اللغة العربية
اللغة العربية


صراع الهوية والوجود.. أزمة لغة العلم الأولى

حاتم نعام

الجمعة، 16 فبراير 2024 - 08:19 م

- اللغة العربية  ظهرت في أعماق سحيقة من التاريخ 
- لغة الضاد  تغلبت على اللغات الأصلية القديمة
- القرآن الكريم أعطاها قوة وقدرة على الحفاظ على نفسها
- العبقرية العربية الإسلامية أضافت إليها علمًا جديدًا
- اللغة العربية لغة العلم الأولى في العالم لأكثر من خمسمائة سنة
- غير المسلمين تعلموا العربية لأسباب متعددة
- الجانب الاقتصادي من أسباب وهن اللغة العربية  
- الحروب الصليبية أدت إلى الانحسار الفكري والتجمد الحضاري
- الاستعمار حارب اللغة العربية لأن اللغة جزء من الهوية
- تعلم اللغات فريضة والتعليم بها خطيئة
- من تحديات اللغة العربية أنها تواجه إعراضًا من أهلها
- لكي تعود اللغة إلى مكانتها لابد أن يستمع الناس إليها
- لابد أن يوطن العلم الحديث في بلادنا
- تقدم الأمم يحتاج إلى أوقات و أسباب و إرادة 

تحتل اللغة العربية مكانة مميزة بين لغات العالم، فهي واحدة من اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة، بجوار الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية، أصحاب المقاعد الدائمة في مجلس الأمن، وأيضًا اللغة الاسبانية، وهذا شرف ومكانة لم تحوزها لغات أخرى لدول قوية، فاللغة العربية أوسع اللغات انتشارًا، وعلى الرغم من التقدم الذي تحرزه في العصر الحديث، لكنها تواجه انحسارًا حضاريًا، وخطر التقوقع أمام عزوف البعض عنها، ومشكلة اللغة العربية هي مشكلة أهلها، فهي اللغة الوحيدة التي لا يفتخر أهلها بالانتماء إليها ويحرصون على أن يقدموا عليها لغات أخرى في مفاصل الحياة الرئيسية، لتفقد اللغة العربية أرضا جديدة كل يوم أمام كارثة التعليم الأجنبي بسبب الأجيال التي لا تعلم عن لغتها شيئا.
يحكى أن أحد الباحثين في فرنسا ذهب إلى مؤتمر علمي خارج بلاده وتحدث فيه باللغة الإنجليزية فأمر على الفور رئيس الدولة الفرنسية بإرجاعه من المؤتمر لأنه لا يمثل مهابة اللغة الفرنسية.
ولو انتقلنا من فرنسا إلى آيسلندا، تلك الأمة الصغيرة، التي لا يتجاوز تعدادها السكاني 350 ألف نسمة، تدرس لغتها الرسمية اللغة الآيسلندية  وتتمسك بها،  ناهيك عن ما يفعله الإنجليز في تعليم لغتهم للعالم .فكم من أمة صغيرة و كبيرة تدافع عن لغتها وتتمسك بها.  


أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ 
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
 فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
 وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي


أزمة كبيرة تواجهها اللغة العربية في بيتها العربي، دفعنا ذلك أن نعقد لقاءات ونجري حوارات مع سدنة هذه اللغة من علماء المجامع اللغوية وعلماء جامعة الأزهر، لنتجول معهم في رحلة طويلة ممتدة في رياض العربية لنتعرف منهم ومعهم على تاريخ هذه اللغة وانتشارها وازدهارها، والوهن الذي أصابها، ولنتعرف على السياسات اللغوية التي نتبناها من أجل الحفاظ على أخر أسلحتنا في هذا الوجود، وآخر قلعة من قلاع الهوية التي يحتمي بها الإنسان العربي من خطر فقدان شخصيته وذوبانه في الثقافات الغربية. فاللغة العربية المقدسة العظيمة ليست لغة استقامة اللسان فحسب، وإنما هي الرابطة بين الأمة العربية كلها في وحدتها وتضامنها.

 

تاريخ اللغة العربية ونشأتها:


أجمع حراس اللغة العربية على أنها ظهرت في أعماق سحيقة من التاريخ ونشأت كما تنشأ اللغات الأخرى، فقد اهتدى إليها فريق من الناس مثلما تهتدي كل أمة إلى لغتها. ومسألة الجذور اللغوية والأصول اللغوية سحيقة جدًا في التاريخ كما يقول الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم مرت بأطوار، بدأت بكونها لغة قبيلة، ثم انتقلت إلى مجموعة من القبائل، ثم تحولت إلى  لغة تجمع لهجات، وكل قبيلة بالنسبة للعرب تتحدث بلهجتها، فهناك تميم وهذيل، وأسماء كثيرة من أسماء القبائل العربية، كل قبيلة ذات مكان وموضع، وذات تاريخ، تتحدث بلهجة، واللهجات تختلف، قد تجد هذا الشيء باسم ثم تجده باسم آخر في مكان آخر، وليس هناك رابط ولا جامع في الزمن القديم، فعندما نقول الأسد له تسعين اسم فهذا معناه أن قبائل سمته بهذا الاسم، والسيف له سبعين اسم فقبائل سمته بهذه الأسماء، الحسام والمهند والسيف ألخ، كلها أسماء للسيف، فهي تنشأ أولا في مجتمع صغير، ثم تنشأ  لهجات في هذه المجتمعات الصغيرة ثم بعد ذلك تتغلب لهجة جماعة من هؤلاء على بقية اللهجات، وكان ذلك من حظ قريش لأن قريشًا كانت في مكة ومكة هي البلد الحرام المعظم في الجاهلية والإسلام فكانوا يعقدون المواسم الثقافية في سوق عكاظ وفي سوق المربد في البلاد ويأتي الشعراء، وعندما يأتي الشعراء في أمثال هذه المواطن يسعون إلى أن يحدثوا الناس بلهجة موحدة مشتركة ويتركون كثيرا من كلمات القبائل الخاصة بهم عندما يعودون إلى مواطنهم، وهكذا وبهذا التجمع الذي يجمع الناس بدأنا نحصل على لهجة كبرى لتكون شائعة في جميع القبائل لأن شعرائهم عندما يجتمعون يستعملون اللغة التي يفهمها جميع الناس فوصلنا إلى لهجة عليا كبرى تتمثل في لهجة قريش وبعض المواطن في الجزيرة العربية، وأصبح عندنا لهجة إلى مستوى أكبر من كل هذه، وعنئذ بدأ الشعر يصاغ والشعر من أسباب حفظ اللغة العربية.

 

واللغة العربية عضو من جماعة لغوية توسم بأنها اللغة السامية التي تنسب إلى أحد أبناء سيدنا نوح عليه السلام وكان لها أخوات، هؤلاء الأخوات انقرضوا في التاريخ مثل السريانية التي انقرضت وتحولت إلى لغة ثقافية محدودة يتعلمها الناس، مثلما انقرضت من الاستعمال في وقتها اللغة الهيروغليفية على سبيل المثال، والتي كانت هي اللغة السائدة في المجتمع المصري ثم تحولت إلى لغة ديموطيقية ولغة اتصلت باليونان ودخلت عليها تأثيرات، فهي سلالة أو فصائل لغوية تنسب إلى أم مفقودة وهي السامية التي تنسب إلى سام بن نوح عليه السلام، وكل واحد أخذ جزءا من خصائص هذه اللغة، لكن اللغات الأخرى انقرضت ولم تعد مستعملة إلا في نطاق محدود سواء كان ذلك دينيا أم ثقافيا، مثلما انقرضت اليونانية القديمة والفارسية القديمة والسريانية القديمة، وأصبحت شيئا محدودا جدا،  بحيث أنه يتعلمها الناس وإذا ارتبطت بدين معين تبقى لكن بعض اللغات التي ارتبطت بدين انقرضت في شكلها القديم، فمثلا اللغة العبرية عندما تحدث موسى عليه السلام تحدث باللغة الأرامية وليست باللغة العبرية، ليس بالأرامية التي كانت سائدة في وقت موسى عليه السلام  فلم يكن لهذه اللغة انتشارًا كبيرًا، وبعد أن تفرق اليهود  في سائر أنحاء الأرض أصبحت اللغة مهملة، فاللغة العبرية الحديثة ليست هي اللغة العبرية القديمة وهي ليست معروفة إلا في مواطن العبادة فقط فالعبري الحديث لا يقرأ إلا إذا تعلم اللغة العبرية.


فمر هذا على اللغة العربية كأي لغة من اللغات ثم  ظهرت أولا في نقوش، بينها وبين اللغة القائمة الآن شبه كبير ولكن محدودة،  وهذا نأخذه في تاريخ اللغة العربية، ثم بعد ذلك انتقلنا من النقش إلى لغة عربية مكتملة العناصر، واضحة القواعد، كثيرة الجذور، بليغة الاستعمال وهكذا، وهذا الوقت يعود إلى 18 قرنًا من الزمان ومن وقتها لم تنقرض اللغة العربية. 

 

لماذا لم تنقرض اللغة العربية كاللغات القديمة؟
الأسباب عديدة من أهمها أن القرآن الكريم نزل بها فأعطاها قوة وقدرة على الحفاظ على نفسها وعلى مواجهة اللغات الأخرى والتغلب عليها ولذلك كانت اللغة العربية التي هي شعار الإسلام، كما قال الإمام الشافعي تنقل مع الإسلام، فعندما ذهب الإسلام من مواطن في آسيا إلى كل الجمهوريات التي كانت منسوبة إلى الاتحاد السوفيتي مثل كازخستان وأوذبكستان وأمثال هذه البلاد، انتقلت معه اللغة العربية وتغلبت على اللغات التي كانت موجودة وعندما دخلت إلى إيران تغلبت على اللغة الفارسية القديمة وأصبحت إيران تتكلم العربية وظل هذا موجودا، بعضهم يكتب باللغتين وبعضهم يكتب باللغة العربية وحدها ويفضل العربية على لغته الأصلية وهذا موجود عند  ابن جني على سبيل المثال، الذي تحدث عن تفوق اللغة العربية على غيرها من اللغات حتى اللغة الفارسية، وعندما يقولون له أنت فارسي يقول هي ألطف حسا وأعلى ذوقا مما عرفناه من لغات، وبعضهم كان يتعصب لهذه اللغة لدرجة أن يقول لأن أهجى باللغة العربية خير من أمدح باللغة الفارسية.

 

أسباب انتشار اللغة العربية في أرجاء العالم المعمور:
 حبب الله سبحانه وتعالى الناس فيها مع الإسلام، ولابد للمسلم أن يتعلم شيئا من القرآن حتى يتم به صلاته ويسمع الآذان باللغة العربية والإقامة باللغة العربية ويتعلم اللغة العربية لأنها لغة الإدارة ولغة الحكم في المجتمعات، وأدى هذا إلى انتشارها في بقعة من شرق آسيا إلى الأندلس الإسلامية فكل هؤلاء يتكلمون العربية، فأكثر العالم المعمور يتحدث اللغة العربية، والقرآن الكريم أعطى هذه اللغة دفعة قوية ومتانة وصلابة وقدرة على النزال والصراع مع اللغات الأخرى والتغلب عليها ونشأ حول القرآن وحول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من العلوم الكثيرة مثل التفاسير بأنواعها مثل التفسير اللغوي والتفسير النحوي الذي يقوم على الإعراب والتفسير الاعتقادي ككتابات الأشاعرة والمعتزلة والشيعة وكذلك الحديث والفقه وأصول الفقه والبلاغة والأدب والدواووين الشعرية التي ظهرت في عصر الدولة الإسلامية واستمر هذا التقليد الذي كان موجودا في الجاهلية بشعر جديد في العصر الأموي والعصر العباسي والعصور التي جاءت بعد ذلك فهذا تراث ضخم جدا يتكلمه أناس كثيرون ويكتبه ويدونه أناس كثيرون فأصبح للغة العربية بفضل القرآن الكريم هذا التوسع الضخم، يقول الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة الدكتور أمحمد صافي المستغانمي إن اللغة العربية مكونًا  أصيلا  من الهوية الثقافية والحضارية للأمة العربية ، هي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم وهي التي قدم أهلها للعالم علومًا ومنجزات تشكل أساس كل النهضة الحضارية المعاصرة في محتلف المجالات  فقد ظلت لغة الفكر والعلوم  والآداب والمعارف على مدى قرون من الزمن وهذا محل فخر لنا .

قفْ في رحاب الضادِ تكسبْ رفعةً
فمجالُها بحرٌ بلا شُطآن 
اللهُ أكرمَها و باركَ نطقَها
فأرادَها لتَنَزُّل القرآن 
" اقرأْ " فمفتاحُ العلوم قراءةٌ
عمَّتْ بشائرُها على الأكوان 
عِلمٌ و فكْرٌ ، حكمةٌ و مواعظ 
فقْهٌ و تفسيرٌ، و سِحْرُ بيان 
و عَروضُها نغمُ العواطف و الهوى
و مآترٌ تبقى مدى الأزمان 
عربيةٌ ، و العرْبُ أهلُ مضافةٍ
و فصاحةٍ و مروءةٍ و طِعان 
عربيةٌ ، و المصطفى أرسى بها
منهاجَ صرْح ثابت الأركان 
فغدَتْ على الأيام  صوتَ حضارةٍ
تسمو بنورِ العلم و الإيمان 

سبب ثقافي آخر يضاف إلى هذا السبب المتعلق بالقرآن الكريم، وهو أن العرب والمسلمين لم يقطعوا صلتهم بفكر العالم وعلم العالم ولذلك ترجموا إلى اللغة العربية علوم الأمم الأخرى جميعا، يعني تراث الهند تراث فارس الإيرانية وتراث اليونان وتراث السوريان الذين كانوا في الشام وتراث لاتيني وتراث عبري إذا كان موجودا، كل هذا ترجم إلى اللغة العربية ونشأت بسببه علوم جديدة مثل الطب والفلك والكيمياء والصيدلة والجراحة ألخ، فاللغة تتوسع وتتمدد وتستعمل على الألسنة ثم تترجم هذه الكتب أو تنتقل بعد أن ترجمت علوم الآخرين متضمنة كل العلوم ثم أضافت إليها العبقرية العربية الإسلامية علما جديدا، وانتقل هذا كله إلى أوربا مرة ثانية فتكون اللغة العربية لغة العلم الأولى في العالم أكثر من خمسمائة سنة مثل الإنجليزية الآن، ثم ترجمت في أوروبا إلى اللغة اللاتينية وأصبح النص العربي موجودا وأصبح النص اللاتيني موجودا لأن اللاتينية كانت لغة أوروبا في ذلك الوقت والآن أصبحت لغة متحفية يتعلمها الناس وكان ذلك في أول القرن 12، 13. 14، وأوربا تترجم تراث العرب والمسلمين ويعترفون بأن اللغة العربية لا يمكن الاستغناء عنها والثقافة العربية لا يمكن الاستغناء عنها، ويقولون في أوروبا اننا نستغني عن حضارة الصين وعن حضارة اليابان وعن حضارة هذه البلاد لكن لا نستطيع ونحن نؤرخ لتاريخنا العلمي وتاريخنا الثقافي لا نستطيع أن نستغني عن المنجز العربي لأنه الذي أوصلنا بعلومنا القديمة نفسها وأصبح يدرس كتاب مثل كتاب الحاوي للرازي في أوروبا وأصبح كتاب القانون لابن سيناء يدرس في أوروبا وأصبحت فلسفة ابن سيناء تدرس في أوروبا وأصبحت فلسفة ابن رشد تدرس في أوروبا، وينقسم فلاسفة أوروبا إلى سيناويين يتبعون ابن سيناء وإلى رشديين يتبعون ابن رشد وفي الطب نفس الكلام وفي الكيمياء والصيدلة وسائر العلوم التي ترجموها من عندنا ويقولون نحن لا نستطيع أن نستغني ونحن نكتب تاريخنا العلمي عن هذا التراث العربي الذي كان وسيلتنا إلى معرفة حتى تاريخنا نفسه ، نحن عرفناه عن طريق العرب، فهذه أوقات الازدهار الكبرى للغة العربية من شرق آسيا إلى الأندلس، وأصبحت لغة العلم الأولى في العالم كله فمن كان يريد التعلم كان يأتي إلينا، فأتى ألينا من أمراء انجلترا وأتى باباوات من فرنسا  يتعلمون اللغة العربية وأنشأوا في جامعاتهم أقسام اللغة العربية في جامعات إيطاليا وفرنسا وغيرها من البلاد الأوروبية لتعلم اللغة العربية لأسباب كثيرة، منها معرفة العلم ومعرفة طبيعة هذا الشعب الذي يصارعونه ويصارعهم ، فيتعلمون لغتنا حتى يفهموا سر قوة هذا المجتمع الذي استولى على تلك الأراضي كلها وأزال اللغات التي كانت موجودة فيها وأحل محلها اللغة العربية التي أصبحت لغة العلم والثقافة في معظم أرجاء المعمورة.
يقول الأمين العام لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية إن اللغة العربية ذات مزايا ومن أهمها أنها لغة دين  ولغة قوم وانتشرت جغرافيا حتى  وصلت إلى دول عديدة وامتدت ثقافيا حتى شملت حضارات متعددة وواكبت البشرية حتى نطق بها من لم يولد في أرضها  وسجل بها تاريخه وعلومه.

أسباب وهن اللغة العربية:
وعن أسباب الوهن الذي  أصاب اللغة العربية فهي كثيرة بعضها يتعلق بالجانب الاقتصادي، حيث  كانت مصر هي المعبر الذي تمر منه التجارة القادمة من  شرق العالم إلى أوروبا، ولكن بعد اكتشاف طريق  رأس الرجاء الصالح حصل نوعا من الفقر، وأيضا من الجوانب الأخرى أن الحضارة تمر بأطوار، فإنجلترا كانت الإمبراطورية التي تحكم العالم كله، والحضارة التي كانت في مصر الفراعنة فكل حضارة تمر بأطوار قد تؤد ي إلى زوالها وقد تؤدي إلى كمونها ، ففترات الازدهار التي شهدها العالم العربي أسست قاعدة علمية ضخمة في كل العلوم، والأجيال الجديدة لم يعد لديها هذه المقدرة على الإبداع التي كانت في عصور الازدهار العربي، وتحول العلم الذي يقود الحضارة إلى شيئا من التوقف، وهناك عيوب تتعلق بالجانب العلمي في الحضارة الإسلامية فلم يكن لدينا مدارس كتلك المدارس الفقهية والمدارس الاعتقادية التي استمرت، فمذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام مالك أجيال وراء أجيال تتبنى هذا العلم وتنشره وتلخصه أحيانا وتضيف إليه أحيانا لكن عندما خفتت نسبة العبقرية أو نسبة الاهتمام بالعلم  أدى ذلك إلى شيء من الجمود .

أيضا الحروب  الكثيرة التي توجه إلى العالم الإسلامي والحروب الصليبية الــ7 بعضها احتل جزءا من الأرض في فلسطين على سبيل المثال أكثر من تسعين سنة إلى أن جاء صلاح الدين  وأخرجهم  الله على يديه. وأتى التتار أو المغول من الجانب الشرقي، وسقطت الدولة العباسية التي كانت تجمع شمل أكثر بلاد العالم الإسلامي كل هذا أدى إلى نوع من الانحسار الفكري والتجمد الحضاري، عندئذ نسبة الإبداع تقل ونسبة الإضافة العلمية تقل ويكون العلم تكرارا لما سبق إبداعه في عصور الازدهار، ثم وقعنا بعد ذلك كله في مرحلة الاستعمار، فالاستعمار كان يحارب اللغة العربية وانظر إلى الجزائر وانظر إلى مصر ، فالطب عندما نشأ في العصر الحديث كان يدرس باللغة العربية، كلوت بيه الفرنسي   كان يدرس الطب باللغة العربية ولامه قومه أنه لم يجعل الطب باللغة الفرنسية ، وتحول التعليم من اللغة العربية عندما احتل الإنجليز مصر سنة 1882 وفي سنة 1883 تحول التعليم في القصر العيني من العربية إلى الانجليزية وهكذا فالاستعمار حارب اللغة العربية لأن اللغة جزء من الهوية ، من الذاتية القومية ومن الشخصية، وكل المستعمرين يحاربون اللغة العربية، فرنسا أرادت أن تحتل الجزائر وتكون هي جزء من فرنسا والإنجليز حولوا تعليمنا من العربية إلى الانجليزية وهكذا  فهذا أدى إلى شيئا من الضعف في الإبداع الذي تحيا به اللغات وتتقدم به.


 والأسباب الأخرى كثيرة منها أسباب اقتصادية، وأسباب تتعلق بالحرب، والعلاقة بالعالم، والاستعمار، والحروب الصليبية، والمغول، والتحول عن طريق رأس الرجاء الصالح، كل هذه أسباب أدت إلى ضعف اللغة العربية، والحضارة مثل الإنسان يولد ضعيفا ثم يقوى في مرحلة الشباب ثم يضعف، «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ»،  فهذا قانون ولا يمكن أن تظل حضارة سائرة هكذا، فهناك حضارات بادت ومؤرخوا  التاريخ يتحدثون عن أكثر من عشرين حضارة كانت مزدهرة ولكنها انقطعت وانقضى شأنها، فأين اليونان التي كانت سيدة العالم؟ وأين انجلترا والصين قديمًا والصين الحالية؟ والاتحاد السوفيتي الذي قام وانقضى بعد 71 سنة فقط ثم تحلل وذهب؟. ولولا القرآن العظيم الذي حفظ اللغة العربية لكن من الممكن أن تتحول اللغة العربية إلى لغة بائدة.

 والشعوب من غير المسلمين تعلموا اللغة العربية لأسباب كثيرة بعضهم دخل الإسلام وبعضهم عامل اللغة العربية على أنها لغة إدارة تعلمها حتى يوظف في الدولة الإسلامية وبعضهم قرأها ليعلم ثقافتها،  وكان مكرم عبيد في مصر يقول أنا عربي ثقافة، مسيحي ديانة، فهي كانت لغة الجميع. لكن بعد الحملة الفرنسية التي جاءت إلى مصر جاءوا بعلم أدهش الناس وخصوصًا في الجانب العسكري، عندما كان المماليك يحاربونهم بأسلحة تقليدية ضعيفة جدًا أمام مدفعية حديثة التي كانت في إمبابة، فرأى الناس نمطًا جديدًا من العلم وتفوق، وكان نابليون حريصًا على أن يوصل هذا المعنى إلى المصريين،  وعندما تقرأ الجبرتي تجد فيه قصدًا في هذا الجانب بالذات، كما قام الفرنسيون أمام الجبرتي ببعض العمليات الكيماوية المدهشة. فهذه المدفعية الثقيلة وهذه الأسلحة الجديدة وهذه القوة العسكرية، هذا كله أدى إلى تحرك المجتمع المصري الذي استطاع أن يخرج فرنسا بعد ثلاث سنوات، وبدأ نوع من التحرك الذي يشعر بأن السهم سيكون صاعدًا.


 تقدم الأمم يحتاج إلى أوقات وإرادة:


تقدم الأمم يحتاج إلى أوقات ويحتاج أيضًا إلى أسباب ويحتاج إلى إرادة حازمة وثقافة عالية وإبداع قوي وإنفاق سخي، فعندما ينتشر التعليم ويكون تعليما عصريا متفوقا فإن ذلك ينشأ أجيال من المبدعين والمفكرين والمثقفين والعلماء في سائر العلوم وأصبحت هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى اجتهاد جديد حتى فيما يتعلق بالعلوم الشرعية فهذا يؤدي إلى أن نقدح الفكر وأن نأخذ بالأسباب العلمية المنهجية.

تحديات داخلية وخارجية:
 هناك في الوقت نفسه عوامل مضادة وتحديات جديدة  منها ما هو قادم من الخارج الذي لا يريد لهذه المجتمعات أن تستقر أو أن تستعيد لغتها، كما أن هناك تحديات ثقافية وتحديات اجتماعية  وتعليم بلغة أجنبية ومدارس أجنبية وليس معنى ذلك أننا ضد تعلم اللغات ، فتعلم اللغات فريضة واجبة الآن، خصوصا اللغات التي تتضمن التقدم العلمي فهذا فرض واجب لأننا نستطيع أن نغذي حضارتنا بهذا الغذاء الذي نستحضره من اللغات الأجنبية لكي ينتشر في عروق الثقافة وفي عروق العلم لكن الخطيئة الكبرى هي التعلم باللغات فهناك فرق بين تعلم اللغات  والتعليم باللغات، بمعنى أن تعلم اللغات فرض واجب لكن التعليم بهذه اللغات الأجنبية خطيئة وهذا أمر لا يفعله أي شعب في العالم إلا العرب ، فالصين بلغتهم والكوريين بلغتهم والهند بلغتها الفرنسيون بلغتهم والألمان والأسبان فهم يتعلمون لغة أخرى مع لغتهم  الأصلية، أما أن يتركوا لغتهم الأصلية لكي يتعلموا لغات أجنبية، فهذا لن تجده إلا عندنا.
يقول الدكتور محمود السيد رئيس مجمع اللغة العربية السوري : «لا يمكننا أن نتخيل مجتمعنا دون هوية ثقافية تميزه، واللغة هي محور الثقافة وحاملتها والمعبرة عنها،  والمحققة وحدة المجتمع وتجانسه وتماسكه، إلا أن تعزيز الهوية الثقافية والمحافظة عليها وتعميق جذورها لا يتنافى مع الانفتاح على الآخر، والحوار معه، والآخذ من إيجابياته، وهذا ما انتهجته أمتنا من قبل».


فاللغة العربية تواجه إعراضا من أهلها وليست موضع عناية، فمناهجها التعليمية تحتاج إلى مراجعات وتحتاج إلى تطوير رسالتك في إيصال لغتك إلى الناس، إن اللغة العربية تعامل معاملة لغة أجنبية بمعنى أن يكون لها مادة واحدة في منهج دراسي يقدم كله بلغة أجنبية فتكون اللغة العربية غربية عندما تكون كل العلوم بلغة أجنبية فلماذا لا تعلمني الكيمياء بشرائط اللغة على سبيل المثال.
فالخطيئة أن تتعلم جميع العلوم بلغة أجنبية، هنا التلميذ لا يسمع اللغة، واللغة تسمع أولًا، فلابد من السماع والإسماع والمحاكاة، فالطفل الصغير لا يعرف قواعد اللغة، ولا يعرف كتابة، لكن يسمع أبويه فيتعلم اللغة ويكتب اللغة ويحاكي اللغة .
وهناك تحد آخر هو أن بعض من يدرسون اللغة العربية يتحدثون بالعامية، كما أن اللغة الأجنبية تحولت إلى مكانة اجتماعية في مجتمعاتنا العربية فهذا يؤدي إلى انفصال داخل المجتمع ويؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات وإلى فئات مع أنهم جميعا أبناء أمة واحدة، فهذه كلها مقاومات وتحديات موجودة.

كيف تعود اللغة العربية إلى مكانتها؟
ولكي تعود اللغة إلى مكانتها لابد أن يستمع الناس إليها في المدرسة وفي المسجد وفي الكنيسة بلغة عربية فصيحة سليمة سهلة ميسرة بعيدا عن الألغاز  أو العقد والكلمات المعجمية أو التراثية أو التاريخية، فاللغة تعيش مع المجتمع، فهذا كله إذا لم يحدث فيمثل تحديات لهذه اللغة، لكن أن تعامل اللغة كأنها لغة أجنبية في داخل أوطانها العربية فهذه خطيئة كبرى.
لكن اللغة العربية بما فيها من قوة تقاوم هذا كله والقرآن من يساندها وإحساس الناس بهويتهم يساندها. لأنني في النهاية أنا عربي وإذا التحقت بحضارة أخرى سأكون هامشا من هوامشها وتابعًا من توابعها ولست عنصرا أصيلا ومن الخسارة أن ما ينتجه علماؤنا بلغات أخرى ينسب إلى اللغات الأخرى، ولابد أن يوطن العلم الحديث في بلادنا.
 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة