اللوحات للفنان:  رينيه ماجريت
اللوحات للفنان: رينيه ماجريت


حسين الصومالى

أخبار الأدب

الإثنين، 20 مايو 2024 - 04:27 م

حسين عبد الرحيم

خرجت من جربين المعلم ضاحى فجرا، أحمل بطانيتى الرمادية المهترئة، أتوجه لفرش البطيخ، رآنى العم كامل شاهين من بعيد، نادانى قائلا:

أحضر لك العشاء يا صومالى؟
قلت فى كدر وجهامة:
شكرا عم كامل تعيش.
كدرا مرهقا نظرت إليه فى أدب، نظر إلى فى شفقة، سألنى:
 تنام؟
 قلت:
نعم.
 بدا المطر خفيفا فى أول العرب، تمددت، ارتديت طاقية صوف شراقى فوق رأسى، كبستها فى دماغى، تخطت أذنى، شعرت بدفء، تمددت، أتى عم كامل وبيده بطانية ثانية، رماها فوق جسدى المفرود على قش الأرز، بين أكوام البطيخ المكومة على شكل هرمى، صنعت مرقدى، بطول مترين، تحسست جنبى الأيسر الذى صار يؤلمنى على غير العادة، فى العتمة، نهضت من جديد، أشعل سيجارة، نظرت للسماء الكابية، ركام السحب تلج فضاءات الغمام، تمددت على جانبى الأيمن، رحت فى نوم عميق.

رأيتنى سائرا على جسر ترابى طويل، بلا نهاية، الجسر ممتلئ بالحصى، مشيت أرفل فى بدلة كاوبوى، ببطء أنتعل حذاء بنيًاً قديماً، أتطلع لليمين ولليسار، رأيت الديار، منازل بالطوب الأحمر، قفر، دخان يخرج من بيوت مهجورة، الطريق يمتد،  نظرت أسفل الجسر، رأيت قناطر جافة، نهر طويل... زراعات، أشجار السرو والعبل تطول السماء، بزغ النور فى بصرى، رأيت بيتا جديدا قديم الطراز، سألت نفسى فى الطريق:

أين أنت الآن؟!
 أتمدد كالميت، أروح فى بقاع مجهولة، فى حلم متكرر، تتجدد مفردات الحلم، نفس الجسر، يطول، وأنا السائر بلا اكتراث، لا أنوى شيئا بعينه، الوقت مغارب، البيوت ساكنة وأنا أدقق النظر، أتفحص البيوت المهجورة فى أسى، أسأل نفسى متأرجح الذاكرة ما بين ماض بعيد وآتٍ ملتبس.

أين رأيت تلك المنازل، هل سكنت هذه البيوت.... أتأمل قناطر، قنوات مائية تخرج من تحت الجسر ترمى بالماء أسفل ربوة تمتد بمحاذاة الجسر، طالت خطاى، أتطلع للبيوت والقفر والبلد الغريب، دقائق وبان على يمين الطريق وبمحاذاة أشجار السرو، سرادق كبير، يقف أمامه بعض ضباط الشرطة برداء أسود أحاول الدنو والهبوط تاركا الجسر المرتفع لأنسل بمحاذاته مدققا النظر بتلصص فى السرادق الطويل بمقاعده الخالية إلا من بعض العساكر والضباط أتطلع فى الواجهة فأرى ثلاث رايات خضراء وشعارا ملكيا، وعبارات مسطورة بمدخل السرادق.

«المغفور له حسين الصومالى الحبشى 24 ينايير 1952».
نظرت إلى وجوه عدة لضباط بفئات عمرية مختلفة، كنت أنظر إلى رجل بعينه جالسا منزويا على يسار مدخل السرادق، كان يتبعنى، يرقبنى، يتتبع خطاى وهو القعيد الجالس على كرسى متحرك مرتدياً عباءة من الجوخ بجسد نحيل، يلف رأسه بعمة تطوق رأسه المفلطحة، دخلت السرادق فلم يعترضنى أحد، بدا صوت الصراخ يخترق أذنى وأضيئت أنوار فجأة بطول البرارى، بامتداد الممشى الترابى المحاذى للجسر الطويل، الصراخ يصل عنان السماء وأنا خائف، أسأل نفسى بلا جواب: فى أى زمن أمشى وأرى، ولمن هذه الوجوه؟!
يكاد صوتى أن يخرج بالصراخ لاستبيان مكانى، هذا الزمن الممتد بتكوينات غرائبية فى البيوت والوجوه والطرز المعمارية، أشتم رائحة قمائن طوب فى البعيد، أسأل عن دليل يرشدنى لطريق يخرجنى من هذه المتاهة.

كان الرجل القعيد يشير لى بهمس والضباط فى سكون لا ينظرون إلىَّ، كأننى شخص معروف، مألوف لديهم، أتقدم بحذر وبطء، أنظر للداخل، فى نهاية السرادق كان التابوت مغلقا وحوله سياج من سلاسل ذهبية وبعض الأنفار يجلسون على المقاعد ينظرون للتابوت إلا الرجل القعيد الذى كرر إشاراته لى بالتقدم نحوه.

 عادت أصوات الصراخ من جهات غير معلومة ولكنها قريبة، عدت للتلصص والتدقيق فى ملامح الجالسين فى السرادق كان هناك من يشبه المعلم ضاحى الكبير، يتحرك ويترك المقعد وبيده عصاه الأبنوس، رمى بفص الأفيون تحت ضرسه وقال للساقى:

لا تتحرك من هنا حتى أناديك، تابع خدمة المتوافدين حتى تأتى التشريفة.

وددت الصراخ أستفسر عن الحاصل، لمن هذا التابوت؟
زحف الظلام فتلونت الدنيا من حولى وسكت الصراخ ورأيت من يناولنى كوب ماء، شربته ونظرت للوجوه بلا مجيب ولا تواصل مع أحد إلا الرجل القعيد الذى ألح فى طلبى، اقتربت دانيا من كرسيه فسألنى فى ثقة:

لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟، أنتظر حتى يأتى عمك.

لم أجد ما أجيب به، سألته:
من أنت؟!
 فقال لى:
وحدك أنت من البداية. لا تخف، أنت من اخترت الطريق وتركت أباك وعمك، وذهبت لناس البحر.

 زادت دهشتى وبت أرتعش، ترتج ذاكرتى بلا جدوى دون فائدة، سألته فى غضب وقد هاجمتنا تيارات هوائية كاسحة تأتى من غرب السرادق، دققت فى ملامحه من جديد متطلعا للجنود والضباط بمدخل السرادق التى ضوت فيه مشكاوات ومصابيح تسطع بأضواء مبهرة مع صوت نقيق ضفادع وخرير ماء من جداول أو قناطر قريبة، تأملت الرجل، هززت كتفه النحيل قائلا:

من أنت، أين أبى؟
فقالها فى عبارة واحدة:
اخرج من هذه المدينة وعد للإسكندرية، سافر يا بنى، ابحث عن أبيك، رافق تعلب، صاحبه، اسمع له، هو من يعرف كل شىء، اذهب للنبى دانيال، فمن الممكن أن تكون فرصتك الأخيرة للعثور على أبيك الصومالى.

التفت بغته كانت أصوات الصراخ تدوى من جديد من نسوة لا أراهن إلا أن الصوت أفزعنى، شعرت برهبة تجتاح جسدى كله، خلا السرادق من المعزين وبقى التابوت كما هو، التفت يمنة ويسرة كان الضباط يمتطون خيولا عفية ويستعدون للرمح فوق الجسر الطويل المرتفع عبر قناطر وجداول مائية ترمى بالماء العذب من تحت الجسر لمجارى البرارى المؤدية للحقول. 

زراعات عنب وتين ورمان أينعت فجأة وضوت بل سطعت من خلف الكهارب والمشكاوات التى بقت سارجة وكأنها نازلة من السماء، المكان يسبح فى نور وأضواء وأنا أتلمس خطاى منصتاً لهسهسة ووشيش وصوت شيخ يرتل ما بين البرارى والقفر، أسفل الجسر الطويل، بكرسى عال مذهب وعمامة حمراء وعباء سوداء، يتلو: «يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه...»
فررت وتركته دون أدنى اكتراث، كان صوت التلاوة يتعالى فى أذنى، فى عقلى فى نفسى وروحى، يهزنى، يرج كيانى ويخلخل ذاكرتى، لأعاود اجترار ما قاله الرجل القعيد: سافر للإسكندرية، اذهب للنبى دانيال، رافق تعلب ابن فاطمة الضاحى، صاحبه، واحترس من عربى الضاحى. راقبه فى صمت حتى تأمن شره، لعلها الفرصة الأخيرة لملاقاة أبيك والوقوف على مصيره.

قمت من نومى متحسرا دائخا، مفزوعا، اندثر الحلم وتوارى الشيخ القعيد على كرسيه المتحرك، فر فى البرارى بين الزراعات، وكانت تلك الومضة الأخيرة وصارت وكأنها ليست بحلم ولا رؤية.

 أستحضر ما كان فى نومى وهو يتحرك ببطء بلا مساعد يدفع كرسيه للأمام، كان جسده يرتج، بان طوله الفارع رغم تقوس ظهره وانحناءته فوق كرسيه الإستانلس المتحرك، رأيت حبات العنب مدلاة حمراء فوق رأسه وهو يغوص فوق أرض طينية فى البرارى البعيدة، انتبهت بعدما أفقت على صوت زخات المطر فى أول العرب، بناصية الحميدى وطولون، أتحسس فرشة القش وقد غرقت فى الماء فابتلت ملابسى وجوربى وبلوفر أسود استوك كنت ألف به وسطى من أسفل غطاء البطانية الرمادية والأخرى الزرقاء التى رماها فوقى العم كامل، اعتدلت أتحسس علبة سجائرى من تحت الوسادة، أشعلت واحدة وكبست الطاقية الشراقى فى رأسى بدماغى محاولا اجترار واستعادة ما رأيته فى منامى:

من هؤلاء الذين رأيت؟ من هو هذا القعيد؟
وماذا كان يفعل ضاحى الكبير بن سلطان رشوان الراحل منذ سنوات، ما هى طبيعة عمله وتجارته وما هو دور عربى الضاحى فيما يدور فى أول العرب، وأين التعلب الآن، ماذا يفعل ولماذا هو دائما غائب فى القنطرة شرق وإذا تصادف ورأيته كان فى حالاته المتكررة بعد شرب الحشيش، نشوة وسطل وتوهة يلتقطها القريب منه وخاصة عندما تسطع ملامحه بشفافية وطيبة مع برقة بصره التى يخشاها كل الرجال فى أول العرب، حتى خاله العربى الضاحى، كثيرا ما تجنبه وقت غضبه منحازا للحق مساندا الغريب والقريب بلا جور ولا اعتداء على أحد أياً كان ضعفه أو قوته، غريبا كان أم من أهل المدينة أو حتى جنوبيا يحيا على مجد جده الراحل ضاحى سلطان رشوان.

رأيت التعلب يخرج من مقهى الشكربالى قبل الفجر وبصحبته ابن سليم وسعد العجرودى، كنت أسأل نفسى فى حيرة تكررت كثيرا منذ قدومى لهذه المدينة:

أين ومتى قابلت هذا الكسيح؟ فى زمن ما فات أم آخر آت؟
أهرش رأسى وشعرى المفلفل الأكرت متتبعا السحب فى سماء الله ململماً فرشة القش من وسط تلال البطيخ.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

مشاركة