مريم الساعدى
مريم الساعدى


مريم الساعدى.. مرآتى أو طريقى الطويل والمكرر إلىَّ

أخبار الأدب

الخميس، 15 فبراير 2024 - 12:08 م

كثيرا ما أتيه عنى، أنسانى، أو أغفل عنى فى خضم معمعة انشغالى برؤية الآخرين، تلمّس مكامن هشاشتهم لأتجنب الضغط عليها بفعل أو كلمة أو لفتة أو نظرة، فأنا حين أُهشم -بلا قصد منى أو نيّة- منطقة هشة فى نفس أحدهم أتلبس الذنب ثوبًا أعيش فترات طويلة فى محاولة نزعه عن روحى. روحى الهشّة العمياء عن مستنقعات الذنب المتناثرة فى فضاءاتها فتقع فيها مع كل مواجهة مع العالم. لماذا أحمل ذنب العالم؟ لست أدرى! وكأنى خطيئة البشرية الأولى، وكأنى سبب كل المآسى، فأضحك كثيرًا طردًا لهكذا وصمة، ولكن حتى حين أضحك كثيرًا تبدو هذه وصمة أخرى فى عالم لديه أسباب كثيرة للبكاء.

وحين تكثر الأسئلة، أحدّق مطولًا فى السقف بحثًا عن إجابة، أتأمل شقوقه وخيوط بيوت العنكبوت الهشة فى الزوايا، أصادقها وأشعر أنها الوحيدة فى مأمن وبأمانها البعيد أجد أمانى. يكفينى تأمل كائن ضئيل آمن كى أشعر أن فى الكون أملاً ينتظرنى كى ألتحق به.

اقرأ أيضاً | عبدالله إبراهيم يكتب : الكتابة باللّسان

وحين يطول التحديق يتحول المشهد فراغ، ثم يتسع الفراغ، يتمدد، حتى يحتل روحى. حينها أفقدنى، أسقط منى، أنسى اسمى وشكلى، أصبح رقمًا فى تعداد سكانى، فردًا آخر فى طابور طويل، شخصًا فى مكان مزدحم، اسمًا فى معاملة رسمية، أصبح طاولة، كرسى، سرير، فنجان قهوة، طبق صغير، مصباح كهرباء، قلم، ممحاة، أوراق شجر يابسة على الرصيف، أصبح رصيفًا مهجورًا، شارعًا لم يطرقه أحد، بابًا لم يُفتح من سنين، حشرة لا أحد يفهم سبب وجودها، أصبح كل شيء، وأى شىء، إلا أنا.

ولا يبدو أى مخرج من حالة الضياع المطلق تلك، حالة اللا هوية واللا وجود إلا عبر المرآة، أتحسس موقع الأرض تحت قدمى، أتذكر أن لى قدمين، وأسير، خطوات بسيطة، أو هكذا تبدو، لكننى وحدى أعرف أنها خطوات مصيرية نحو المرآة. وكأنها الطريق الطويل إلى البيت بعد هجرة مضنية.

 هناك.. أمامها.. سأرانى؛ وما أصعب أن يواجه الإنسان نفسه، أن يأخذ رأسه الذى ضاع، يحمله بين يديه، ويبحث عن وجهه، فيضع العينين مكان التجويف، والأنف فى مكمنه، والفم فى موضعه، ويعيد تشكيل ملامحه بالطريقة التى يألفها والتى يعرف بها هو نفسه. إنها خطوة عظيمة، معركته الوجودية الكبرى، تحتاج استعدادات كثيرة وفترات طويلة من التحديق الممعن فى الفراغ قبلها.

وهناك.. أمامها أقف، وألتقينى لأول مرة بعد غياب دهور؛ فالضياع عن روحك ولو لأيام هو فقدان لوجودك على مستوى دهرى.. وجودنا لا يحدده عدد الأيام التى عشناها فى الحياة، وإنما كم فى تلك الأيام كنا نشعر بوجودنا فيها.
 
أمام المرآة أنا لا أرى كيف تبدو ملامحى، فأنا لم أتشكل بعد، تحتاج لأكثر من لمحة أولى كى ترى مكمن روحك. لكن أحاول أن أرى كيف أشعر، أفتش كثيرًا عن شعور، يمضى الوقت.. لا شىء.. أفتش مجددَا، لا شىء، تمضى الدقائق، الساعات، الكثير من الوقت، ربما الأيام، وأحيانا سنوات، حتى أجد الشعور، وحين أجده بعد انتظار طويل أو قصير-ليس للزمن مدة فى اللاشعور- حتى يبدأ عقرب الساعة فى التحرك، هناك نبض، ثم أقبض عليه، أقلبه بين عينى، فى ملامح وجهى، بحثا عن ماهيّته، وحال أعرفه أرانى، أعرف أنى حين أتعرف على شعورى تتبدى ملامحى واضحة.

أقف مطولًا أمام المرآة، أتحسس ذلك الشخص المنعكس فيها، أين أنا، أبحث عنى، أنظر إلى عينى، أحدق فيهما، فالعيون مرآة الأرواح، أحاول اختلاس النظر إلى روحى عبر عينى المحدقتين فى المرآة.

وعندما تحدق مطوًّلا فى عينيك فى المرآة أنت تنفصل عنك، تخرج منك، من هذا الجسد المادى الثقيل الذى يؤوى الروح ويخنقها، المثخن بتراب الأوقات وظنون الناس وأرق الليالى وآمال الصباحات المحبطات وكل ذلك الخذلان.

وحين تخرج منك تصير خفيفًا، وما إن يتخفف القلب حتى تجلو البصيرة، فتراك وكأنك أحداً آخر غيرك، وما إن تكون غيرك حتى تكون أنت. فما إن يراك أحد آخر حتى ترى نفسك، وما من آخر أقدر على رؤيتك منك خارجك، وما إن ترى نفسك حتى تتمكن من رؤية الآخر وتقدير قيمة وجوده. فإذا عرفت قيمة الإنسان أصبح لك قيمة، وحينها فقط تكون إنسانا وتستطيع العودة إليك.

وإذا استطعتً أخيرًا، بعد الرحلة المضنية إليك، أن تمد يدك مصافحًا الإنسان، مبتسمًا هاشًا باشًا فى استقباله فى هذا العالم معك، إذا امتلكت القدرة على استقبال الآخرين فأنت قد عدت إلى أحضان روحك، والتصقت بك.

وعليك بعد ذلك أن تظل متيقظًا كى لا تسقط مجددًا فى أفخاخ الوجود المادى المتناثرة حولك على طول طريق المواجهة مع العالم، فتضطر أن تخوض مجددًا رحلة التحديق المطوّل والتحول إلى فراغ ثم شىء عديم القيمة ثم السير مرة أخرى فى الطريق البعيد إلى المرآة حيث بيت روحك، كى تفتش عنك وتعود إليك.

 الحياة مهمة عسيرة إذا أردت أن تكون فيها روحًا حرة لا يقيدها ذنب أو ندم أو أمل أو يأس أو خيبة، ولذلك عليك دومًا أن تحتفظ بمرآة صغيرة فى جيبك تخرجها وترفعها أمام عينيك كلما شعرت بالفراغ الموحش يوشك أن يحتل المشهد أمام عينيك ليكتسح روحك بعد أن تكون قد وطأت خطأ على وردة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة