدمير، وحتى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة «الأونروا»، وشهد العالم مشاهد فاضحة للإنسانية ولمدنية القرن الحادى والعشرين، فلم يتردد هذا الاحتلال الجبان فى استهداف ومعاقبة الصحفيين وعائلاتهم وملاحقة كل من يحمل كاميرا وهوية إعلامية.


استهدفت إسرائيل بالقتل المتعمد أكثر من مائة وعشر من أصحاب الهويات الصحفية والإعلامية، وهذا الرقم مُرشح للزيادة والارتفاع مع استمرار الحرب التى لم تتوقف وامتدت إلى العام الجارى 2024، والهدف واضح ولا يحتاج إلى تفسير، وهو إجبار الصحفيين والمراسلين على عدم نشر صور الخراب والدمار وحرب الإبادة فى قطاع غزة، وكل من يفلت أو ينجو ببدنه من القصف الإسرائيلي، فالموت والعقاب يُلاحقه فى أسرته وأولاده وأقرب الناس إليه، وشهد العالم عشرات من حالات الاستهداف للصحفيين وعائلاتهم، لكن أكثرها مأساوية وإيلامًا ودموية ما حدث يوم الأربعاء الموافق 25 أكتوبر 2023 لعائلة الزميل «وائل الدحدوح» مدير مكتب قناة الجزيرة فى قطاع غزة.


فى ذلك اليوم تعمد طيران العدو قصف منزل الأسرة فى مُخيم النصيرات، فاستشهد اثنا عشر فردًا من عائلة الدحدوح، كانوا قد لجأوا إليه مع النازحين من الشمال، وكان من بين شهداء العائلة السيدة آمنة زوجة وائل التى يلقبونها بأم حمزة كُنية إلى ابنها البكر، واستشهد كذلك فى ذلك اليوم ابنه محمود 16 عاما، وابنته شام «ستة أعوام»، وحفيده آدم الذى كان ما يزال رضيعًا، وولد قبل الحادث بشهر ونصف الشهر فقط.
اغتالوا الحلم
الجمعة:
وعلى الرغم من هذه الكارثة الموجعة التى ينكسر معها الظهر والأمل، فإن وائل الدحدوح تمالك وكتم أحزانه وآلامه داخله لكى يستكمل رسالته فى تغطية حرب مجنونة، ويكشف من خلالها حقيقة احتلال فاجر فقد إنسانيته وبشريته، فلم تكن المرة الأولى التى يعانى فيها من الحرمان بسبب الاحتلال، فقد سبق أن اغتالوا حلمه بدراسة الطب لكى يداوى الجراح، واغتالوا حريته باعتقاله لسبع سنوات فى سجون إسرائيل.


استكمل وائل الدحدوح رسالته، ولم يتوقف الاحتلال عن ملاحقته وملاحقة عشرات الصحفيين بصواريخه وقنابله ومتفجراته، وفى يوم الجمعة الموافق 15 ديسمبر الماضي، كان يومًا عصيبًا واختبارًا قاسيًا آخر، فقد استهدفته إحدى غارات الاحتلال بإصابات مباشرة فى جسده، وفى طاقم العمل المرافق خلال تغطيتهم لتوابع قصف الاحتلال لمدرسة فرحانة فى خان يونس، لكنه أبى أن يستسلم ويتوقف قبل أن يكمل رسالته ومهامه، وكأنه نبى الإعلام وأيوب الصحافة، وعلى سرير المستشفى المنهار وهو تحت علاج إصاباته فى جسده وأطرافه، يكتشف وائل أن رفيق مهامه المصور سامر أبو دقة قد مات وارتقى شهيدًا فى تلك الغارة المشئومة.


الأحد:
وبعد مرور ثلاثة أشهر، وأكثر من 90 يومًا على حرب الكيان المحتل على قطاع غزة، وبينما كان العالم يحتفل بأعياد الميلاد وبالعام الجديد، تلقى وائل صدمة أخرى قاتلة يوم الأحد الموافق 7 يناير، ففى ذلك اليوم استشهد ابنه البكر حمزة هو وزميله الصحفى مصطفى ثُريا، استهدفهما جيش العدو بصاروخ أطلقته طائرة مُسيرة على سيارتهما، كانا فى طريقهما لأداء واجبهما الصحفى والمهنى فى تغطية الأحداث، ووقع حادث اغتيال فلذة كبده وزميله قرب منطقة المواصى جنوب غرب خان يونس، ليرتفع بذلك عدد الذين ارتقوا شهداء من عائلة الدحدوح إلى 13 فردا، منهم خمسة من أسرة وائل حمدان إبراهيم الدحدوح.
وعلى الرغم من كل هذه الكوارث التى وقعت على رأسه، فإن الدحدوح لم ييأس، ولم يستسلم، وكعادته تحامل على آلامه وأحزانه، ومسح دموعه وكتم أناته على فراق أحبابه وأعز ما يملك، وواصل مهامه وجهاده فى كشف وتغطية جرائم احتلال يستخدم جميع الأسلحة التدميرية، ويحصل عليها من الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن الذى يفتخر بصهيونيته، ومن حكومات الغرب الأوربى الذى لا يردد سوى نغمة أمن إسرائيل.


كل فلسطينى ذلك الرجل
الإثنين:
وما الدحدوح إلا نموذج وصورة تثير الدهشة لما يعانيه أهل غزة، وكل الفلسطينيين فى القدس الشريف والضفة الغربية، وهؤلاء جميعهم «دحدوح»، ينتفضون ويقاومون ولا يستسلمون على الرغم من مشاهد الخراب والدمار والتجريف الذى حول القطاع إلى أطلال، وعلى الرغم من عشرات الآلاف الذين ارتقوا شهداء أغلبهم من الأطفال والنساء، وعلى الرغم من أن الأرقام تتجاوز ربع المليون من المصابين والغائبين الذين لا يُعرف مصيرهم حتى الآن لوجود الآلاف تحت أنقاض المبانى المنهارة على امتداد القطاع.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة