صورة موضوعية
صورة موضوعية


عهود حجازي.. المفتاح المنسي

أخبار الأدب

الإثنين، 03 يونيو 2024 - 01:05 م

عيد ٢٠١٤
كيل - ألمانيا
كان صباح العيد مزدحماً بالمشاغل، فالأطفال فى المدرسة، والبيت على حاله منذ البارحة، والهدايا التى طلبتها ستصل بعد الظهيرة، أما مأكولات العيد فلم تجهز بعد. 

لم أعرف من أين أبدأ، فما زلت بحاجة للتبضع من البقالة، وقد بقى على خروج الطفلين ساعة ونصف، وعلىَّ إنجاز الكثير قبل أن يصلا.

كان قلبى فى معدتى فى ذلك الصباح الممطر البارد، فكل ما يوجعنى من الذكريات يعود أيام العيد. اجتماع العائلة فى بلدى، والإفطار من يد أمى، وحفلة الهدايا فى المساء، والفساتين والمناسبات، الفوضى السعيدة التى كانت لأجلها تهون الأيام.

أطفأت الموقد على القدر الذى بدأ بالغليان، وتركت التلفاز مفتوحاً على تكبيرات العيد، كما تأكدت من غلق النوافذ كيلا تُغرق الأمطار الشقة، ثم ركضت خلف الحافلة التى لم تنتظر ثانية أخرى، ولم يكن الوقت ولا الطقس فى صفّى للمشى إلى البقالة، فكان الاتصال بسيارة الأجرة حلاً سريعاً، كلفنى احتمال ثرثرة السائق اثنى عشر يورو وعشر دقائق.

فى البقالة، كنت أراقب بعينى ازدياد الواقفين فى صف المحاسبة، وازدادت وتيرة قلقى حين لحظت أنه ما من محاسبين سوى واحد، وبدا أن الواقفين متضجرون من طول الانتظار، كما بدا أن ذلك الواحد الوحيد متدرب جديد.

تأكدت من ذلك حين وقفت معهم، وحين رن هاتفى حاملاً تهديد جارتى بالاتصال بالشرطة إن لم أغلق التلفاز، فأخبرتها بأننى فى البقالة، وبأن صوت التلفاز منخفض، ولكنها تسمع دبيب النمل، ومن العسير استعادة أذنها المقيمة فى شقتى، فقالت متوعدة بأن أمامى عشر دقائق.

هكذا، نقدتُ المحاسب البطىء عشرين يورو، وخرجت راكضة للحاق بالحافلة المدبرة، فلم أدركها أيضاً، كانت أكياس البقالة أثقل من حملها إلى البيت مشياً، والسماء ازداد سخاؤها بالمطر، فاتصلت من جديد بسيارة الأجرة، واحتملت الثرثرة ودفع المزيد.

عند باب الشقة استقبلتنى جارتى بوعيدها، مشيرة إلى حظى الذى أنقذنى من مخالفة إزعاج الجيران، لكنّ وقوفى على عتبة بيتى، وتجاهلى لها، أثمرا معاً اكتشافى بأننى نسيت مفاتيحى بالداخل.

كانت تصرخ، وكان رأسى يئن، وكانت تكبيرات العيد تُسمع من داخل الشقة.

لقد بقى على موعد اصطحاب الطفلين أقل من ساعة، وهذا صباح العيد الذى ينتظرانه منذ انتهاء العيد الماضى. فماذا أفعل؟
التفت إلى جارتى المتوثبة لقتلى، وأخبرتها بأننى نسيت مفتاحى اللعين على باب الشقة من الداخل، فقالت بأنها ستمنحنى ساعة إضافية وبأن علىَّ الاتصال بالطوارئ، ثم أغلقت بابها فى وجهى. 

الطوارئ!
«سيدى المحترم، لقد نسيت مفتاحى بالداخل، فهل من الممكن على وجه السرعة إسعافى؟».

«بالطبع يا سيدتى، هل المفتاح منسى أم مفقود، وهل هو على قفل الباب أم متروك داخل المنزل»؟

«لماذا كل هذه الأسئلة؟ أنا مستعجلة، وأريد اصطحاب أطفالى من المدرسة.»!

«لأن كل اجابة تعنى سعراً مختلفاً يا سيدتى».

«ظننتها خدمة مجانية! فى هذه الحال، لقد نسيته، فكم ستكلفنى»؟ 
كان الوقت يمر ويمر..

«مئة وعشرة يوروات فى حال النسيان، والدفع نقداً فقط.»

«كثير جداً! إضافة إلى أننى لا أحمل سوى البطاقة البنكية، فما العمل؟».

«هذا ما لدى، فهل تريدين أم لا؟».

«كم أمامك»؟
«عشرون دقيقة». 
ركضت من جديد عبر السلالم، تاركة أكياس البقالة على الباب، وبأعصاب متهالكة، اتصلت بسائق الأجرة راجية إياه أن يطير على الأرصفة ليوصلنى إلى جهاز سحب النقود، ثم رجوته بمزيد من المال لينتظرنى ويعيدنى إلى البيت.

وقبل أن أصل بدقيقتين، اتصل موظف الطوارئ لإبلاغى بأنه وصل، وسوف يعود إن لم يجدنى خلال خمس دقائق.

وصلت لاهثة، والعرق يتساقط من أطراف شعرى، ووجهى بارد، والدموع تقاوم ثقل هذا اليوم.

مرر لى الموظف الضخم ورقة التوقيع، ومدَّ يده لاستلام المال، ثم فى أقل من ثانية، أدار القفل من الخارج وفتح لى الباب. 

«واه! كم هو سهل»! 
«ليس سهلاً، ولكنها الخبرة».
«سهل ويكلف مالاً كثيراً».
«هذا درس فى النسيان».

كان القدر المغلى الذى أطفأته قبل خروجى قد ثار، وفاضت مياهه على الفرن والأرضية. وكان صوت التكبيرات معقولاً، على الرغم من ادعاءات الجارة المتحاملة، وكنت أمام ترتيب المشتريات وتغليف الهدايا التى أحضرتها من المندوب فى ظرف دقيقتين؛ بحاجة إلى عشرة أذرع.

فى المنتصف ارتديت فستاناً وسرحت شعرى، ولم أجد لوضع المكياج ثانية إضافية.

هكذا، تحسست جيبى مرتين كى أتأكد من رنين المفتاح وبطاقة الحافلة والمحفظة والهاتف. ثم ركضت من جديد، لتفوتنى الحافلة، ويزداد انهمار المطر، وأتصل بالأجرة، أجهز المزيد من المال، وأسمع المزيد من الثرثرة، مرخية رأسى على ظهر المقعد كيلا ينفجر. 

أمام المدرسة، وتحت المظلة، التى بالكاد قاومتْ عصف الريح، خرج الطفلان ركضاً، مرتميين فى حضنى معاً.

«ماما عيد سعييييد»! 
«ح نروح الكافيه ناكل آيس كريم»؟
كان إحساسهما بالخفة والسرور يدفع ابتسامتى للتظاهر بالسعادة، على الرغم من ثقل ما أشعر به، وتعبى ومعاناتى الداخلية. كانت بطولةً، أن أحتمل طفولتهما بدون أن أخدشها بدمعة. 

أخذنا اليوم بطوله على البحيرة، وهما يرتديان ثياب العيد، ويجيبان باهتمام بالغ مَن سألهما عن مناسبة هذا اللباس الكرنفالى فى الحافلة والمقهى، كما حكيا لى حكايات المدرسة والأصدقاء، وسألانى عن المفاجآت التى تنتظرهما فى البيت. كنت أتجاوب بفعالية، وأمنح نفسى المزيد من الوقت للتماسك قبل المساء، قبل أن أصرخ فى وسادتى وأضربها وأبكى عليها.

عدنا إلى الشقة، وقد سطعت الشمس أخيراً، فملأت أرجاء البيت، ودخلنا وسط صرخات فرحتهما بالهدايا المرتبة على الطاولة والكعك والزينة والشموع.

احتفلنا بالعيد، ورقصنا على الأغانى، ثم تناولنا غداءنا، والتقطنا الصور، ولعبنا وضحكنا حتى ذهبا فى المنام. 

كانت الصالة فى حال حرب، والمطبخ بحاجة إلى فريق طوارئ، والملابس متكومة فى جبلٍ صغير، كما أن المطر عاد ليعصف على النوافذ. 

صوت الظلام، وشخير الطفلين، وتكبيرات العيد، وثرثرة سائق الأجرة، وتهديد الجارة، ولا مبالاة موظف الطوارئ. منظر الحافلة تمضى، والطقس الرمادى، والناس المتضجرة فى صف المحاسبة. 

الركض بدون توقف، والدفع بدون انقطاع، والعرق الغزير المتصبب من أطراف شعرى، والوقت الذى يسرع، كأنها ستقوم القيامة. 

شرعت فى البكاء أخيراً، فهذا وقتى الذى أحتاجه لكى أستيقظ غداً بحالٍ طيبة، لكننى من فرط تعبى، وبعد الدمعة الأولى، ذهبت فى النوم بدون استعداد، وفى الصباح التالى استقبلتنى مشاغل جديدة.

هكذا أشعر الآن، بأننى منذ عشرة أعياد لم أبكِ، بأننى مثقلة، وبأن دموعى الكثيرة المؤجلة تتحاشى انهمارى، بأن القِدر يغلى فى الداخل، وبأن صوت التلفاز نافذ، وبأننى نسيت مفاتيحى كلها خلف الباب.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة