مقامات الغضب
مقامات الغضب


ممدوح رزق يكتب: مقامات الغضب خارج الدعابة الطوباوية

أخبار الأدب

الأحد، 03 مارس 2024 - 12:53 م

لا يتطلب «سرد الغضب» انعزالًا مقصودًا فحسب، وإنما يستدعى التفكير فى طبيعة هذه «العزلة» أيضًا. إنها ليست صوتًا ما زال يُعرّف نفسه بموقع المشاركة الذى يتخذه بين الأصوات الأخرى، وإنما الصوت المأخوذ بانفلاته، الذى يطارد فرديته المبهمة، المتناثرة خارج التجارب الجماعية والتواريخ الشاملة. الصوت المؤرق باستثنائيته العسيرة حين يقوده «الغضب» لاكتشاف إغواءات «اللعب» المخبوءة فى «حكايته». «السيرة» المناقضة التى تعرض مقاومتها للتجزّء والطمس داخل سياقات الصراع فى اللحظة التى يرويها ذلك الغضب. تتوقف الذات عن أن تكون أداة فى ورطتها الوجودية «غرض صغير يُستخدم مؤقتًا فى المأساة الكلية»، لتكون حينئذ لاعبًا بالدور الذى تعوّد أن يستعملها. تحوّله إلى «شيء» يمكن استراق النظر إليه، التسلل عبر صدوعه الغامضة، وتفكيك بداهته. 

«مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكنى فى الحقيقة لا أفعل شيئًا.. أبدد طاقتى فى كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، أكره، لكن لا أثر، لا نتيجة. كل ما أفعله صاخب، مشتعل، منفجر؛ بوم.. بوم، ثم لا شيء.. هدم.. هدم.. معول يسقط على كتلة، بناية، علاقة، رابطة، فتطير أجزاء الكل دون اعتبار لأى قانون أو قاعدة، ينهار المتماسك، يفتت الصلب. تتطاير شظايا، أجزاء مشوهة، منبعجة، لا يمكن تجميعها تلقائيًا، قد يتمكن الضغط، أو التحوير من تجميع المتشظي، حيث تتوالد المخلوقات الخربة، الرعب المجسد لعدم الانسجام، عدم التوازن».

اقرأ أيضاً

محمد سليم شوشة : مقامرة على شرف الليدى ميتسى حين تصبح الحياة رهانات لا نهائية


فى رواية «مقامات الغضب» للكاتبة صفاء النجار، والصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ تلاحق كل شخصية فى حكيها «المنعزل» المدى الغائم لغضبها، بتوظيف حضورها القهرى أو خبرتها الخاضعة كخيط «ممزق» فى نسيج علاقات متعددة ومتشابكة، أو كأثر «ملتبس»، متبدد، لماض تحتله شخصيات أخرى. كأن هذه الملاحقة السردية بمثابة كفاح لرؤية مضادة، لإزاحة العمى الذى يمثل شرطًا جوهريًا للعبور فى المسارات القدرية، أو كأنه بحث عن نوع من العمى المجازى الذى بقدر ما يغمض العينين بقدر ما يحفز البصيرة على استنطاق غيبيتها. 

«ما الذى يقضى على الغضب؟ يفرغه من طاقته، يحوله لشيء أبله بلا معنى؟ لا شيء يعادى الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائمًا طازج، فى كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها وتدفعك الهرمونات لحافة الهاوية، ويتحول العالم لحفرة، هوة، صراخ من السقوط المفاجئ، الذى لم يحدث بعد، أو ربما يحدث فى خيالك، لعبة المحاكاة».

المونولوج الكتابى إذن يحاول تعديل ظواهر الواقع أو إعادة ترتيبها وفقًا لأساليب متباينة، ولكنه يراوغ فى الوقت نفسه كل ما يطمع أن يكون مثالًا أو نموذجًا بديلًا. هنا يكمن اللعب؛ حيث لا يتيح سرد الغضب ملاذًا ترويضيًا على نحو فعلي، وإنما يجعله الحكي، بكل فرضيات المرح اللغوى غير المحكومة، المتوالدة فى طيات «التدوين»؛ يجعله يخاتل الاحتمالات التقويضية لذلك الواقع، يدفعه لتجاوز حدوده المتعينة ليصبح أقرب إلى الخيال المترصد وراء كل تفسير. السرد يحوّل الغضب من خطاب مستقر، يحاصره الضجر، ويمتلك من المبررات والتأثيرات المباشرة ما يجعله متجانسًا مع «الأحكام المسبقة» إلى طيف تخريبي، يتخطى الدوافع الملموسة والبصمات المتوقعة، يفسد المعانى الجاهزة التى تحاول أن تبقيه آمنًا.

«الفضاء يكاد ينفجر من الكلام، فيس بوك المقهى العالمى الكبير، يتحول الصراخ إلى غضب دائم مكتوم.. وهذا البيت مصدر كبير للغضب، نوافذه الزجاجية التى تجعل الشمس تسكن فى غرفتي، أشعتها تهاجم وجهي، فأنهض من السرير غاضبة لأغلق الستائر الـ «بلاك أوت»، وأحاول العودة للنوم، ومع تقلبى فى السرير وهروب النوم منى ومطاردتى له.. يزداد تدفق الغضب، الحمم البركانية تتناثر وتسيل وتحفر أخاديدها فى رأسي، النوم الغاضب يقذفنى فى أحلام فلاشية، غير مترابطة، تتداخل الأصوات التى تخترق أدوارًا عدة وتتسلق أشجارًا عتيدة».

ذلك تحديدًا ما يجعل المونولوج كذلك «حوارًا» بين الذات والشخصيات الأخرى، «جدلًا» بين خفاء الذات وأسرار تلك الشخصيات، حيث لم تعد الذات حين تسرد غضبها شخصًا يتكلم، وإنما أصبحت «غضبًا يروى حلمًا اغترابيًا».. الغضب يفتش كسارد متعدد الأصوات عن جذر مجهول، ومن ثمّ فإن الذات تعيد صياغة الشخصيات العالقة فى متاهاتها فتشكّلها كأحلام مماثلة، أو بالأحرى تنتزع اغتراب كل منها وتخلق بواسطته حلمًا موازيًا لها، سعيًا وراء الجذر «الاستعبادي» نفسه، والذى يمكن الحدس بمشيئته فى أبسط التفاصيل وأكثر المشاهد اعتيادًا.

«هذه العائلة كل من فيها عانى إما من تمرده وعصيانه وثورته وغضبه وإما من خضوعه وخنوعه واستسلامه، عائلة أفرادها لا يعرفون الاعتدال، على طرفى النقيض يقفون، وكل يدفع الثمن ولا فائدة من النصائح سوى مزيد من التوتر والعناد، هذه العائلة تخاف من الفشل، تهرب منه، لكنه الفخ الذى يقع فيه كل أفرادها».

ثمة ذاكرة ضبابية، مناوئة للماضى كما يتصوّر حدوثه يسعى كل راوٍ لخلقها، لا استنادًا إلى الغضب فحسب، وإنما إلى ما ينبغى أن يحصده هذا الغضب بالضرورة. ربما تكون ذاكرة انتقامية عوضًا عن الذاكرة الحصينة التى لم يمتلكها السارد مطلقًا. ذاكرة عقابية تجاه الحرمان من امتلاك هذه الذاكرة. كأن كل حكاية أشبه بكرسى اعتراف للحياة والموت لا للشخصية الساردة نفسها، وكأن كل اعتراف ضمنى للوجود، يُفضح فى ثنيات وأغوار المونولوج الذاتى هو ما ينتج تلك «الرسائل» غير المقروءة بين الغرباء. الرسائل التى تتجاوز ما يعتقد كل منهم أنه السياج الواقعى الذى يطوّق عالمه. ذلك الاعتراف «الغيبي» الذى يتم الحدس به أو استبطانه أو إدراكه عبر صمت «الرسائل» هو ما يوثق السعي، العفوي، المضمر للغة الحكى من أجل هدم الأسس التى يبدو أن هذه الرسائل ناجمة عنها. من أجل خلخلة ما يدعى الثبات فى كل «إحالة» إلى يقين أو مبدأ ما.

«أقرب الناس إليك وفى لحظة ما عند مفترق طرق، عند اتخاذ قرار تأييد أو رفض، سيبتعد عنك الغرباء.. ويتهمونك بما ليسوا فيك وسيفسرون كل ما قمت به من محبة واحتواء تفسيرًا ليس خاطئًا فحسب ولكن مؤامرتيًا، وسيستغلون كل ثغرات حياتك، كل نوافذك، جلدك الذى عريته أمامهم، ولن تستطيع أن تكسب ابنة خنت ثقتها وتخليت عنها فى أدق لحظات حياتها بالتجاهل، بالتعامي.. لم تؤازرها كما ينبغي، وحتى هذه اللحظة لا تستطيع أن تقدم لها نصيحة نافعة».

نلاحظ هذا التداخل بين «الذكريات» التى يتم استدعاؤها عبر الأصوات الحكائية المتعددة، وهذا ما يتسق مع فكرة «الغضب» كسارد، لا الشخصية التى تنتج «المونولوج» أو «الرسالة» أو «الكتابة» فى حد ذاتها، ذلك لأن الغضب يخاطب ما لا يُرى فى الماضي، ما لا يكشفه الجسد ضمن حدوده، ولهذا فإن كل ذكرى تشير إلى عتمة ذكرى أخرى لا إلى نفسها فحسب.

الكتابة هنا قرينة الثأر، حتى لو لم يستوعب السارد ما وراء «ارتكابه» حين قرر أن يتوحد بغضبه سرديًا. الثأر الذى «يحوّل العالم إلى نص هائل يُصاغ من التدوينات اللانهائية الشبقية الغاضبة» كما ذكرت فى كتابى «الغفلة والإدراك» / مدخل تفكيكى لفلسفة شوبنهاور. الغضب يحكى باعتباره اللحظة القصوى للانفصال، ليس عن الآخرين وإنما عن الأزلية التى لم تُخدش. الانفصال الذى هو تذكير وحفر فى جرح الانتزاع عن الأمان الأبدي.

«علاقتى بالله غائمة، هو فى ملكوته وكلياته وسموه، وأنا فى غضبى وحيرتي، لم يحدث أن سألته أو احتجته، لم يكن لدى حاجة لشيء، لا أتذكر أنى دعوت الله بعمق، لكنى أراه دائمًا بعيدًا، أشعر به متمركزًا خلف حجب كثيفة تفصل بينى وبينه».

 لذا؛ ما يُعد «انتقامًا» حكائيًا، بمستويات انتهاكه فى حدتها وخفوتها الظاهري، يستهدف ما تعتبره الذات أصلًا لكل بناء معرفى لا يمكنه تبرير نفسه، مهما تنكر فى حكمة أو تقمص فضيلة، أو تحصن فى وهم جمالي. الغضب هو إعطاب لدلالات ما يسرده «الغاضب»، أى ما تحاول الذات الساردة الاحتماء به تلقائيًا حتى عند ذروة رغبتها فى التخلى أو المقاومة، لأن الغضب نفسه هو ما يحفز التوترات والتناقضات التى تفكك المرجع «القيمي» أو الغاية «المتعالية»، فيصبح ما تحكيه الذات أقرب إلى تمرين مستتر على العدم. التمرين القائم على تشريح «الزيف» الذى تشير إليه كلمات «مارتن هيدجر»:

«بالقطع، يمكن لأى كائن كان أن يبدو على غير ما هو عليه فى حد ذاته».
«أشعر بعطب فى مراكز الطاقة، وبالحاجة إلى شحن جديد والرغبة فى امتصاص طاقة الآخرين، لتزويدى بالسخط والغضب اللازمين لروحي. «فيس بوك» واحد من وسائطى العديدة للحصول على الطاقة، لى على الفيس بوك أكثر من حساب لا أتذكر عددها، واحد فقط يحمل وجهى الحقيقي، البقية بأسماء وصور تعبيرية مختلفة، أجرب واقعًا غير واقعي، ذاتًا غير ذاتي، أتبنى آراء مناقضة لآرائي، ألف وجه أرتدى وأنا أراقب الآخرين، كأنهم فئران فى تجربة».

أستعيد الآن ما كتبته فى مقالى («كوكسال بابا” طفولتي: الكوميديا غضب.. الغضب ليس كوميديًا):
« فكرت فى هذا لأننى كنت طفلًا يربى منذ لحظاته المبكرة خبرة انعزالية للغضب، الخبرة التى لا تعتمد على الإحساس التقليدى والتنامى المتدرّج للمعرفة به فحسب وإنما على تأمل أغواره واكتشاف الآثار المتعددة والمتغيّرة لتحريره وكتمانه.. كانت خبرة قائمة على التلصص للكيفية الملغزة التى لا تُبقى تلك المراقبة من خلالها الغضب محكومًا بالشروط المباشرة للواقع وإنما تضاعفه وتحفّزه على التمادى خارج نفسه ليتمثل حتى فى أكثر الانحيازات براءة للذات.. كان التأمل يجعل الغضب فى أطواره البدائية أشبه بالإلهام الشهوانى الذى يحرّضه على التناثر بين الأجساد كافة، وعلى اجتياح المسافات والحدود والنفاذ عبر الحياة والموت».

فى كل سرد للغضب ثمة من يرى كائنًا يطير عبر شرفة مفتوحة. هذا الكائن ليس أحدًا بعينه حتى لو كان مجسدًا فى شخص ينتمى إلى السارد. هذا الكائن لا ينتمى فى حقيقته إلا لنفسه، لغيابه، للندبة التى تركها فى روح من يحكي. كائن لا يُعرّف إلا برماد المحترقين حول القطارات المنفجرة. هذا الكائن هو الانتظار، التأرجح بين النقائض، الذى يجعل من المغامرة والحيرة والترقب والترحال هواجس متغيرة عن المغامرة والحيرة والترقب والترحال. الذى يجعل الشوق المتوطد فى كل ألم ليس أكثر من دعابة طوباوية، لا يقتنصها إلا الغضب حين يتمعن فى عزلته، فى الثأر من ذلك الذى يعتلى دائمًا مفترق الطرق.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة