سيد علي
سيد علي


يوميات الأخبار

حكايات من قلب غزة

الأخبار

الثلاثاء، 23 يناير 2024 - 06:27 م

تقف مريم فى غرفة المكتبة، تتفرج على الرفوف رفاً رفاً، تتأمل كتبها، وتسأل أبيها: هل سأترك كتبى هنا يا أبى؟، سيلسعها البرد والخوف والقلق والشوق، ستشتاق لى كتبى، وينادى الأب: يا بنتى يلا، القصف بيشتد !

رسائل مريم

السبت:

مريم قوش، شاعرة فلسطينية، تقيم فى مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة، الذى يضم أكبر عدد من الفلسطينيين الذين إجبروا على ترك ديارهم فى 1948، بعدما طاردتهم العصابات الصهيونية بالقتل والسرقة والتدمير تحت حماية الإنتداب البريطانى ووعد بلفور الذى منح اليهود صك اغتصاب الأراضى الفلسطينية، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى أكتوبر الماضى وأنا ومريم على تواصل مستمر، نتحدث معا عبر الواتساب كلما سمحت لنا الشبكة العنكبوتية بذلك. بعد انقطاع الكهرباء والماء والإتصالات، تصف مريم ما يحدث، وتقول أن هذه الحرب ليست كسابقتها، هذه امتداد لما كان يحدث أيام النكبة، حرب إبادة للشعب الفلسطينى، القتل للجميع، للأطفال والنساء والشيوخ، هدم البيوت على ساكنيها ومسح أحياء كاملة من على وجه الأرض، أسماء الشهداء كلها مصحوبة بواو العطف، استشهد فلان وأمه وأبيه وأبناؤه ومربعه السكنى، وذاكرته وأحلامه وأيام كانت تنتظره. تحكى لى عن صديقتها «ريم» التى كانت دائما تسألها: هل الشهداء يشعرون بالألم؟، وتجيبها مريم: نحن لم نشعر بشىء عندما انهارت الغارة بجانبنا، بعدها استشهدت ريم وظل سؤالها لا يغادر مريم، هل الشهداء يشعرون بالألم؟، تدمع عينا مريم ويختنق صوتها وتردد: الذين يستشهدون يستريحون، يستريحون من صوت القصف، من الخوف، وانتظار الموت، أما الأحياء فهم أموات مع وقف التنفيذ!.

مع الساعات الأولى من العام الجديد 2024، أرسلت لى «مريم قوش» تقول: «حينما كنا صغارًا، فى الأول من يناير من كل عام، كانت تقول لى أمي: أغمضى عينيك، اختارى لنفسك أمنيةً، تخيلى تلك الأمنية هالةً من النور، عانقيها حتى تصبحى أنت مثلها هالة من نور، ثم ألقى كل أحلامك للنجوم، سوف تصبح حقيقةَ، أجل، سوف تصبح أحلامك مضيئةً كنجومٍ فى السماء، ومنذ ذلك الوقت، وفى كل عام، أُغمِض عينيّ وأختار لنفسى أسطولًا من الأحلام التى ألقيها للنجوم، أغمض عينى الآن، أعانق كل الضوء الكامن فى روحي، أعانقه أكثر فأكثر، ثم ألقى بأحلامى للنجوم، أريد حلمًا واحدًا فقط، أريد أن نحيا فى أوطاننا بأمان»، بعدها بساعات أخبرتنى مريم أن أبيها طلب منها أن تستعد لترك المنزل والرحيل بعيدًا، لأن القصف الإسرائيلى سيطال المنطقة خلال وقت قصير، بدأت مريم تودع منزلها غرفة غرفة، وتحدث نفسها: «لايهون علّى أن أغادر، لا يهون علّى أن أنتزع من هنا»، تقف مريم فى غرفة المكتبة، تتفرج على الرفوف رفاً رفاً، تتأمل كتبها، وتسأل أبيها: هل سأترك كتبى هنا يا أبى؟، سيلسعها البرد والخوف والقلق والشوق، ستشتاق لى كتبى، ومكتبة جدى، سنتركها؟، وينادى الأب: يا بنتى يلا، القصف بيشتد، فى طريقها للخروج من منزلها بعيدًا عن مرمى نيران العدو، أخذت معها كتاب جدها عن رحلته أيام النكبة من مدينته إلى المنفى، وتقرر أن تكمله، وتتساءل « ألا يوجد حقيبة أحمل فيها الذاكرة، وأمضى بها إلى المنفى؟»، فى طريقها إلى رفح تتحدث مع نفسها: «فى السابق كنت ألوم أجدادنا، كيف هان عليهم ترك أراضيهم وبيوتهم، أيترك الإنسان روحه، كيف هان عليهم أن يُقلعوا منها؟!، اليوم فهمت كيف يُقلع الإنسان من تربته ويُخلع من روحه»، فى اليوم التالى أرسلت لها أطمئن عليها، وجاء ردها بقلب مكسور، الحمد لله على كل حال، اليوم قصفوا منزل عائلتنا فى النصيرات، واستشهد أكثر من عشرين شهيدًا، مايزال أكثرهم تحت الأنقاض!.

إيفانوف فى إسرائيل

الثلاثاء:

صدرت فى يونيو الماضى رواية « إيفانوف فى إسرائيل-شاهد على النكبة»، للروائى الفلسطينى كمال صبح، وتحكى الرواية قصة الطفل الروسى «إيفانوف» الذى يسكن فى قرية بالقرب من موسكو، تموت والدته فيتزوج والده من جارته اليهودية «إيستر»، وتنتقل ايستر وابنتها راحيل للعيش معهم فى منزلهم، وتبدأ الحرب العالمية الثانية فتحاول «ايستر» بكل جهدها إقناع والد «ايفانوف» بالهجرة إلى فلسطين، فيهاجروا معا إلى مستوطنة «بيتاح تكفا» المقامة على أراضى قرية ملبس الفلسطينية، يقضى ايفانوف فترة صباه وشبابه، ويتزوج من راحيل، وتجبره راحيل على الإنضمام الى منظمة «البلماح» الصهيونية، ويشارك فى كل ما كانت تقوم به العصابات الصهيونية من قتل، سرقة، وتدمير للقرى العربية المجاورة، كما يشهد موجات الهجرة الصهيونية وتواطؤ الإنتداب البريطانى معهم، وفى النهاية يهرب ايفانوف من الكيبوتس فيصادف فى طريق هروبه فلسطينى هارب من قريته ويسيران معاً حتى يستقرا فى حى العجمى فى يافا، ويشهد فى طريقه كل المجازر التى نفذتها القوات الصهيونية فى القرى العربية، إلا أنه يهرب أخيراً بأبنائه عائدا إلى قريته فى روسيا، وفى الطريق يروى لأبنائه قصته منذ أن كان طفلاً يبكى أمام جسد أمه المسجى.

فى حواره معى، أكد الروائى كمال صبح، أن الرواية تتحدث عن تفاصيل الهجرة الصهيونية إلى الأراضى الفلسطينية، وبدايات تشكيل العصابات الصهيونية، شتيرم، الأرغون، والهاغناة، وعلاقة المنظمات الصهيونية بالإنتداب البريطانى وإفتعال الأزمات، وكيف كان يترك مخازن الأسلحة دون حراسة وهو يعلم أن هذه العصابات ستقوم بسرقتها، ويفتعل البحث عنها، مبينا أن أكثر من كان يعانى من عمليات البحث فى أعقاب كل عملية سرقة للسلاح هى القرى العربية.
اشتهرت أعمال «صبح» الإبداعية برصد التاريخ الدموى للصهيونية واغتصاب الحق الفلسطينى، وكانت « إيفانوف فى إسرائيل»، توثيقا حقيقيا للمجازر الصهيونية التى تعرض لها الشعب الفلسطينى على أرض فلسطين، واستطاع المزج بين الواقع التاريخى والخيال الإبداعى من أجل تحقيق رسالة الرواية التى تسعى الى ترسيخ الفهم الحقيقى لأسباب الصراع والإحتلال، وتوضح مالم يكتبه التاريخ عن الأساس الفكرى الايدولوجى الذى نسميه «النكبة».

بعد صدور الرواية بأيام قليلة بدأت الصحافة الإسرائيلية تشن هجوما عنيفًا عليها، وبدأت مقالات الكتّاب الإسرائيليين فى تكذيب أحداث الرواية، وأدعت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية « أنها مليئة بالأكاذيب والأحداث التاريخية التى تشوه الحقيقة»، وجاء رد «كمال صبح» على هذا الهجوم بكلمات واضحة وواثقة، بأنه يعتبر هجوم الصحافة الإسرائيلية على الرواية شهادة بأنها نجحت فى دعم وتأصيل الرواية الفلسطينية، وبذلك ينضم «صبح» لقائمة الأدباء الذين تعرضوا للهجوم من الصحافة الإسرائيلية، وجندوا أقلامهم وفكرهم الإبداعى لكشف تزييف وتزوير الصهيونية للحقائق التاريخية، مثل: إميل حبيبى، وغسان كنفانى، ومحمود درويش، ورسام الكاريكاتير ناجى العلى، وغيرهم.

يوميات الموت العادى

الخميس:

الشاعرة الفلسطينية سمية وادى، تقيم فى بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة ضمن محافظة دير البلح، نتحدث معا من وقت لآخر، سألتها فى إحدى المرات: كيفكم؟، وجاءت إجابتها صادمة: «الوضع صعب جدًا، القصف ما بيوقف، مافى مكان إلا وشبعوا فيه قصف، مسحوا بعض الأماكن عن الخريطة، مثل الشمال والشرق، نستيقظ بحثًا عن الماء لنعبّئ زجاجات ودلاء ماء بالكاد تكفى للوضوء والغسيل والشرب، ثم بحثًا عن سجلّ المفقودين لنرى من مات ومن نجا من الأهل والأصدقاء، قصف ودمار وموت من كل جانب، يقصفون البيوت على رؤوس الناس، لا كهرباء ولا ماء ولا وقود، نعيش حياةً أشبه بالبدائية، ما بين وجع الفقد وخوف الموت، ومأساة البحث عن الخبز والماء، الوضع مدعاةٌ للجنون، قفصٌ كبير يباد كل من فيه، دون أن يلتفت العالم لهذا الموت، حرفيًا نحن ننتظر الموت كل لحظة، وأخيرًا مازلنا نبحث عن أى أمل فى ضمير العالم النائم، لعله ينقذ ما تبقى منا»، وقد أرسلت لى الشاعرة سمية وادى قصيدتها « يوميات الموت العادى» التى تصف فيها مايعانيه أهل غزة من جراء حرب الإبادة التى يتعرضون لها منذ أكتوبر الماضى على يد جيش الإحتلال الإسرائيلى، وتقول فى بدايتها: «فى غزة نحن، وكل الحلم مؤجّل، نصطفّ طوابير طوابير، للخبز وللماء وللموتْ، نصطفّ طوابير، لنجرّ رمادية هذا الوقتْ، فى غزة نحن، والليل مضاءٌ بالفسفور، بقنابل عنقودية، والصبحُ سوادٌ مزدحمٌ بالفقدْ، مُمتلئٌ بنجومٍ غلّفناها بالدمع وبالأشلاءِ وبالدم، ألفٌ ألفان، ثلاثةُ آلافٍ، عشرةُ آلافٍ، ثمّ فقدنا العدْ!».

اقتباسات:

« من لا ذاكرة له فليصنع ذاكرة من الورق»

« المرء يتعلم اللغات حين يريد أن يبيع، أما عندما يريد الشراء فالجميع يفهمونه كيفما كان»

«إن الحياة، أكثر من الموت، هى التى بلا حدود»
جابريل جارسيا ماركيز ،

رواية « الحب فى زمن الكوليرا»
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة