مع شقيقيها
مع شقيقيها


خيري دومة.. سيزا قاسم ونيكوس كازانتازاكي

أخبار الأدب

السبت، 24 فبراير 2024 - 02:03 م

ماذا كانت ستقول سيزا قاسم فى مذكراتها؟
لا أعرف ما إذا كانت أستاذتي العزيزة سيزا قاسم قد فكرت فى كتابة مذكراتها أم لا، ومن الغريب حقًّا أنها ضمن كثير من أحبتنا الراحلين، اختارت أن  ترحل فى صمت، ليزداد حضورها قوة وغموضًا.

لا يزال صوتها يتردد فى أذني، مصحوبًا بكثير من نغمات اللوم والسخرية والتقريع في مواقف متعددة، وقليل من نغمات المدح أو الرضا أو التشجيع، عرفتها دائمًا إنسانة وباحثة صارمة تذهب وراء الحقيقة إلى أبعد مكان، وتسأل عنها الصغير قبل الكبير، لكننى كنت دائمًا وما زلت- وقد رحلت سيزا قاسم- أشعر أن وراءها سيزا أخرى، وأقول لنفسى: ليتها تكلمت أكثر، ليتها كتبت مذكراتها.

اقرأ أيضاً

 أنور مغيث  ..النقد بروح إنسانية

أعرف بالطبع أن المذكرات الشخصية قد لا تقول فى النهاية شيئًا ذا بال، وربما تخفى أكثر مما تقول، وإنى لأذكر دائمًا قول أمى بأن قلوب البشر تظل صناديق مغلقة حتى لو تكلموا كثيرًا. 

كتبت سيزا قاسم عن حياتها فى مواضع كثيرة، كتبت عند رحيل أستاذتها سهير القلماوى عن جانب من علاقتها الأسرية معها، وعن دور أستاذتها فى التحاقها بكلية الآداب، وعن تحويل اهتمامها من الأدب الفرنسى الذى درسته فى سنوات الليسانس، إلى الاهتمام باللغة والثقافة العربية التى أعطتها بقية حياتها، كتبت عن علاقتها بأستاذها عبد العزيز الأهوانى الذى نقلها نقلة كبيرة إلى التراث العربى ووضع يدها على كنوز ابن حزم وطوق الحمامة، أشارت حتى إلى طفولتها الشخصية فى بيئة التجار بالقاهرة، وقارنتها بطفولة سعيد الكفراوى المعجون بطين القرية حين كتبت عن ناسه الطيبين.

يطمح الدارسون والنقاد، خصوصًا إذا كانوا فى جدية سيزا قاسم وصرامتها وإحاطتها، إلى لون من الكتابة يكاد يخلو من النغمة الذاتية، ويستعين بكل ما يمكن أن يوفره العلم من أدوات للقياس والإقناع الرصين، ولم يكن غريبًا أن تستعين سيزا قاسم بكل المناهج التى يمكن أن توفر لها هذه الأدوات، وتحميها من إغراء الكتابة الذاتية، أقصد مناهج كالبنيوية والسيميوطيقا. 

لكن الكتابة النقدية فى النهاية كتابة إنسانية، تتسرب ذات كاتبها بين سطورها، بدءًا من اختيار موضوع هذه الكتابة النقدية، ومرورًا بالمناهج التى يوظفها، ووصولاً إلى اللغة التى يكتب بها، والمعجم الذى يختار منه مفرداته. ويمكن للقارئ أن يتلمس جوانب من ذات سيزا قاسم فى الكُتّاب الذين توقفت عندهم بالدراسة، من ابن حزم، والطبري، إلى نجيب محفوظ، والطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا، ويوسف إدريس، وإدوار الخراط، وسعيد الكفراوى.

ويمكن له حتى أن يتعرف على روحها فى الطريقة التى نظرت بها إلى هؤلاء الكتاب وأعمالهم بحثًا عن جوانب خفية أو غامضة، بحيث بدت معظم بحوثها كشوفًا.

امتلكت سيزا قاسم، حتى فى نقدها العلمى الموضوعى الرصين، هذه النغمة الذاتية التى تحتفظ لهذا النقد بقدرته على التشويق وعلى إغراء القارئ بالتركيز والمتابعة والمتعة، حين تصحبه من نقطة إلى نقطة، وتضع يده على كثير من الكنوز والأسرار.

وأنا أبحث عن سيزا الأخرى هذه، التى ربما لم يسمعها أحد ولم يعرفها أحد، والتى تركت عالمنا فى صمت، صادفت مقالة قديمة كتبتها ونشرتها سيزا الشابة بالعربية فى مجلة «المجلة» عام 1964، أى بعد تخرجها بسنوات قليلة وقبل أن تحصل على الماجستير والدكتوراه بسنوات.

المقالة عبارة عن عرض خاص لمذكرات الروائى اليونانى الشهير نيكوس كازانتزاكى المعنونة بـ«خطاب إلى الجريكو»، وهى المذكرات التى كتبها كازانتزاكى عام 1956، أى قبل رحيله بعام.  قرأت سيزا الشابة هذه المذكرات فى لغتها الأجنبية، وفى هذا المقال قدمت تلخيصًا وعرضًا، وترجمت فقرات تعكس حساسية خاصة لرحلة صعود إنسان وكاتب عظيم فى هذا الوجود، كاتب عبرت أعماله عن حيرة وجودية عميقة على كل المستويات.

فى هذه المقالة الباكرة يمكن للمرء أن يتلمس بين السطور كيف كانت سيزا تنظر إلى الحياة ومعناها؛ بدا لى كأن كل خطوة وكل عمل من أعمال كازانتزاكى التى عرضتها، كان يجسد تصور سيزا نفسها لحيرة الإنسان وتمرده وشكه وانقسامه وكفاحه الذى لا ينتهى فى البحث عن الحقيقة.

وكان مما قالته سيزا: « نظر كازانتازاكى حوله فرأى الفضيلة تهوى، والمادة والعلم يتخبطان، أن الكون فى حاجة إلى روح مشرعة خلاقة، لوضع نظام جديد يعيد للعالم تناسقه وخصبه. إنه يحاول أن يسنَّ لنفسه قوانين أخلاقية صارمة غير مستمدة من أى قيم خارجية متعارف عليها، بل تنبع من أعماقه، ولا تهتدى إلا بالقيم الإنسانية.

إنه يولى ظهره للاطمئنان، ويثور على اليقين الموروث، لينطلق يهدم جميع الحواجز والحدود التى تمنعه من ارتياد المناطق المحرمة والخروج لاكتشاف المجهول... كلما ظن كازانتازاكى أنه بلغ اليقين ولد الشك، وكلما تخيل أنه حقق الهدوء والسكينة انبعث قلق جديد... المهم أن يعيش الإنسان هذا القلق، أن يشحذ ذهنه ويمنع اليقين أن يبلده، أن يحاول اقتحام الأبواب المغلقة وارتياد الأرض المحرمة... اقتنع كازانتزاكى أن الإنسان ملك يحمل مملكته معه حيثما ذهب، وعندما يصل إلى حافة الهاوية، عليه أن يخلع تاجه الورقى المفضض، ويتجرد من مملكته، ويلقى بنفسه دون تردد أو أسف». 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة