أ.د.أحمد بن محمد الضبيب (عضو مؤتمر مجمع اللغة العربية من السعودية)
أ.د.أحمد بن محمد الضبيب (عضو مؤتمر مجمع اللغة العربية من السعودية)


مؤتمر مجمع الخالدين يواصل انعقاد جلساته لليوم الثاني على التوالي

حاتم نعام

الثلاثاء، 23 أبريل 2024 - 09:41 م

واصل مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، برئاسة أ.د. عبدالوهاب عبدالحافظ (رئيس المجمع) انعقاد جلساته

اليوم الثلاثاء 23 من أبريل 2024م تحت عنوان "اللغة العربية وتحديات العصر: تصورات، واقتراحات، وحلول"؛ حيث ناقش السادة أعضاء المؤتمر في جلسته المغلقة المصطلحات المقدمة من لجان: الأحياء وعلوم الزراعة، التربية وعلم النفس، والبيئة. وفي جلسته العلنية ألقى أ.د.أحمد بن محمد الضبيب (عضو مؤتمر مجمع اللغة العربية من السعودية) بحثًا بعنوان "الدفاع عن اللغة العربية في ضوء التحديات المعاصرة: الأسباب والمنطلقات" جاء فيه ما نصه:  
 إن قضية الدفاع عن اللغة العربية ضد مناوئيها قد صاحبت هذه اللغة منذ انطلقت من بيئتها المحلية، حين اختلط العرب بغيرهم في البلدان التي وصلت إليها رسالة الإسلام. وكان الخوف من هجوم اللغات الأجنبية بصوتياتها ومفرداتها وتراكيبها واستعمالاتها الدلالية المستجدة سببا في وصف صوتيات هذه اللغة، وضبط قواعدها، وجمع مفرداتها التي وصفت بالفصحى، وتحديد عصور الاحتجاج وبيئاته الجغرافية والاجتماعية. 
    ويمكن أن تعد هذه الخطوات بمثابة المنشآت الدفاعية الأولى التي أقيمت كي تحمي هذه اللغة من هجوم منتظر، بفعل تجدد الحياة، وتسارعها واختلاط العرب بالأمم الأخرى، فقد تعدت اللغة منذ ذلك الوقت - بمفهومها الجديد - البيئة الضيقة التي تحصرها بجغرافية محددة هي قلب جزيرة العرب، وعرق معين، هو العنصر العربي. وأصبحت تمت - منذ انطلقت خارج حدودها الضيقة - إلى ثقافة جديدة، وهوية مختلفة، بل لم تعد لغة المسلمين الذين قاموا بنشرها وحسب، و إنما أصبحت لغة الثقافة الإسلامية، التي شملت المسلمين وغير المسلمين، من عرب وغيرهم. ولذلك فإن مما يجافي المنطق والصواب القول بأن هذه اللغة لغة العرق العربي وحده وخاصة بعد توسعها في العالم، وانتشارها في أصقاع الأرض، ومخالطتها شعوبا وثقافات أخرى، واستمدادها من هذه الثقافات جميعا، وانصهارها مع ثقافات لم تعهدها من قبل، وإن كانت تنتسب إلى العرب بحكم الطفولة والنشأة. 

اقرأ أيضًا| كلمة (رئيس مجلس اللسان العربي في موريتانيا) بمجمع اللغة العربية في دورته التسعين
    لقد أصبحت العربية بذلك أمَّا لغوية لكل من تظلهم هذه الثقافة العربية الإسلامية، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجغرافية. ومن ذلك الوقت المبكر أطلق لفظ (العرب) على كل ساكني الوطن الذي تسود فيه هذه اللغة، فقد أصبحت عنصرا بارزا من عناصر الهوية لأولئك السكان، ، وانتقلت من التأثير اللغوي إلى التأثير الاجتماعي والسياسي، وأصبح العربي بناء على ذلك كل من نطق بالعربية، أو أقام بتلك المنطقة التي تدعى الآن بالوطن العربي، بصرف النظر عن عرقه، أو لونه، أو انتمائه الديني، أو الاجتماعي. 
 ويؤكد ذلك ما ينسب من أحاديث وروايات إلى النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد أن من نطق العربية فهو عربي ومن ذلك قوله: "أما بعد أيها الناس، فإن الرب رب واحد، والأب أب واحد، وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي لسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي"، وقد عقب الإمام ابن تيمية على هذا الحديث بقوله: "هذا الحديث ضعيف، وكأنه مركب على مالك، لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه"(1). 
 وقد فصل ابن تيمية هذه القضية، وأورد مرويات أخرى، منها ما نسب إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي من قوله: "من ولد في الإسلام فهو عربي". وعقب ابن تيمية على ذلك بقوله: "لأن من ولد في الإسلام فقد ولد في دار العرب واعتاد خطابها، هكذا كان الأمر"(2)، كما روي عن أبي هريرة يرفعه: "من تكلم بالعربية فهو عربي ومن أدرك له اثنان في الإسلام فهو عربي"(3)، فالعروبة اللغوية، كما يراها ابن تيمية، هي عروبة الوطن التي تمثلها "دار العرب" مقابل العروبة العرقية التي كانت تمثلها "جزيرة العرب". وانتهى من بحثه إلى أن من ولد وثقف اللغة العربية في ديار العرب فهو عربي، ومن تنكر للعربية وهجرها فهو أعجمي وإن كان هاشمي الأصل. 
  ونحن هنا لا تهمنا درجة هذه الأحاديث عند المحدثين وكون بعضها ضعيف النسبة إلى سيد الخلق، أو غيره. لأن ما يهمنا هو أن القضية كانت مثارة منذ القرون الأولى للثقافة العربية، وقد بُتّ فيها منذ زمن طويل، وخصوصا بعد أن امتزج العرب بغيرهم من الأمم الأخرى، وقد أخذ هذا الرأي طابع الاعتراف من كثير من العلماء والمفكرين. ويبدو ذلك منطقيا في الواقع المعيش، فنحن نجد كثيرا من الأمم تسبغ هويتها على المشاهير والكتاب، الذين يعيشون في ديارها، وينطقون بلغتها، ويكتبون بها، كما تعطي جنسيتها لكل من ولد على أرضها. فكلمة (عربي) هنا لا تعبر عن نسب أوعر ق بقدر ما تعبر عن هوية وثقافة. 
أسباب الدفاع:
كان اختلاط العرب بغيرهم في البداية السبب الأول للدفاع عن اللغة العربية الصافية، وذلك بتدوين صوتياتها، ونحوها، وصرفها، ورصد مفرداتها، التي تنتمي إلى عصور ما قبل الإسلام، وبقايا ما نطق به فصحاؤها في العصر الإسلامي، ولم يكن الغرض من ذلك الوقوف أمام التطور اللغوي الطبيعي، وسجن اللغة في أقفاص حديدية -كما قد يبدو لبعض الباحثين- وإنما كان القصد الاحتفاظ بمعاني القرآن الكريم، ومعاني تراث العرب القديم، كما عرفت في بيئتها اللغوية القديمة، حتى لا تفسر-بفعل التطور اللغوي عبر العصور- من قبل القارئ، الذي لم يعاصر ذلك الزمن، تفسيرا خاطئا، وحتى تترسم الأجيال القادمة خطى من سبقها في إقامة اللغة، والاقتراب من الفصاحة الأصيلة. 
    كما أن ذلك التدوين اللغوي كان ضروريا لدخول عصر آخر لم تعهده الحياة العربية، وهو عصر النهضة العربية الإسلامية، الذي دونت فيه العلوم، سواء أكانت شرعية أم غيرها. ذلك أن الانتقال باللغة من لغة شفاهية، تعتمد على الذاكرة الإنسانية إلى لغة تدوين، أساسها التقييد والكتابة، لم يكن ممكنا مالم تضبط قواعد هذه اللغة العربية على أساس علمي. ولم يمنع ذلك اللغة من التطور، واستحداث البنى، والتراكيب، والمفردات، بل واقتراض بعضها من اللغات الأخرى، وتلك سنة لغوية معروفة بين اللغات جميعا. 
    ومع تطور اللغة والمجتمع في العصر العباسي بدأت موجة ثانية من موجات الدفاع عن اللغة العربية، مبعثها ظهور تيار يعادي العرب والثقافة العربية، نجم عن تعصب بعض العرب ضد بعض أبناء الشعوب التي شملتهم الفتوحات، وتمكُن بعض الفئات ذات النزعة العنصرية واستعلائها في العصر العباسي، وقد اتخذ ذلك طابع الانتقام من العنصر العربي، وتهديم مآثره ومرتكزاته الثقافية، وكانت الثقافة العربية -بمكوناتها اللغوية والأدبية وسماتها الاجتماعية- هدفًا لبعض هذه الحملات. 
    ومن خلال استشعار العلماء خطورة هذا التيار على الثقافة العربية هب كثير منهم إلى الدفاع عن العرب، وكذلك عما أصاب اللغة من انتقادات وكان الجاحظ(4)، وابن قتيبة في مقدمة المدافعين(5). 
 والمتتبع لهذا التيار يرى أنه قد مر بنمطين من الهجوم: 
الأول: هو ذلك الذي هاجم فيه المنتقدون للعرب الملامح الثقافية الخاصة بالجزيرة العربية، وما كان فيها من مظاهر الحياة، وفضل العرب بوصفهم عرقا، ودعوى امتيازهم عن الأعراق الأخرى، وانتقاد ما يفتخر به العرب من بعض المآثر والممارسات، وذكر مثالبهم، وما تطرق إليه شعراؤهم من أفكار. وهي المرحلة التي تصدى فيها الجاحظ وابن قتيبة وأمثالهم للدفاع عن العرب مستعرضين ذلك ومبينين رأيهم فيه. 
أما النمط الثاني فربما تأخر ظهوره نسبيا إلى أوائل القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وبعده. وهو اتجاه ناقش فيه النخبة من الشعوبيين العلوم التي تميز بها العرب، ومن تلك العلوم علم اللغة سواء من حيث متنها، ومميزاتها، أو من حيث الموازنة بينها وبين اللغات الأخرى. وقد أسماها جولد زيهر بالشعوبية اللغوية(6). 
ولعل ابن دريد (ت 321هـ/933مـ) هو أول من وصلنا رد له على الشعوبيين اللغويين، بتأليف كتاب (الاشتقاق) الذي قدم له قائلا: "وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب أن قوما ممن يطعن على اللسان العربي وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم، وعدوا أسماء جهلوا اشتقاقها، ولم ينفذ علمهم في الفحص عنها، فعارضوا بالإنكار"(7). 
   كما أن ابن فارس (ت 395هـ/1004م) وابن الأنباري من اللغويين الذين تصدوا لهجوم المنتقدين أثناء حركة الشعوبية اللغوية. 
وقد لخص الزمخشري (ت 538 هـ/1143م) وهو من أصل فارسي، في مقدمة كتابه (المفصل) موقف الشعوبيين من اللغة العربية قائلا: "الله أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز "ثم يقول:" والذي يُقضى منه العجب حالة هؤلاء في قلة إنصافهم، وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية، فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يُدفع ومكشوف لا يَتقنع" ويقول "ثم إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فضلها، ويدفعون خصلها، ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها، وينهون عن تعلمها وتعليمها، ويمزقون أديمها، ويمضغون لحمها، فهم في ذلك على المثل السائر:(الشعير يؤكل ويذم)"(8). 
    واستمرت هذه النزعة في عداء العربية عبر القرون فنحن نرى العالم الحنبلي نجم الدين الطوفي (ت716هـ/1316م) يؤلف كتابه "الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية" للرد على الشعوبية، وتبيين فضل العربية قائلا: "وإني آنست في عصرنا ذي الأعاصر، وزمننا ذي المغربات والنوادر قوما يدعون الفضل دعوى مجردة، ويجمعون العلم في دفاتر مجلدة، ينتحلون حلية الفضل، وكل منها عاطل، ويسهرون بالبطولة فيها بالمخرقة والباطل، ينكرون فضل العربية، وتأخذهم عليها عصبية الشعوبية، حتى لقد اتخذوه سخريا، وعدوه ظمأ لا ريا، وحكموا بأن الخلو منه أحسن أثاثا ورئيا. فضَلالًا لهذه الأحلام ما أسخفها، وخطأً لهذه الأحكام ما أعداها عن الحق وأحنفها"(9). 
    وعلى الرغم من أن الشعوبية اللغوية لم تحقق الانتصار بسبب تصدي العلماء لها، وزيف ادعاءاتها، وعدم قدرتها على زعزعة المكانة التي تحتلها العربية في نفوس الناطقين بها، واندثار كتبها ومعظم مقالاتها، إلا أن جذوتها استمرت تطل علينا حتى العصر الحديث. 
    وقد تلبّس العداء للغة العربية في هذا العصر بمؤثرات أخرى استجدت على الساحة، دينية وأيديولوجية، واستعمارية. منها ظهور أحزاب انفصالية قطرية، ونعرات عرقية واجتماعية ضيقة، غذتها عوامل خارجية من جهات لا تضمر للعرب، لغة وثقافة ووجودا، إلا الكره والعداء. ولعل من أهمها دخول المبشرين إلى العالم العربي، ومحاولتهم فصم العلاقة بين العربي ولغة القرآن الكريم، ومنها الاستعمار الغربي الذي خَلَف الحروب الصليبية، وحاول إيقاظ النعرات وايجاد الحزازات لتفريق الأمة، والانقضاض على خيراتها، وربط عجلتها به، ومنها دخول المنطقة عصر العولمة بما جره معه من تغلب اللغات الأجنبية، واستعمالها أداة لإزاحة العوائق أمام سيطرة القوى العظمى واقتصاداتها الكبرى. 
 وفي ضوء هذه المعطيات الجديدة انبرى المدافعون عن اللغة العربية يذودون عن حياضها ويردون بالعلم والمنطق تلك الهجمات الظالمة على هذه اللغة. 
تركز الهجوم في هذا العصر على اللغة العربية في محاور عديدة منها:
1-توجيه النقد إلى متن اللغة، من حيث نحوها وصرفها وبناء الجملة فيها و إلى الجهود اللغوية التي بذلها علماؤنا الأقدمون في جمع اللغة وتقعيدها. وامتد ذلك إلى نقد الأدب العربي، وكونه خاليا من مقومات الأدب الصحيح. وكذلك الهجوم على عمود الشعر العربي، والدعوة إلى اطراح العروض العربي. 
2- نقد الحرف العربي والدعوة إلى التخلص منه، واستبدال الحرف اللاتيني به. 
3- محور حضاري يزعم أن اللغة العربية لغة الأعراب في الصحراء ولغتهم لذلك لا تتناسب والعصر الحديث وما تتطلبه الحياة من ممارسات جديدة. 
4-الدعوة إلى استبدال العامية بالفصحى في الكتابة الأدبية والتعليم. 
5-الدعوة إلى تعجيم التعليم ومحاربة التعريب. 
منطلقات الدفاع:
    كانت منطلقات الدفاع عن العربية في تراثنا تعتمد على أساس ديني عقدي عروبي الطابع، يربط شرف العربية وكمالها والدفاع عنها بالدفاع عن الدين الإسلامي والقرآن الكريم، الذي تمثل العربية لغته المعجزة. كانت العاطفة الدينية الصادقة تحرك ذلك الدفاع، وهذا ما يفسر كون كثير من المدافعين عن العرب أو عن العربية لم يكونوا ينتمون عرقيا إلى الجنس العربي. لكونهم يشعرون بأنهم يدافعون عن لغتهم الأم، بمفهوم عروبة الثقافة العربية الإسلامية، فهم بذلك يدافعون عن لغة القرآن، ولغة النبي العربي. لكن هذا المنطلق الديني لم يكن عاطفيا وحسب وإنما كان يعتمد على نصوص من القرآن والسنة النبوية، وعلم عميق باللغة، ومعرفة ما يميزها عن غيرها من اللغات. 
 أما في العصر الحاضر، وهو عصر البحوث العلمية، وانهمار المعرفة وتنوعها، وزمن الفرق البحثية، والإنجازات الكبرى، فمن المؤسف القول بأن الدفاع عن اللغة العربية ضد الهجمات التي وجهت إليها لم يأت من خلال خطط استراتيجية رسمية، تعتمد على أعمال ميدانية يقوم بها فرق عمل متخصصة، تقدم دراسات علمية متأنية، مفصلة، تسبر أغوار اللغة من جمع الجوانب في جميع الأحوال، دراسات تقوم على مناهج استكشافية وإحصائية واستقرائية وتحليلية، تشمل علاقة اللغة بالديموغرافيا والاقتصاد والتعليم، والاجتماع، والعلاقة مع اللهجات واللغات الأخرى لمواطني كل بلد، وتستند إلى مدونة لغوية ضخمة معاصرة، وتقدم تقارير علمية توثق حالة هذه اللغة في كل قطر من أقطار العروبة، من حيث تقدم اللغة أو تقهقرها في المجتمع وفي الكتابة، ومن حيث موقف أهلها منها، وتدل على مواطن الضعف والقوة. ومقومات النهوض والتقدم. وتقترح الحلول لكثير من المشكلات. 
 . حتى المجامع اللغوية التي أنشئت أساسا للحفاظ على اللغة العربية وترقيتها والتي تعد ذات واجهة رسمية في كل بلد أنشئت فيه، لم تقم بدراسة الأفكار التي تهاجم العربية وتغض من شأنها بشكل منهجي، ولم تصدر توضيحا متكاملا حول وضع اللغة العربية. ولست أدري ما المانع مثلا من أن يقوم مجمع لغوي عربي أو أكثر بإصدار تقرير شامل كل خمس سنوات يشخص حال اللغة العربية في المنطقة التي يعمل فيها المجمع، ويبين مدى التقدم أو التخلف، الذي طرأ على اللغة، من خلال المستجدات التي طرأت عليها، وعلى موقف مستعمليها منها، ويرد على الاتهامات التي تواجه اللغة العربية، ويعمل على تلافي القصور الذي يعتري اللغة في هذا العصر، ويبين للناس، بشكل علمي لا عاطفي، خطورة تلك الدعوات الجائرة التي تهاجم اللغة العربية من جوانب مختلفة. 
    صحيح أن بعض هذه المجامع قد عقد المؤتمرات والندوات حول بعض قضايا اللغة العربية الراهنة، ومنها هذا الاجتماع الذي نلتقي فيه اليوم، كما أصدر بعضها بحوثا في كتب مفردة أو مجلات دورية، لكن هذه البحوث لا تعبر عن المجمع اللغوي، بوصفه مؤسسة رسمية مهمتها حماية اللغة، بقدر ما تعبر عن فكر الباحثين الذين كتبوها. ولذلك فهي أعمال في حقيقتها أحادية الطابع، أسهم بها بعض الأفراد، ولا تعبر عن موقف رسمي، يمكن أن تبنى عليه سياسة لغوية رسمية. 
    هذا إلى جانب أن هذه البحوث لا تعتمد على عمل ميداني، يقوم به فريق عمل متخصص، يقدم دراسة علمية بالشكل الذي وصفناه آنفا. 
لقد كان المؤمل أن ينشط البحث العلمي المؤسسي الراصد لأوضاع اللغة العربية في البلدان العربية جميعا، بعد أن وصلت قضية اللغة العربية إلى جداول أعمال القمة العربية في الرياض سنة 2007، التي صدر عنها إعلان الرياض. ذلك الإعلان الذي جعل قضية اللغة العربية من القضايا المهمة التي تخص العمل العربي المشترك، وفي قمة دمشق سنة 2008 التي صادقت على مشروع النهوض باللغة العربية، وقمة الدوحة سنة 2009 التي صودق فيها على آليات تنفيذ المشروع، بعنوان "مشروع اللغة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة". وهو عنوان يختزل مشكلات اللغة العربية الفادحة في موضوع واحد هو "التوجه إلى مجتمع المعرفة" ويُغفل الموضوع الأهم الذي لا تقوم اللغة العربية إلا بوجوده، ولا يمكن أن ينجح أي مشروع بدونه، وهو إعادة الاعتبار للغة العربية في مفاصل الحياة، وتوثيق الصلة بين العربي في هذا العصر ولغته، وتمكين اللغة، وتنمية الاعتزاز بها، ثم التوجه من ذلك الوضع بخطى راسخة إلى مجتمع المعرفة. وبذلك يكون مشروع "النهوض باللغة العربية للتوجه إلى مجتمع المعرفة" بمثابة وضع للعربة أمام الحصان لن يؤتي أكله المنشود إلا بعد استكمال المتطلبات الضرورية التي تسبقه. 
 لقد أحيل المشروع برمته إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للتنفيذ. وقد قامت المنظمة مشكورة ببعض الأنشطة التي تصب في هذا المشروع، كما يصورها الكتاب الذي أصدرته في هذا الشأن سنة 2012، فعقدت الاجتماعات والندوات، ووصفت في هذا الكتاب بعض المشاريع المتعلقة بالبرمجيات المغلقة والبرمجيات الحرة المفتوحة المصدر، ومنها نظام الاشتقاق والتصريف، والمعجم الحاسوبي التفاعلي، ومشروع نظام التحليل الصرفي، ومشروع مدقق إملائي، ومشروع مشكل إملائي، ومشروع محلل آلي نحوي، ومشروع بناء الشبكات الدلالية للمفردات العربية، ومشروع بناء الشبكة العربية للبرمجيات الحرة والمصادر المفتوحة، ومشروع محركات البحث في المحتوى الرقمي العربي ويتبين من بعض الملحقات الخاصة ببعض هذه المشاريع أن فكرتها والعمل بها قد بدأ قبل ظهور مشروع النهوض باللغة العربية وأنها ضمت إليه مؤخرا.(10)
    كما أصدرت المنظمة وثائق وتقارير تخص المشروع، منها وثيقة المشروع، التي تبين أهدافه ومنطلقاته، وقد حددت فيها بنود المشروع، وإجراءات تنفيذها. كما أصدرت سنة 2010 تقريرا عن "تدني مستوى تعليم اللغة العربية في الوطن العربي، في 78 صفحة بعنوان "أسباب ومسببات تدني مستوى تعليم اللغة العربية في الوطن العربي"(11)، وهو ناتج عن وقائع ندوة أقيمت في هذا الصدد. كما أصدرت المنظمة في العام نفسه كتابا بعنوان "السياسة اللغوية القومية العربية" وهو من أفضل ما أصدرته في هذا المشروع. وكان من الواجب أن يأخذ موضوع السياسة اللغوية الأولوية بين كل المشروعات المتعلقة بالمشروع، إذ عليه تبني جميع الخطوات والإجراءات التي من شأنها النهوض باللغة العربية. وبدونه سوف تظل كل الجهود محدودة الفائدة، ما دامت اللغة العربية تمر بهذه المرحلة من التهميش والاستبعاد وعدم الاهتمام الفعلي. 
ومما يمكن أن يشار إليه فيمما يتعلق بهذا المشروع ظهور لجنتين لتحقيق أهدافه أحدهما لجنة تمكين اللغة العربية في سوريا، والأخرى هي اللجنة الوطنية الأردنية للغة العربية وكلا اللجنتين منبثقتان من المجمعين الدمشقي والأردني. 
    لقد مر على انطلاق مشروع النهوض باللغة العربية ما يقارب الخمس عشرة سنة ومع ذلك فإننا لم نلمس حتى الآن بوادر نهوض باللغة العربية، ولا خطوات جادة في السير نحو هذا النهوض. وهذه مشكلة العمل العربي المشترك الذي يفتقر إلى الجهد المستمر، والمتابعة الجيدة، والتنسيق السليم ثم التنفيذ الذي هو النتيجة النهائية للمشروع. 
   ولو أمعنا النظر في الدراسات التي يقدمها الآخرون حول لغاتهم لوجدنا أننا لم نفعل شيئا حقيقيا يتناسب وإمكاناتنا في العصر الحديث. والمطلع على ما يعده المجلس البريطاني-مثلا- من تقارير ودراسات عن أحوال اللغة الإنجليزية في العالم يعرف إلى أي حد نحن متخلفون في هذا المجال. إن هذا الجهد هو الذي نستطيع من خلاله فيما بعد -بشكل علمي مقنع - أن نكتشف مدى إخفاقنا في تعزيز مكانة هذه اللغة، وهو الذي يجعلنا قادرين على التخطيط لها، بفصيحها وعاميها، وهو الذي يضبط علاقتنا باللغات الأجنبية، ويجعل هذه اللغات الأجنبية عاملا إيجابيا في سبيل نهضتنا، ويحولها إلى رافد معرفي مهم، بدلا من أن تكون معولا يهدم ثقافتنا، ويجرح كرامتنا... ومن خلال هذه الدراسات نستطيع وضع سياسة لغوية ناجعة تفيد مجتمعاتنا العربية. لكن مثل هذا الجهد الرسمي لدراسة حال اللغة العربية وتشخيصها لا يتم إلا بوجود سلطات رسمية تؤمن بأهمية النهوض باللغة العربية، وتضع أمامها هدفا منشودا هو الاهتمام بهذه اللغة، وتمكينها في مفاصل الحياة جميعها في التعليم والاقتصاد والصحة والتعاملات بين المواطنين. وهذا يعني وجود تخطيط لغوي وسياسة لغوية تحقق ذلك الهدف وهذا ما لم نجده متحققا في معظم الدول العربية. 
    في غياب الجهد اللغوي العلمي المخلص، المقترن بالتنفيذ من قبل مؤسساتنا الرسمية، أصبح الدفاع عن اللغة العربية في وجه أعدائها- في العصر الحاضر- من عمل أفراد، منهم لغويون بذلوا ما أمكن من وسعهم في نقاش أطروحات الخصوم، من خلال بحوث جادة حول وضع اللغة العربية، درسوا فيها كثيرا من الجوانب المتصلة بطبيعتها، وما يوجه إليها من نقد، وصححوا كثيرا من الأخطاء التي ارتكبها المهاجمون للغة، لكن هذه الدراسات، على أهميتها وما فيها من عمق -في بعض الجوانب-لا تغني عن الجهد الرسمي المنظم، و تظل أعمالا فردية، ينقصها في كثير من الأحيان الاستقصاء، و الوثائق الرسمية، والدلائل الإحصائية، التي لا تصل إليها أيدي هؤلاء الدارسين، فتظل أحكامهم مبنية على المصادر الشحيحة، والمشاهدات الشخصية، والعموميات، ، إلى جانب كونها بعيدة عن القرار الرسمي الذي يكسب نتائجها شرعية التنفيذ. ومن هؤلاء المدافعين مثقفون محبون للغة العربية، اجتهدوا في الدفاع عن اللغة من خلال المعلومات الثقافية العامة، والمشاهدة الحاضرة. وقد شمل الدفاع عن العربية بعدين رئيسيين: هما بعد المتن اللغوي corpus، وبعد المكانة اللغوية status. 
بُعد المتن اللغوي: corpus
سنتعرض في هذا البعد إلى قضيتين كثر فيهما النقاش في هذا العصر هما: قضية الإعراب، وإمكان التخلص منه، وقضية الحرف العربي وإمكان استبداله بالحرف اللاتيني. 
قضية الإعراب:
تعد قضية الإعراب في اللغة العربية من أهم الموضوعات التي تناولها النقاش بين الباحثين والكتاب في العصر الحديث منذ وقت مبكر، وانقسم القوم فيها بين محافظ ومجدد ومنكر. أما المحافظون فيرون الاحتفاظ بالإعراب كما ورد عن النحاة الأقدمين، وعدم التفريط بدقائقه، أو التسمح بالاستغناء عنه، وهو تيار يكاد يكون سائدا بين كثير ممن يتخذون النحو حرفة أو تخصصا. وهم لا ينفكون يريدون إلزام العامة به كما جاء عن القدماء دون نقصان. 
    أما المجددون فمنهم معتدلون رأوا التخفيف من بعض أبواب النحو، حسب مستويات المستفيدين، وعدم الأخذ منه إلا بالضروري، وتعديل بعض أحكامه استمدادا من تراث اللهجات العربية القديمة، وتراث القراءات القرآنية، واعتمد بعضهم على آراء بعض النحويين القدماء كابن مضاء القرطبي وابن رشد وحاول بعض المؤلفين تيسير بعض القواعد، وتغيير سبل التناول للقضايا النحوية. وكل ذلك يجري دون تفريط بالأسس العامة، أو إخلال بالقواعد النحوية. 
    وصدرت عن هذا التيار بعض الكتب ولعل من أهمها كتاب "إحياء النحو" للأستاذ إبراهيم مصطفى، وكتابا الدكتور شوقي ضيف "تيسير النحو" و"تجديد النحو". 
     أما المتطرفون من دعاة التجديد فمنهم من حاول أن يقترب في معالجاته مما هو سائد بين العامة في دوارجها المختلفة، فهو يريد الاستفادة من العامية، ويلفق بينها وبين الفصحى، ومنهم دعاة تسكين أواخر الكلمات، ولعل على رأس هؤلاء الدكتور محمد كامل حسين الذي اقترح العمل على إيجاد لغتين إلى جانب اللغة الفصحى العالية هما "اللغة الفصحى المخففة"، و"العامية المنقحة"، وعرض لذلك في كتابه" اللغة العربية المعاصرة"(12). وقد حاول الأديب توفيق الحكيم توظيف ذلك في مسرحية (الصفقة). ومن الذين دعوا إلى الإفادة من العامية أيضا الكاتب الروائي الأستاذ محمد فريد أبو حديد. 
أما المنكرون للإعراب، والمهاجمون له والمطالبون بالتخلص منه فهم على نوعين:
1- صحفيون وكتاب ليس لهم علاقة وطيدة بعلم اللغة أو النحو، فهم يتكلمون من واقع المعايشة اليومية في الكتابة والتحرير، ومن واقع المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى، التي انفصلت فيها لهجاتها عن لغاتها القديمة، (دون علم في الغالب بمشكلات هذه اللغات)، كما أنهم لا يدركون مشكلات الانفلات من الإعراب، و أثر ذلك على المعنى، وبخاصة في النصوص المكتوبة. وهؤلاء لا يعنيهم ماضي الفصحى ولا مستقبلها، و إنما همهم إيجاد لغة تتحلل من قواعد الماضي، لتسهل الكتابة بها دون حسيب أو رقيب، بل يفضلون أن تنزلق فيما بعد في أحضان العامية، ومن أعلام هذا الصنف في الشرق العربي: قاسم أمين(13) وسلامة موسى(14)، ولويس عوض(15)، ويوسف السباعي(16)، وشريف الشوباشي(17) وغيرهم. 
2-النوع الثاني لغويون حاولوا أن يلبسوا الهجوم على الفصحى لباسا من البحث العلمي، وخير من يمثلهم هو الباحث اللبناني د. أنيس فريحة، لقد أقر فريحة بميزات العربية الفصحى التي تمثلت عنده في الثراء المعجمي، والقدرة على التصعيد (التحول من الحسي إلى المعنوي)، والتوليد، والاشتقاق، والتعريب، والقياس، لكن، ذلك كله لم يشفع لها عنده, بأن تكون لغة راقية، تلبي احتياجات الكاتبين بها في هذا العصر. فهي في نظره لا تماشي العصر، وتسير سيرا بطيئا، وما زالت هي لغة امرئ القيس، وجرير، وناصيف اليازجي. ولذلك فهو يراها مكبلة، وقد حدث هذا التكبيل بسبب الازدواج اللغوي الذي يعيشه الإنسان العربي بين لغة أدبية وأخرى عامية. "فنحن نعبر عن أحاسيسنا ودواخلنا بلغة وقفت في مجراها عند نقطة معينة في الزمان والمكان عندما أحيطت بهالة التقديس، وعندما سُيج حولها بسياج من الأحكام"(18). وبعد أن يقارن بين العرب وغيرهم من الإغريق والرومان والهنود، الذين مروا بالازدواج اللغوي، يرى أن الغلبة عندهم كانت للغة الحياة وهي اللهجة المحكية، التي رفعت عندهم إلى اللغة الرسمية(19). 
    ينتقد فريحة اللغة الفصحى بكثرة قواعدها، التي دعاها سياجا بني حولها ويرى أن طبيعة اللغة أن تكون حرة "تسير سيرها غير عابئة بالأحكام والشاهد على صحة هذا لغتنا العامية"(20). 
  ففريحة يتهم العربية بأنها توقفت عند امرئ القيس وجرير وناصيف اليازجي، ويصفها بعدم التطور، لكنه في الواقع يكتب بلغة عربية متطورة مغايرة بالتأكيد للغة هؤلاء القدماء، وهي لغة الكتابة في العصر الحديث. وهذه الملحوظة سبق أن أشار إليها الكاتب المصري محمود تيمور فذكر المفارقة وهي أن المنتقدين للفصحى يكتبون بها، والمنتقدين للعامية لا ينفكون يتحدثون بها(21). والدكتور فريحة يطالب بحذف قواعد الفصحى، والقواعد في الواقع لم تخترع اختراعا، وإنما هي بنى ثابتة في اللغة، بل هي مجرد وصف وتعليل للاستعمالات اللغوية المختلفة سواء في الصوتيات أو الصرف أو التركيب، وقد استقريت من مدونة اللغة، و هي موجودة حتى في اللغة العامية، وقد اعترف هو بذلك عندما قال بأن العامية لغة لها نظامها الصوتي والصرفي والمعجمي(22)، و لو أخطأ المتحدث بها فإنه بالضرورة سينتقد من المجتمع الذي تنطق في حدوده هذه اللهجة، ولو افترضنا جدلا أنها رسّمت واستعملت في الكتابة فلابد من مراعاة تلك الأنظمة، ولا حرية للكاتب أن يخالفها بأي حال من الأحوال. 
   أما ما قيل عن توقف الفصحى عند نقطة معينة فليس صحيحا، ويثبت ذلك التجربة، ودراسة واقع اللغة العربية، فلغتنا المعاصرة ليست هي لغة امرئ القيس، وليست لغة الفرزدق، وليست أيضا لغة العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هي لغة فصحى متطورة، ألفاظا وتراكيب، استفادت من معطيات عصرها، وقد صقلتها الصحافة ووسائل الإعلام المتعددة، واستفادت من آلياتها الكامنة فيها، من التوليد والاشتقاق، والنحت، والاقتراض وغير ذلك، فمن الإجحاف وصفها بالتخلف واتهامها بالوقوف عند نقطة معينة. 

نقد الحرف العربي:
من أساليب الهجوم على اللغة العربية نقد الحرف العربي والدعوة إلى أن يستبدل به حرف أجنبي. 
وقضية نقد الحرف العربي ليست جديدة، بل هي موروثة منذ القدم، فقد سبق لحمزة الأصفهاني (ت 365هـ/ 975م أن انتقد الحرف العربي، وأبان أن سبب حدوث التصحيف في الكتابة العربية إنما كان لتشابه بعض الحروف فقال: "و أما سبب وقوع التصحيف في كتابة العرب فهو أن الذي أبدع صور حروفها لم يضعها على حكمة، ولا احتاط لمن يجيئ بعده، وذلك أنه وضع لخمسة أحرف صورة واحدة وهي الباء والتاء والثاء والياء والنون، وكان وجه الحكمة فيه أن يضع لكل حرف صورة مباينة للأخرى حتى يؤمن عليه التبديل"(23). 
    وبعيدا عن التصحيف، فقد انتقد الحرف العربي بتكونه من صوامت وأن الحركات فيه منفصلة عن الحروف، وأن الضبط بالشكل، الذي وضع لتفادي الخطأ في الكتابة والقراءة، ليس كافيا بل مظنة للخطأ، وخاصة في ظروف الطباعة القديمة. 
وهذه كلها اعتراضات مقبولة، فإن وصف الحرف العربي بالقصور لم يثر المدافعين عن العربية، ولذلك جرت محاولات كثيرة لتيسير الكتابة بالحرف العربي وإدخال الشكل على الكلمات، وكان ذلك يجري مجرى التطوير والتحديث. 
والنقاش في وضعية الحرف العربي ومحاولة تيسير استعماله مع إدخال الحركات فيه أمر لا يستنكره أحد، فهو داخل في التفكير بتطوير هذا الحرف وهو أمر مطلوب. 
    أما الذي أثار الغيورين على اللغة العربية فهو تجدد الدعوة إلى استبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي، وقد كان المستشرق الألماني ولهلم سبيتا أول من دعا إلى كتابة اللهجة العامية المصرية بالحرف اللاتيني، وذلك في كتابه "قواعد اللغة العامية في مصر" الذي أصدره سنة 1881م، وكان سبيتا يعمل مديرا لدار الكتب المصرية(24)، وما لبثت الدعوة أن تجددت بعد أن غيرت تركيا حرفها العربي إلى حرف لاتيني، فظن الذين ذهبوا هذا المذهب أنهم ييسرون على العرب أمر لغتهم، ويجعلونهم في مصاف الأمم المتمدنة. وأهم من يشار إليه في هذا المجال هو الدكتور عبد العزيز فهمي عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي قدم بحثا ضافيا في الدورة العاشرة للمجمع سنة 1944م يقترح فيه استبدال الحروف الأجنبية باللغة العربية, وهو اقتراح لم يجد القبول من أعضاء المجمع، ومن كثير من الدارسين، على الرغم من اجتهاد مقترحه في تزيينه، والإغراق في ذكر فوائده، والرد على من عارضه. 
    ولم يتحمس لاقتراح الدكتور عبد العزيز فهمي إلا أولئك الذين يكرهون الثقافة العربية، والتراث العربي ويناهضون انتماء مصر العربي، ويرون أن مصر ليست إلا بلدا منتميا لثقافة البحر الأبيض المتوسط ولا صلة لها بالعربية أو العرب، وهم يفضلون التشبه بالغرب والالتحاق بثقافته كسلامة موسى، الذي لا يخطئ موقفه كل من قرأ كتاباته في هذا الموضوع ونحوه، وعلى الخصوص ما ورد في كتابه "البلاغة العصرية واللغة العربية". ويضاف إلى سلامة موسى تلاميذه من أمثال لويس عوض، وسعيد عقل اللبناني. 
    أولئك قوم يستثقلون العربية، وتقف بينهم وبينها حواجز نفسية، وإن اقتصر تعليمها على قواعد لا تكلف جهدا ولا تستغرق وقتا، لو أحسن تعليمها للنشء منذ الصغر. إن الذين ينتقدون العربية في رسمها وفي حروفها و إعرابها ما يفتأون يشيدون باللغات الأخرى التي كتبت بالحرف اللاتيني، وتخلصت في زعمهم من نقائص الكتابة العربية، وهؤلاء في الغالب كتاب سطحيون، لا يدركون من أسرار اللغات الأجنبية شيئا، ولا يعرفون أن أبناء هذه اللغات يعانون أيضا من مشكلات في الرسم، والنطق، والتصريف، والقواعد أكثر مما تعانيه العربية، لكنهم يقابلون ذلك بالتطوير الهادئ ما أمكن من جهة، وبالتعايش مع هذه المشكلات من جهة أخرى. 
   . يقول تراسك في كتابه "لماذا تتغير اللغات": "لا تعتبر الحروف الرومانية التي تستخدمها اللغة الإنجليزية ذات فعالية كبيرة في تمثيل أصوات اللغة الإنجليزية، كما سنرى، فضلا عن الأصوات الأخرى المحتملة في كل لغات العالم" (25)، ويستعرض تراسك مشكلات الرسم والنطق في اللغة الإنجليزية وكثرة الشذوذ فيها وعدم المنطقية في فصل ممتع بعنوان" لماذا يعد الرسم الإملائي الإنجليزي غريبا إلى هذا الحد؟ يقول في مفتتحه: "تحتوي اللغة الإنجليزية على أغرب أنظمة الهجاء في العالم وأعقدها، و أكثرها إثارة للحَنَق، ففي حين ترى أن اللغات الأخرى كالأسبانية والإيطالية والفنلندية تحتوي على أنظمة هجاء مستقرة، مع وجود بعض الاستثناءات هنا وهناك إلا أن نظام الهجاء الإنجليزي يكتظ بالاستثناءات، حتى أنك تجد من الصعب التوصل إلى قواعد منظمة" (26). ويقول في موضع آخر: "يعاني نظام الهجاء الإنجليزي من حالة من الارتباك حتى إنك تجد أن تحصيل كافة الرسوم الإملائية التي يمكن أن يتهجى بها صوت واحد من قبيل الألغاز "(27). 
    فهذا يثبت أن مشكلة الحرف موجودة في لغات أخرى، وأن تبني الحرف الأجنبي سيأتي معه بمشكلاته المختلفة. 
    وقد تبين فيما بعد حكمة التروي في عدم إقرار الحرف اللاتيني بديلا عن الحرف العربي الأصيل، إذ ما لبثت معظم هذه المشكلات أن حُلّت، بعد ما يقارب مئة عام من إثارة الدعوة، وذلك من خلال تغير الوضع في المطابع الحديثة، ومن خلال الفتوح العلمية التي جاءت بها البحوث الحاسوبية الحديثة، التي يسرت أمر التشكيل والتدقيق اللغوي والإملائي، فلم يعد الكاتب العربي يعاني من تلك المشكلات إلا القليل، وإذا استمرت هذه البحوث الموفقة في خدمة اللغة العربية فلن يصادف العربية مشكلات من هذا النوع في المستقبل. 
2-بُعد المكانة status
إن أهم مسببات الدفاع عن اللغة العربية في عصرنا الراهن هو محاولة إقصائها وتهميشها بدعاو ثلاث ما زالت تروج في المجتمعات العربية وهي:
1- الدعوة إلى إحلال العامية في كل بلد عربي محل الفصيحة. 
2- الدعوة إلى إحياء النعرات الإثنية بين سكان الفضاء العربي، لتطوير اللغات المحلية، وجعلها تنافس اللغة الأم الجامعة، وذلك من أجل تفتيت الوحدة القومية للأمة العربية، وتمكين اللغات الأجنبية كي تكون لغة جامعة لهم، بدلا عن العربية الفصيحة الموحدة بينهم منذ القديم، والحامية لتراثهم الممتد عبر العصور. 
3-0 الدعوة إلى إحلال اللغات الأجنبية مكان العربية في مفاصل الحياة المختلفة، بدعوى مسايرة التطور العالمي، وذلك بفعل سيطرة العولمة والاستعمار الثقافي الجديد. 

العامية
استغل أعداء العربية وجود الازدواج اللغوي في المجتمعات العربية –ككل المجتمعات الأخرى- كي ينفروا الناس من العربية الفصيحة، متخذين منه مطعنا على العربية مدعين أنها لغة كلاسيكية، تشبه اللاتينية والسنسكريتية، لا يتحدث بها العرب في حياتهم اليومية، بينما هم يجبرون على تعلمها بالمدارس، مع أنها لا تمت إلى العصر بصلة، وكأنما يترجمون عنها وإليها، ووصفت بأنها لغة راكدة وصعبة، وخشبية، وليست متطورة ومرنة كاللهجة العامية. وقد بدأ هذا الادعاء منذ القرن التاسع عشر حين قَدِم في ركاب المبشرين والمستعمرين، من أوروبيين وأمريكيين، وانجليز، إلى شرق العالم العربي ومغربه، ومازال الجدل حوله قائما حتى الآن, وقد بدأ المستشرقون بتدوين النصوص العامية وتدريس قواعدها هم ومن تبعهم من العرب منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولعل أقدم من اعتنى بذلك المستشرق أ. هربان Herbin A. (المتوفى سنة 1806) الذي ألف كتابًا دعاه "أصول اللغة العربية العامية"، طبع في فرنسا.(28)، ثم كانت مؤلفات أخرى ألفها أجانب وعرب، من أهمها كتاب سلدن ولمور "العربية المحكية في مصر" الصادر سنة 1905م. 
    وقد كانت محاضرة ويليام ويلكوكس بعنوان "لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن" التي كتبها بالعربية، وألقاها سنة 1898م، من أهم الدعوات الصريحة المحرضة على نبذ العربية الفصيحة، وتبني العامية حتى يدخل المصريون عصر الاختراع، كما أنها من العلامات البارزة الأولى في سياق الدعوة إلى نبذ العربية، والاتجاه نحو العامية، ولعلها المحرض الأول لكثير من العرب، الذين كتبوا في هذا الموضوع، وما زالوا يرفعون عقيرتهم بهذا الادعاء بين حين وآخر، كما يحاولون ترسيم الدارجة في بعض البلدان العربية. وخير من يمثل هؤلاء في العصر الحديث هو الدكتور أنيس فريحة الذي أدار معظم كتابه" نحو عربية ميسرة" على هذا الموضوع. 
    والمدافعون عن العربية الفصيحة يرون أن وجود العامية أمر طبيعي في كثير من المجتمعات، لكنها لا يمكن أن تقوم مقام الفصيحة في كثير من الأحوال، وبخاصة في التعبير عن القضايا الكبرى من سياسية واجتماعية، وفلسفية، وعلمية، وفكرية. ذلك لأن اللغة الفصيحة أكثر ثراء لغويا، سواء من حيث المفردات أو التراكيب، أو الأساليب، وأعمق تجربة من الدارجة في التعامل مع العلوم والفنون، ولها تاريخ في ضبط المصطلحات والتعبير عن الفكر والفن والثقافة والعلوم عبر العصور. 
  واتخاذ لغة قياسية لدى الأمم ليس أمرًا بدعًا بينها، فكل اللغات تتخذ لغة تختلف عن لغة الشارع في أمورها الرسمية والفكرية. لغة منضبطة من حيث الصوتيات، والتصريف، والتركيب، لها أصولها وقواعدها، وثراؤها اللغوي. أما العامية فإنها تفتقر إلى الضبط والتقعيد، إلى جانب أنها سريعة التغير، فلا تستقر على حال، وهي مختلفة باختلاف من يتحدث بها، كما أنها فقيرة المضمون المعجمي. 
    ويضيف المدافعون عن العربية إلى ذلك أمرا مهما يجعل العربية الفصيحة هي الأجدر في الاستعمال، ذلك أنها الوحيدة التي تربط بين أبناء الأمة العربية في الشرق والغرب، ولو اصطلح كل بلد على عامية واحدة من عامياته المتعددة لأصبحت الأمة العربية جزرا متفرقة، لا يفهم بعضها لهجة بعضها الآخر. وبسبب ذلك تعد العربية الفصيحة نعمة ساقها الله لهذه الأمة، كي توحدها فكريا وثقافيا واقتصاديا، وتقيم بين أبنائها انسجاما لغويا، قلما يعرف بين أمم الشرق والغرب. ولا يشك أحد فيما في ذلك من فوائد على جميع الصعد الاجتماعية والفكرية والاقتصادية وغيرها. 
    يصف الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري هذه العربية الفصيحة بقوله:" اللسان العربي لسان بيني، جامع في المنطقة العربية، ولهذه الصفة فوائد مادية ورمزية لم تقدر بعد من الناحية الاقتصادية ومن النواحي التعليمية والرمزية"(29) 
ومن يتأمل حال اللغات في الاتحاد الأوروبي الذي يعترف بـ 24 لغة، تصعب الترجمة فيما بينها، وما يواجهه الاتحاد من تكاليف باهظة في سبيل الترجمة بين هذه اللغات، والكتابة اليومية بلغات العمل المعدودة، يدرك ميزة اللغة العربية الواحدة المنتشرة في الفضاء العربي، والتي تجري الاستفادة منها في التواصل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين أبناء الوطن العربي. 
   يحرص الأوروبيون على الاتحاد ويعتزون بلغاتهم جميعا، ويجدون الحرج في تعميم لغة واحدة أو أكثر لغة للعمل، وقد كانت الإنجليزية تشارك الفرنسية في التفضيل كونها لغة عمل، لكنهم سيجدون حرجا أكبر بعد أن خرجت بريطانيا من الاتحاد، فقد أعلن بعضهم أن "لا إنجليزية بدون الإنجليز"، غير أن الواقع العولمي والعملي ربما يضطرهم إلى تجاوز ذلك، وتعديل قانون الاتحاد بتمكين اللغة الإنجليزية (وهي-بعد خروج بريطانيا من الاتحاد- لغة أجنبية غير مسجلة رسميا في الاتحاد) لتكون لغة عمل إلى جانب الفرنسية. (30). 
    وأمر آخر مهم أيضا فيما يخص اللغة العربية، وهو أن اللغة الفصيحة رابط مهم بين العرب والمسلمين المعاصرين وتراثهم الديني والفكري والعلمي القديم، فعن طريقها زالت الحواجز بيننا وبين أسلافنا الذين عاشوا منذ أكثر من 1500 عام. فنحن الآن، بفضل الفصحى، نقرأ الشعر الجاهلي والأموي والعباسي ونفهمه، ونتغلب على بعض ألفاظه اليسيرة بالمعجم، لكننا لا نجد حاجزا يصدنا عنه كما يجد الإنجليزي الذي يجد صعوبة كبرى في قراءة أعمال شكسبير وهو لا يبعد عن عصره بأكثر من 400 عام. فهو يحتاج إلى ترجمته، وكأنما يترجم من لغة أجنبية. 
    هذه الميزات الواضحة للغة العربية تضاف إلى كونها لغة النهضة التي نبتغيها لمجتمعاتنا العربية، إذ لا نهضة لمجتمع بغير لغته الجامعة، تجعلنا ندعو بإلحاح إلى أن تعود العربية لغة للحياة في جميع جوانبها المهمة، من تعامل اقتصادي، وتعليم، وبحث علمي، وكتابة أدبية وفنية، فهي الوحيدة القابلة لهذه الحمولة ونقلها إلى الأجبال المستقبلية. 
التعددية اللغوية:
عملت بعض القوى الاستعمارية في الشرق والغرب على تفريق الأمة، بإحياء النعرات العرقية بين أفرادها، وتصوير العربية على أنها لغة غزاة لا يمتون إلى أبناء تلك الإثنيات بصلة. وادعاء هضم حقوق اللغات المحلية الموجودة في هذه المجتمعات. والواقع أن هذا كله محض افتراء، وقد أوضحنا في السابق أن معظم هذه الإثنيات هي إثنيات متعربة ,اتخذت العربية لغة لها منذ عرفتها على مر العصور، ومعظم هذه الإثنيات هي مسلمة كتابها المقدس هو القرآن الكريم، و أن أبناءها يعدون عربا، بفعل الانتماء الثقافي و الجغرافي، فالعربية ليست دخيلة عليهم. والتعددية اللغوية ظاهرة طبيعية في كثير من المجتمعات، ولم تمنع هذه المجتمعات من الاتفاق على لغة رسمية أو وطنية واحدة توحد بينهم، . وقد استغل الاستعمار هذه الظاهرة أبشع استغلال، فأثار حفائظ أصحاب هذه اللغات المحلية، باعتبار ما لهم من حقوق في التعبير والكتابة بلغاتهم، وهو أمر لا ينكره أحد، لكن اللغة السائدة والجامعة بين المواطنين ( وهي اللغة العربية في فضاء الوطن العربي) يجب أن تكون اللغة الرسمية العامة التي يتعلم بها الجميع، ويتحدث بها الجميع، ويكتب بها الجميع. 
   التعدد اللغوي أمر طبيعي في ظل الظروف الطبيعية، التي يكون التنوع فيها ميزة تبرز التناغم والتكامل والتلاقح، وتعزز الوحدة الوطنية، عن طريق سياسة لغوية عادلة، لا عائقا في سبيل التقدم، ووسيلة للتفكك المجتمعي، وسلما ترتقي عليه اللغة الأجنبية لتزيل اللغة السائدة والمحلية في آن معا. 
إن الخطر الكبير يكمن عندما تستعمل دعوى تمكين اللغة المحلية أداة لخلخلة النسيج الاجتماعي، من أجل بث الفرقة بين أبناء المجتمع، وتثبيت لغة أجنبية تستغل الفراغ الذي تتركه اللغة الرسمية، لتحل محلها في جوانب الحياة كلها، وبذلك تتحول قضية اللغة المحلية من الدعوة إلى تمكينها لأداء وظيفتها الطبيعية في مجتمعها إلى قفاز يلبسه دعاة الفرقة من أجل هيمنة اللغة الأجنبية. 
الاستعمار والعولمة:
   من المعروف أن الاستعمار سواء في الشرق أو الغرب العربي قد عمل على إقصاء اللغة العربية عن المشهد في كل مجالات الحياة، واستبدال اللغة الأجنبية بها، ولسنا بسبيل التدليل على ذلك فهو واضح، ليس في الأفكار التي بثها المستعمرون و أتباعهم في الوطن العربي - وقد ثار حولها الجدل في تلك البيئات- و إنما في القرارات الرسمية والممارسات التنفيذية، التي قام بها الاستعمار بشقيه الإنجليزي في مصر-على سبيل المثال- حين حول التعليم من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية لمدة تزيد على عشرين عاما، والاستعمار الفرنسي الذي حول التعليم في دول المغرب العربي إلى الفرنسية، وعد اللغة العربية في الجزائر لغة أجنبية تؤخذ اختياريا، والكتابات حول هذا الموضوع كثيرة ومتعددة، ومن أهمها كتابات الدكتور عبد العلي الودغيري في مؤلفاته المختلفة، وبخاصة كتابه الفريد عن "الفرانكفونية والسياسات اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب" ذلك الكتاب الذي وثق فيه، بالترجمة، كثيرا من االوثائق الفرنسية المتعلقة بفرض اللغة الفرنسية و طرد اللغة العربية من حياة العرب. مع أن الواقع أن السياسة اللغوية الفرنسية لم تكن في صالح نمو التعليم في البلاد المستعمرة، فقد أشار روبرت فليبسون في كتابه الشهير "الهيمنة اللغوية" إلى أنه طبقا "للمصادر الحكومية الفرنسية، عندما وصل الفرنسيون إلى الجزائر كانت نسبة المتعلمين في الجزائر الحضرية 40٪ أعلى جدا مما كانت عليه فرنسا في ذلك الوقت. وعندما ترك الفرنسيون الجزائر بعد 130 سنة من الاستعمار كانت نسبة المتعلمين بين الجزائريين من 10٪ إلى 15٪".(31) 
    وتأتي حقبة العولمة بوصفها مرحلة تستهدف - من خلال الهيمنة السياسية، والاقتصادية والمعلوماتية- تدمير كثير من الثوابت لدى شعوب العالم و القضاء على خصوصياتها، ومن تلك الخصوصيات اللغة. وهي حقبة قامت بها اللغة الإنجليزية بدور السلاح الأمضى في اكتساح الثقافات واللغات، فكانت هي الأداة التي استعملتها أذرعة العولمة المختلفة سياسية كانت أم اقتصادية، وبخاصة تلك الشركات الغربية العملاقة التي فرضتها لتكون لغة العلم والتكنولوجيا، فلم تقدم المنتجات بها وحسب، وإنما أسست مراكزها اللوجستية في البلاد النامية باعتماد اللغة الإنجليزية، للبلاد التي عملت فيها، وطبقت نظمها وطريقتها في الإدارة من خلال الأسلوب الأمريكي، القائم أساسا على استخدام وسيلة تواصل وحيدة هي اللغة الإنجليزية. وربطت بهذه اللغة لقمة العيش للبلدان التي حلت بها، فجعلت إجادة اللغة الإنجليزية شرطا مهما للتوظيف. 
    لقد جاءت التقنية المتسارعة فحملت معها اللغة الإنجليزية وجعلتها الأسرع والأكثر استعمالا لتلبية متطلبات هذه التقنية، وارتبط ذلك ارتباطا سريعا بالاقتصاد على مستوى الأفراد والدول. وقد لقيت أداة العولمة في البلاد العربية التي غزتها استسلاما منقطع النظير، لكونها بلادا مستهلكة، مقفرة من الابتكار والإنتاج، إلى جانب افتقارها إلى الوعي الوطني والثقافي، الذي يقف في وجه هذا الغزو. فلم تجد الإنجليزية أية مقاومة في أي جانب من جوانب الحياة، بل على العكس فتحت لها الأبواب المشرعة بأيدي أهلها العاملين في هذه البلدان، والكثير من الطفيليين الذين يعيشون على الفتات، يجنونه من تمكين هذه اللغة في مفاصل الحياة في بلادهم، دون نظر إلى مصلحة البلاد العامة أو الاهتمام بمستقبلها. ثم تحول الترحيب بهذه اللغة إلى تصويرها بأنها ضرورة حتمية، وأن الإلمام بها والتمكن منها لا يكون إلا بتعليمها منذ الصغر في المدارس، وغَمْر الأطفال بها منذ نعومة أظفارهم، من أجل تعميق مكانتها في وجداناتهم، ونزع احترام لغتهم الأم من نفوسهم، تمهيدا لتنكرهم لها وإعراضهم عنها. ثم بالتعليم بها في المراحل الجامعية. 
   لقد صُور للناس بألا مخرج من التخلف إلا بجعل اللغة الأجنبية لغة التعليم والمنزل، والسوق، والمستشفى وكل نواحي الحياة. . ومعنى ذلك مسخ الناس لغويا، بهجر لغتهم فصيحة وعامية. وتحولت الحاجة المزعومة من مرحلة الفرض، إلى مرحلة الطلب والرجاء من المؤسسات الأجنبية الراعية للإنجليزية بأن تساعد في مهمة تعليمها ونشرها، وإعداد مدربين من أهل البلاد. مهمتهم الانتشار في بلادهم وتدريب المعلمين على الطرق الأفضل لتعلم الإنجليزية وتعليمها. وفي هذا الإطار قامت وزارات التعليم في ثمان دول عربية بوضع الأولوية لسياسة مشتركة من أجل تحسين تعلم وتعليم اللغة الإنجليزية في تلك البلدان، وطلبت من المجلس البريطاني مساعدتها للوصول إلى هذا الهدف. وقد رحب المجلس البريطاني بهذا الاختيار، وفتح ذراعيه له مبديا استعداده لتصميم مشروع ضخم يقوم على تدريب المدربين في هذه البلدان ثم يقوم هؤلاء بتدريب المعلمين.(32). 
    وهذا يذكرنا بما أشار إليه فليبسون في كتابه عن الهيمنة اللغوية من أن سياسة الهيمنة اللغوية عند الدول الكبرى تمر بمراحل ثلاث هي مرحلة العصا= الفرض، ومرحلة الجزرة=الإقناع بفوائد المنتج، ومرحلة الطلب التي يقوم الضحية فيها باستدعاء المنتج، بعد أن استقرت في وجدانه فوائده، وهو هنا اللغة الإنجليزية، و يقتبس فليبسون من كلام رئيس المجلس البريطاني قوله: "عندما لا يكون لدى البريطانيين القوة التي كانت لديهم من قبل، فإننا [لا] نكون مجبرين على فرض إرادتنا (أي بالعصا)، ويجب على الدبلوماسية الثقافية أن تتدبر جعل الناس يرون منافع اللغة الإنجليزية(الجزرة)، وتخلف لغاتهم الخاصة، ومن ثم نتيجة لذلك، يريدون بأنفسهم اللغة الإنجليزية من أجل منفعتهم هم (الأفكار) وهذا يعني أن التأثير البريطاني، أو القوة البريطانية لم تتراجع، لأن بريطانيا لديها هذه "الثروة" غير المرئية الممنوحة من الله، وهكذا يدوم تأثير بريطانيا خارج كل نسبة لصالح مصادرها الاقتصادية و العسكرية"(33). 
إن ما تمر به البلدان العربية بفعل العولمة قد مرت به كثير من أمم الأرض التي تكافح ضد التأثيرات الدخيلة عليها، وذلك للحفاظ على ثوابتها الثقافية. ولا علاج لمؤثرات العولمة، وغزوها اللغوي إلا أن نفعل كما يفعل الآخرون، وذلك بتبني سياسات وطنية لغوية واضحة تهدف إلى المصلحة العليا لمنطقتنا وتكون الأساس في التخطيط والتشريع والتنفيذ. 
أيها السيدات والسادة:
    إن عنوان مؤتمرنا اليوم هو " اللغة العربية وتحديات العصر" وقد حاولت أن أستعرض بإيجاز بعض التحديات التي واجهتها لغتنا العربية وأسباب الدفاع عنها اليوم ومنطلقات هذا الدفاع، ومنه يتضح أن ا الدفاع الذي يطالب بتفعيل اللغة في بيئاتها العربية لم يجد صدى كافيا لدى أصحاب القرار. ومن ذلك يتبين أيضا أن مشكل اللغة العربية ليس مشكلا لغويا ولا اجتماعيا ولا لوجستيا، إنما هو مشكل سياسي بالدرجة الأولى. فما لم يستجب صاحب القرار بحس وطني، يغلب المصلحة العامة المتعلقة بمستقبل البلدان العربية، فإن إهمال اللغة، وتهميشها سيؤدي بها غدا-حتما- إلى الانعزال ثم إلى الموت، ونحن هنا نفرق بين الموت والانقراض، فمن اللغات ما قد يموت لكنه لا ينقرض، ذلك أنه محفوظ بالكتابة، سواء في نصوص مقدسة، أو آثار أدبية أو نقوش على الجبال وجدران المعابد. هو كامن في الآثار التي تكنه، وقد يعود إلى الحياة، إذا وجد من يعيده إليها- كما رأينا في تجربة اللغة العبرية، لكن هذه حالة نادرة. 
   من هذا المنطلق نستطيع أن نحكم على مصير لغتنا العربية في الغد القريب. وفي ضوء ذلك يجب علينا أن نخطط من أجل جعل هذه اللغة حية :متألقة، كريمة بين أبنائها جميعا وهي تستحق ذلك وقمينة به. 


 
الهوامش:
 (1) ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق د. ناصر العقل، الرياض: مكتبة الرشد، د. ت. 1/411. 
(2) نفسه408 /1. 
(3) نفسه 1 / 409. 
(4) ينظر، الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان و التبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1968، 3/5. 
(5) ينظر : ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، كتاب فضل العرب والتنبيه على علومها، تحقيق د. وليد خالص، ص 41. 
(6) Muslim Studies, by Goldzeiher, I,translated by C. R. Barber,London,George Allen &Unwen 1967,1/ 192. . 
(7)ابن دريد، محمد بن الحسن، الاشتقاق، , تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة :مؤسسة الخانجي، 1958م، ص4. 
(8) ا الزمخشري، جار الله محمود، المفصل، ط. أوروبا، تحقيق Broch سنة 1859م. ص 1-2. 
(9) الطوفي، سليمان بن عبد القوي، الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية، تحقيق د. محمد بن خالد الفاضل، الرياض:مكتبة العبيكان، 1417هـ/1997م. ص 216. 
(10)المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مجهودات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (إدارة العلوم والبحث العلمي)في مجال النهوض باللغة العربية، تونس:2012. يتبين من ملحق مشروع نظام الاشتقاق و التصريف( ص 94)، أن الاجتماعات بخصوص بعض هذه المشاريع قد عقدت عامي 2005و2006 مما يدل على أن فكرتها، بل تنفيذها، قد سبق المشروع الذي دعا إليه إعلان الرياض سنة 2007. والأمر نفسه ينطبق على مشروع المعجم الحاسوبي التفاعلي للغة العربية فقد أرخ التقرير الختامي لاجتماع الخبراء الذين ناقشوا أمره بالشهر السادس سنة 2007(ص 104) وهو تاريخ يسبق ظهور مشروع النهوض باللغة العربية. 
(11)عبيد، عبد اللطيف، محرر، أسباب ومسببات تدني مستوى تعليم اللغة العربية في الوطن العربي، تونس:المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 2010. 
(12) حسين، محمد كامل، اللغة العربية المعاصرة، القاهرة: دار المعارف بمصر 1976، ص72، وانظر 83و83. 
(13) هيكل‘ محمد حسين، تراجم مصرية وغربية، قاسم أمين، القاهرة: دار هنداوي 2014م، ص 115. 
(14)تنظر مقدمة كتابه"البلاغة العصرية واللغة العربية"، القاهرة:مؤسسة هنداوي 2012م، ص 11. 
(15)تنظر مقدمته لديوانه بلوتولاند. 
(16) السباعي، يوسف، ثورة على قيود اللغة، اصرفوا فاطمة الممنوعة من الصرف، الرسالة الجديدة، ع 6، سبتمبر 1954م، ص 3. 
(17) ينظر كتابه "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، القاهرة:مدبولي الصغير، 2004. 
(18) فريحة، أنيس، نحو عربية ميسرة، بيروت:دار الثقافة، د. ت، ص 18-19. 
(19)نفسه، ص 19. 
 (20) نفسه، ص 25. 
(21) تيمور، محمود، مشكلات اللغة العربية، القاهرة:مكتبة الآداب ومطبعتها، د. ت. ص194. 
(22) فريحة، نحو عربية ميسرة، هامش ص 21. 
(23) الأصفهاني، حمزة بن الحسن، كتاب التنبيه على حدوث التصحيف، تحقيق محمد أسعد طلس، دمشق:مجمع اللغة العربية، 1388هـ/1968م، ص 27. 
(24 )سعيد، نفوسة، تاريخ الدعوة إلى العامية، الإسكندرية، دار نشر الثقافة، 1964م، ص 18. 
(25)تراسك، ر، ل. لماذا تتغير اللغات، ترجمة محمدمازن جلال، الرياض:جامعة الملك سعود، النشر العلمي، 2013م ص:ط(المقدمة). 
(26) نفسه، ص 257. 
(27) نفسه، ص 258. 
(28) المعلوف، عيسى إسكندر، اللهجة العربية العامية، مجلة مجمع اللغة العربية الملكي( القاهرة)، ج1، أكتوبر 1934، ص 364. 
(29)الفاسي الفهري، السياسة اللغوية في البلاد العربية، بيروت:دار الكتاب الجديد، 2013، ص 132. 
 (30) ينظر Jane ,Setter ,Will Brexit spell the end of English as an official EU language? The Guardian,International Edition, Fri 27 Dec 2019 11. 56 GMT. 
(31)فليبسون، روبرت، الهيمنة اللغوية، ترجمة د. سعد بن هادي الحشاش، الرياض:جامعة الملك سعود، 2007م، ص 168. 
(32) ينظرموقع المجلس البريطاني على الشابكة. 
(33) فليبسون، الهيمنة اللغوية، مرجع سابق، ص 413.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة