صورة موضوعية
صورة موضوعية


ما رواه مهاب نصر قبل ذهابه إلى النوم الكبير!

أخبار الأدب

الأحد، 04 فبراير 2024 - 01:50 م

كتب: ياسر عبد الحافظ

قصدت معرض القاهرة الكتاب فى اليوم التالى لافتتاحه لشراء كتاب مهاب نصر «الحكاية على حافة النوم الكبير»، والذى لم يمهله العمر لرؤيته منشورًا، إذ باغته الموت ليسكت حماسه الدائم للفعل الثقافي، للقراءة والتفكير الدائمين، ليضع حدًا لحيرة وقلق ناتجين عن الفشل فى تفسير غياب المنطق عن العالم، رغم أنه وكما كان يرى وفق موقعه كمثقفٍ فإن الأمور ليست على هذا القدر من الصعوبة!

غافلًا عمّا أرى فيما أسير فى قاعات المعرض وبين أجنحته باحثًا عن موقع دار نشر الكتاب؛ «بيت الحكمة»، تتداعى إلى ذهنى مشاهد متفرقة من لقاءات جمعتنى مع مهاب خلال فترة أربعة أعوام قضيتها فى الكويت.

أسعى إلى استعادة تلك الفترة بعد أن كنت قد أودعتها ملفًا مغلقًا قبل فتحه مجددًا برحيل مهاب بهدوء وصمت ميزاه، عندما تعرفت عليه قبل اكتشافى ما يحجزه الصمت والهدوء خلفهما من سيلٍ هادرٍ من أفكار لا يربطها إلا سعى صادق ممن بدا لى أنه فيلسوف قديم ضل زمنه منتقلًا من رواق فى مكتبة الإسكندرية القديمة إلى الكويت، حيث صفت نفسه من الإنهاك اليومى لتأمين سبل المعيشة، متفرغًا بالكامل للكتب والأفكار، وهكذا رغب فى أن يبقى لبقية حياته، قبل أن يضطر إلى العودة إلى إسكندريته وهو فى الستين من عمره ليؤسس حياة جديدة لكنها لم تكتمل أكثر من شهور.

اقرأ أيضاً | على هامش معرض الكتاب

«عن السرد الحديث والمعاصر» عنوان جانبى يشرح ماهية كتاب مهاب، ربما كان ضروريًا لأن القارئ سيتحير من العنوان والمقصود به، كلنا نعرف الحكاية أو على الأقل هذا ما نتصوره لأن مهاب الذى أعرف سيكون لديه على الأغلب تصور مختلف للحكاية، لكن على أية حال مهما اختلفت رؤيتنا للحكاية فثمة تعريف أولى لها سيظل يجمعنا مع المؤلف بخلاف هذا النوم الكبير الغامض الذى نحن فى حاجة لتحديده لنساير المؤلف فى رحلته نحو حافته.

إنما وقبل الاسترسال أكثر مع العنوان أتوقف عند اسم مينا ناجى على الغلاف (تحرير وتقديم) ولا يمكننى منع السؤال: وهل من مثل مهاب نصر فى حاجة إلى تقديم؟ وإن تجاوزنا عن ذلك فما الذى يتطلبه نص له من تحرير؟

لكن القريبين من مهاب نصر على المستوى الإنسانى يعرفون جيدًا ما الذى يعنيه التحرير الذى قام به مينا ناجى وبينه تفصيليًا فى مقدمته للكتاب. لا حدود للانطلاقات الفكرية عند مهاب، وخلال الحوارات معه يجد المستمع نفسه مجبرًا ليس فقط على التركيز والإصغاء الكاملين بل وأيضًا المشاركة الجادة بإعادة ترتيب الأفكار وتتبع مسارها ودمجها أو الحذف منها حسب مقتضى الحال، ذلك أن مهاب وبالضبط كما يصفه مينا: «هناك متعة حقيقية فى الرحلات والالتفاتات والاستطرادات الفكرية التى يقوم بها، وتستطيع كقارئ الشعور باستمتاعه الشخصى وهو يحكى رواية أو مشهدًا فيها، أو يتأمل فى فكرة فلسفية لفيلسوف أو استبصار مفكر أو رؤية ناقد، أو أن يصل إلى ذات الفكرة التى طرحها عليك من مدخل آخر غير متوقع فى نص لاحق.»

وجود مينا ناجى إذن فى الكتاب جزء أصيل منه، والطريقة التى خرج بها العمل إلى النور تشبه بشكل ما طريقة الحوار فى أكاديميات الفلسفة القديمة «نصوص هذا المشروع كتبت «على يدي» كما يقولون.

يبعث لى مهاب بفقرات أو مقاطع آخذًا رأيى فيها، فأشير إلى بعض النقاط هنا وهناك، لنفتح فى الأغلب حوارًا بالرسائل الصوتية حول الموضوع المطروح، ثم يبعث لى بتطويرات النص حتى يصبح مكتملًا بذاته، لكنه فى نفس الوقت يستكمل ما سبقه من نصوص، ويفتح بابًا، أو أبوابًا عدة جديدة، يحتار مهاب أيًا يدخلها وكيف، أى كيف يستأنف الرحلة من جديد. ليختفى بعدها أيامًا، وأحيانًا أسابيع فنعيد الكرة مرة أخرى. ربما بقينا على هذه الحال مدة عامين، حتى وصلنا إلى مقال «سرد الشعوب المستعمرة» الذى لم يكتمل بسبب تعبه ورحيله المفاجئ».

وفق هذه العلاقة فى إنشاء الكتاب يمكن استيعاب العمليات التحريرية الإجرائية التى قام بها مينا ناجى باعتبارها أقرب إلى الحوار الهادف إلى الحفاظ على المنجز الفكرى لمهاب نصر الذى يصفه المحرر بقوله: «ربما لو كانت تُرجمت نصوصه ومقالاته الفكرية للغات أخرى لوجدت حظًا أفضل فى التلقى والتفاعل»، ووفق هذا يأتى تحرير الكتاب: «لذا وجب على أحبائه وأصدقائه والمتأثرين به أن نحافظ على منجزه الفكرى هذا، ونجعله حيًا بأن نتفاعل معه، ونجعله فى الصدارة ونناقشه، ونأخذه لأماكن أبعد.»

هذا إذن كتاب من كتب الفكر. إنما من الضرورى الإشارة إلى أنه عند النظر إلى أى عمل لمهاب نصر الانتباه لعدم إغفال أى من صفتيه اللتين تعامل بهما على الدوام مع العالم وقضاياه، الشاعر والمفكر. كثيرًا ما كان مهاب يسخر من ذلك الشعر الذى لا يقول شيئا، أحيانًا ما كان يستدل على وجهة نظره بنظم قصائد يحاكى فيها ساخرًا طرقًا شائعة فى كتابة الشعر، نستمع له ونرى القصائد مكتملة من حيث الشكل لكنها فارغة مما عدا ذلك. على هذا يجد القارئ فى أعماله مزيجًا دائمًا بين المفكر والشاعر من دون القطع إلى أيهما تميل الكفة، إلا لو اعتمدنا تفضيلاته الشخصية التى نقلها عنه مينا: «يقول لى إن الكتابة الفكرية والنظرية هى ما تعنيه بالأساس».

يبدأ الكتاب من الحكى وارتباطه بالنوم باعتباره رحلة، غير مأمونة العواقب عند الأطفال، إلى العالم الآخر والحكاية قارب النجاة ببلاغة التكرار والإعادة للقضاء على ما فى الكلام من إشكالات وتبسيطه فى ذات الوقت ليكون «نغمة مهدئة». وفق هذا الفهم الذى يقدمه المؤلف سيكون على القارئ الاشتباك مع الكتاب من اللحظة الأولى لتحديد مفهومه عن الحكاية ومقارنته مع مفهوم المؤلف، ويمكننى القطع أنه وفق ذوق القراءة الحالى فى مصر والعالم العربي، فإن الصدام مع كتاب كهذا حتمي، هذا رغم أن الكتاب لا يشير إلى ذلك صراحة غير أنه لا مفر من التفكير فى موقع القارئ مما يرد من إشارات: «إن التعطش للحكاية لا يأتى اليوم من الروائيين، ولا من الراغبين فى الاعتراف وحدهم، بل باعتباره حاجة ملحة من جمهور أخلاقى كسول: «احك لنا»... ليس لأننا لا نعرف، بل لتؤكد لنا ما نعرفه أصلًا».

غير أن «الحكاية على حافة النوم الكبير» ليس كتاباً فى نقد الحكاية أو الرواية، ليس تداخلًا مع مقولة الرواية ديوان العرب اتفاقًا أو رفضًا بل هو أشمل من هذا وطموحه يبدو فى بعض الأحيان مستحيلًا، ذلك أنه يلتف من خلف الحكاية وعبرها مقررًا أنها تبدو الآن كل شيء تقريبًا: «محيط واسع للسرد بلا ضفاف لا تبدو الرواية فيه أكثر من موجة ترتفع قليلًا عن سطحه.

وهو ما يخفى التمايز المهم بين صناعة «فن» تمثيليًا وبين أن يغدو الواقع كله اختلاقًا قصصيًا، ودون فهم هذا التمايز لن نعرف أيضًا نقاط التماس التى تسقط فيها الحدود بين القص الفنى وقص الحياة.»

كتاب مهاب نصر هذا الذى استودعه يدَيّ مينا ناجى قبل ذهابه إلى رحلته الأخيرة كتاب عنا، عن الحياة ذاتها وقد تقنعت بالرواية، أو على العكس هو كتاب عن الرواية وقد امتلكت جرأة الادعاء بأنها الحياة، كتاب عن أنفسنا فى مواجهة أبطال الروايات، عن الشر والحقيقة، ومع أن حوار المؤلف خلال عمله قائم بصورة أساسية على أعمال سردية ونظريات غربية وخلوه من المرجعيات العربية (باستثناء لمحة عابرة من ألف ليلة وليلة)، لكنه يبقى مع هذا أحد الكتب الفريدة التى نرشحها للقراءة من معرض الكتاب ذلك أن نظرته الواسعة إلى الفن والحياة وقدرة صاحبه الفائقة على رسم الفاصل الشفاف بينهما، واللعب معه، تمنحنا نظرة غير مألوفة إلى كل من الرواية والعالم الواقعى معًا وهذا قد يكون من شأنه تزويدنا ببصيرة ما نستخدمها فى «صناعة معنى للعالم بحسب وجودنا فيه».


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة