إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الاخبار

لا وقتَ للحنين

إيهاب الحضري

الأربعاء، 27 مارس 2024 - 08:02 م

نشكو من نقْصِ القهوة.. وتراجُع سُحبِ الدخان.. وعلى مقْربة منا بشرٌ يلْتهمون الجوع.. والإفطارُ لديهم حفنة عُشب.. أكلتْ خُضرتَه النيران.. لا حاجة للأطفال هناك إلى ألعاب نارية.. فـ«البُمْبُ» لديهم قُنبلةٌ تقصفُ عُمْرَ براءتهم، كلّ صباحٍ ومساء.

حدث فى رمضان

الأحد:

تقطع السيارة طريقها إلى وسط المدينة بسلاسة غير معتادة. تبدو الشوارع صائمة مثل البشر، وقد تخلّصتْ من زحامها التقليدى. اليوم ليس عُطلة لكنّه يلْبس قناع الإجازات. أعرف أن الغالبية ذهبوا إلى أعمالهم باستثناء بعض المتكاسلين، ممن يمنحهم رصيد عطلاتهم الاعتيادية ترَف البقاء فى المنزل. المشكلة إذن فى سلوكيات فوضوية، تتراجع فى رمضان تحت تأثير تعب الجوع والعطش. القوة قد تتحول إلى أمر سلبى، عندما نستخدمها فى تصنيع العشوائية المُفرطة. أصل إلى مقر «الأخبار» فى وقت لا يتجاوز نصف الساعة، وأشكر الله على نعمة الضعف البشرى، الذى يُنجينا من غوغائية الطرقات.

أقف أمام مبنى «موسى صبرى». إنه المبنى الذى شهد زيارتى الأولى للجريدة العريقة، قبل نحو خمسة وثلاثين عاما، تلبية لدعوة فرضتُها بإلحاحى على الكاتب الصحفى الكبير مصطفى عبد الله. التقيتُه وأنا طالب فى الجامعة، خلال مهمة صحفية لجريدة وهمية لا أذكر اسمها، غيْر أننى أدين لها بفضليْن: الأول تعريفى بمنطقة الدرب الأحمر عن قُرب، حيث كانت تشغل طابقا فى بيت قديم، ويتطلب الوصول لمقرّها عبور ممرات معتمة لكنها تضجّ بالحياة. والثانى أنها سبب أولى سفرياتى فى مهمة صحفية مع صديقى أيمن المهدى، دون أن نعرف المطلوب منا تحديدا.

كلّ ما فى الأمر أن رئيس التحرير جاد علينا بدعوة وصلتْه لحضور فعالية بالمنصورة. هناك تعرفتُ على مصطفى عبد الله، الذى صار بمثابة شريان يربطنى بعالم الإعلام، فى فتراتٍ اضطررتُ فيها للعمل بوظائف أخرى، لأن أبواب الصحف مُغلقة فى وجهى. استغرق الأمر عدة سنوات، حتى قرّرت الصحافة أن تفتح لى منفذا للعبور، والتحقت للعمل بـ«أخبار الأدب» فى رمضان 1995. وهى ذكرى تكتسب هذا العام مذاقا خاصا، لأن الشهر الكريم فى ذلك العام البعيد واكب شهر مارس، الذى شهد نشْر أول موضوعاتى بالجريدة. بعدها بأسبوع نشرتُ موضوعى الثانى، وكان تغطية لندوة عن مسلسل «الزينى بركات» فى نقابة الصحفيين. حظيت التغطية بإعجاب الغيطانى، ورسخّت أقدامى فى الجريدة التى قضيتُ فيها أكثر سنوات تألقى مهنيا. إلى أن غادرتُها بكامل إرادتى فى رمضان آخر بعد عشْرة أعوام بالتمام والكمال.

الحاضر أوْلى بالرعاية

يشكو الكثيرون من عدم القدرة على التركيز فى نهار الشهر الكريم، بينما أحب العمل فيه لأنه يضبط إيقاع اليوم. فى مهنتنا يتداخل الليل عادة مع النهار، حتى يفقد اليوم ملامحه وتغيب الحدود الفاصلة بين ساعاته، مع طول البقاء فى المكاتب المُغلقة، بفضْل ستائر سميكة أبقيها دائما مُسدلة، كى أمنع الضوء من الدخول. ربما لأننى أتجنّب تلك اللحظات، التى يتراجع فيها النور حتى يتلاشى. يُذكرنى ذلك بنهايات لا أهوى رفْقتها.

فى رمضان يستردّ الزمن تفاصيله القديمة، لأن أذان المغرب علامة فاصلة بين عالمين: دوامة العمل صباحا، وانسياب الإبداع ليلا، وبينهما يظل الحُلم بفنجان قهوة بعد الإفطار حافزا يُجدّد الأمل. أعترف أن أحلامى بسيطة، عكْس طموحاتى الهادرة، التى لا تزال تتجدّد دون يأس، مع أن العُمر يلفظ أنفاسه. فى رمضان الحالى لا وقت للحنين. ذكريات الماضى الحُلوة تتراجع، أمام معاناة نتابعها على الهواء، وتُنافس الدراما التليفزيونية فى واقعيتها القاسية.

نشكو من نقْصِ القهوة.. وتراجُع سُحب الدخان.. وعلى مقْربة منا بشرٌ يلْتهمون الجوع.. والإفطارُ لديهم حفنةُ عُشب.. أكلتْ خُضرتَه النيران.. لا حاجة للأطفال هناك إلى ألعابٍ نارية.. فـ«البُمْبُ» لديهم قُنبلةٌ تقصفُ عُمرَ براءتهم، كلّ صباحٍ ومساء.

النسيان كفيل عادة بأن يُذيب الأحزان، بشرط أن يبلغ الحزن محطة السكون، ويتوقف عن تجديد شبابه، غير أن الأحزان فى فلسطين مُتجددة دوما. فى البداية تعاطفنا مع الضحايا بصرخات استنكار، مصحوبة بفِعل إيجابى هو المقاطعة، ثم اكتفينا بوجع القلوب، وأخيرا انطفأت نار الغضب داخل الكثيرين، وتراجعتْ منشورات فضْح جرائم العدو، وحلّت مكانها منشورات الخلاف حول تقييم الدراما الرمضانية. خلع الكثيرون عباءات المقاومين بالكلمة، وارتدوا ملابس النُقّاد، مثلما برعوا من قبل فى تقمّص أدوار المُحلّلين الرياضيين. عموما، هذا العام اتخذتُ قرارا بلفْظ حكايات الماضى.

لن أتحدث عن طفلٍ كُنْتُه.. يُمسك بالفانوس ويلهو.. لنْ أذكرَ قصص الحب المُرتبطة بدعوة وصْلٍ كل صلاة.. لن ألعبَ بمشاعركمْ وأردّ إليكم سِحْر طفولتكم.. فخلال تداعى الأفكار الخلّابة.. يتمنى أطفالُ فلسطين فُتاتَ حياة.

باختصار، سأهرب من حلاوة الماضى.. لأن الحاضر أوْلى بالرعاية!

أحلام الشهرة الزائفة

الإثنين:

جميلٌ أن تتذكرنى الشُهرة فجأة وتضعنى ضمن حساباتها، بعد تجاهلها لى على مدار سنوات طويلة. أعترف أننى سعيتُ إليها وغازلتُها لكنها بادلتْ حبى بالصدّ، رغم أننى فتحتُ لها كلّ أبواب الودّ عبْر لقاءات تليفزيونية وكتبٍ ومقالات.

قبل أيام قليلة داعبنى «فيس بوك» بوهم الانتشار المفاجئ. تلقيتُ طلبات صداقة مبالغ فيها. تفاءلتُ لإدراكى أنّ مواقع التواصل باتت الباب السحرى للانتقال إلى دوائر الضوء، غير أننى أقنعتُ نفسى بضرورة الحذر، فطلبات الإضافة مليئة بفخاخ قد توقع بى فى شرّ أعمالى. التزمتُ بأقصى درجات ضبط النفس، وحرصتُ على عدم الانسياق وراء نفسى الأمارة بالشوق، بعد أن تذكرتُ مصائر أزواجٍ ضعفوا أمام صور حسناوات مزيفات، فحصدوا ثمار سوء أعمالهم! حدّدتُ قواعد صارمة لقبول الصداقة، تُبقينى فى المساحة الآمنة، ورفعتُ شعار: «من خاف سلم». استغرقتْ مراجعة الطلبات وقتا لا يُستهان به من يومى، أرصد خلاله الأصدقاء المشتركين، ومدى جدية الحساب الذى يطلب صاحبه المودة فى «فيس بوك». إذا كان حديثا أتخيّل أنه أنشىء خصيصا لللإيقاع بى، ولو كانتْ منشوراته تافهة أستبعده تلقائيا، فما حولنا من تفاهات يومية يكفينى. الأمر نفسه انطبق على أسماء مستعارة من عينة «شمس الغروب» و«نور الصباح» و«الهادئة فى زمن الصراخ». عادة تتسم صاحباتها بصفات الجانب المُظلم من القمر، وأكتشف بعد حينٍ أن الشمس والنهار انقلبا إلى ليلة سوداء صاخبة بلا بدْر!

رغم ذلك، وافقتُ على كثير من الطلبات، حتى اقترب عدد الأصدقاء من الحد الأقصى، وتوقعتُ تفاعلا لا يُستهان به مع منشوراتى، اعتمادا على فرضية بسيطة ومنطقية، هى أن طالب المودة الإليكترونية اطّلع على حسابى، واقتنع بأن دخولى حياته مكسب بالغ الأهمية. غير أن سقف طموحاتى انهار فوق رأسى، ولم أنلْ من الصداقات الجديدة سوى رسائل تثير الريبة فى قلبٍ اعتاد صاحبه العيش فى أمان. أكثر من واحدة بعثتْ رسائل خاصة تسألنى من أنا. يستفزنى السؤال، لا لشيء إلا لأنه يُكسّر «مجاديف» أحلام الشهرة، فمن تسأل لم تُجهد نفسها بإلقاء نظرة على منشوراتى قبل الإضافة، لهذا أرد مستفسرا عن سبب سعيها لصداقتى ما دامتْ لا تعرفنى. غالبا يكون الرد السريع هو حصولى على حظرٍ يليق بسؤالى. آخرون يسارعون بطلب دعمٍ إليكترونى لمنشوراتهم أو صفحاتٍ تخصهم، دون حتى أن يكّلفوا أنفسهم بأن يقدّموا السبت نقرة إعجاب، ليلْقوا يوم الأحد تعليقا منّى على سبيل ردّ المجاملة..

اليوم فوجئتُ بصديقة جديدة، بيننا معارف مشتركون، استندتُ إلى وقارهم وقبلتُ إضافتها، تطلب منى إعانة مادية لأن ظروفها بالغة الصعوبة. استخدمت السيدة عبارات يتداولها متسولون يجوبون وسائل النقل العام، ويستجْدون بها التعاطف، بالإشارة إلى ظروفهم الصعبة، كالمرض أو الضعف أو العجز عن سدّ جوع أسرة بائسة. تحولتْ وسائل التواصل إلى عربات «مترو» تضجّ بمتسوّلين يفتقدون أدنى قُدرةٍ على الابتكار، وباعة جائلين يعرضون أفكارهم «المضروبة». يا أهالى «فيس بوك» الكرام رفقا بى، ولا تتلاعبوا بمشاعر أمثالى من الحالمين بالوصول إلى الشهرة.. فى الوقت بدل الضائع!

هيمنة كلمات السرّ

الثلاثاء:

حياتنا صارت مرهونة بكلمات السر، نمنْع بها تسلّل الآخرين لهواتفنا، بينما حساباتنا مُخترقةٌ غالبا دون أن نعلم. نختار مفاتيح خزائن أسرارنا بإرادتنا، للوقاية من فضح شرور أنفسنا على المحمول، ونلجأ إليها مضطرين لأنها شرط أساسى فى إنشاء الحسابات والبريد الإليكترونى. الغريب أننا نعترف بمعظم خصوصياتنا علنًا بحثا عن إعجابٍ أو تعليق، لكن يبدو أن ما خفىَ بالدهاليز الإليكترونية يكون أعظم، لدرجة أنها تضج من ممارسات نخشى أن تنفضح فتكشف عوْرة أفعالنا..

قبل أسابيع فقد «فيس بوك» صوابه، وهاجمتْه حالة جنون مفاجئة. أصبح مرفوعا من الخدمة فى مناطق عديدة من العالم، وعندما تمالك نفسه عاد ليُطالبنا بكلمات سرٍ نسيناها، لأننا لم نعد نلجأ لها عند الدخول، بعد أن اكتفى كلٌ منا بكلمة السر العظمى، التى تعصم هاتفه من فضول زوجته! شعر الكثيرون بالفقْد بعد أن ضاعت حساباتهم، وتمكّن البعض من استعادتها بعد إجراءاتٍ مُعقّدة، بينما عاش الغالبية شعور وِحدةٍ مؤقتة، إلى أن أنشأوا حسابات جديدة، وغالبا سجّلوا كلمة السرّ الجديدة، فالوقاية خيرٌ من علاجٍ يُفقده النسيان مفعوله.

بصراحة نحن نعيش أجواء تخلق حالة من الكوميديا، غير أنها سوف تنقلب إلى فيلم رعب، لو صحوْنا يوما واكتشفنا أن كلمات السرّ اختفت فجأة. يكفى أن يتخيّل كلٌ منكم موقفه، أمام نظرات زوجته التى ترمى بشررٍ، بعد أن تكشفّت أمامها خصوصياته الدفينة! نصيحتى لكم جميعا: استعينوا على قضاء حاجاتكم بالحذف أولًا بأول!!
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة