الكاتب أحمد فؤاد الهادي
الكاتب أحمد فؤاد الهادي


«مبدعون للبيع» قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

صفوت ناصف

الأحد، 30 يونيو 2024 - 04:44 م

 

في سوق للكلمات يعرضون أديبا للبيع، إنه كبير الأدباء، أجلسوه على حجر إلى منضدة بالية صغيرة، قذفوا أمامه بأوراق مهترئة وريشة معوجة ومحبرة بها قطرة من مداد أسود. تقدم كبيرهم نحوه وعيناه تسبقانه، فكأنما أصابت أحشاء الرجل فأخذ يتلوى كاتما صرخاته قهرا وخوفا ورعبا.

 أشار إليه كبيرهم بسبابته حتى كاد أن يخرق عينه وهو يزمجر: أكتب، تلفت الأديب المسكين دون أن يلتفت، فما رأى سوى هذا الشيطان وخلفه لا شيء، وكأنه يقف على حافة الكرة الأرضية.

مازال الصوت يزمجر في أذنيه، والكلمة كأنها تحجرت أو أن الهواء أبى أن يحملها بعيدا عنه: أكتب. حاول أن يغمض عينيه لبرهة يستريح فيها من هذا البشع ولكنه لم يستطع وكأن الشيطان قد أمسك بجفنيه، زاغ بصره للحظات ثم انتبه عندما استعادت عيناه بعضا من قواهما، السوق مزدحمة بالأدباء والعلماء والفنانين الذين يعرفهم جيدا، بعضهم معروض في أقفاص حديدية وآخرون مكبلون بالسلاسل وملقون على الأرصفة، وهذا يضع عددا منهم موثقين بعضهم إلى بعض بالحبال على عربة خشبية متهالكة يجرها حمار، الأرض تناثرت عليها الكتب والأبحاث والكلمات والآراء واللوحات والتماثيل والتحف، كلها تدهسها النعال وتمضي دونما اكتراث، كلها تتألم وتئن، نعم.. إنه يسمع أنينها.

أفزعه حشرجة صوت هذا الكريه وهو يركله بالكلمة نفسها: أكتب. تلعثم وهو يحاول أن يفلت من محنته، خرجت كلماته مبعثرة:

  •  إذا كنتم ستدهسون كلماتي، فلم الكتابة إذن؟

 تعالت ضحكات القبيح وترامت إلى أذني صاحبنا كصوت تتالي تصادم عربات قطار توقف فجأة، فضج منها، وشعر أنه قد اختار لنفسه نهايتها.

قال كبيرهم:

  • أكتب ما في رؤوسنا لاما في رأسك كهؤلاء السذج.

قال وقد تراجع قلبه إلى ظهره خشية أن يبطش به:

  •  وهل في رؤوسكم إلا قمامة الأفكار؟

ومرة أخرى تحرك القطار في حنجرة الكريه وتوالت التصادمات وهو ينظر إليه في سخرية واستخفاف:

  •  ألا تدري من نكون أيها الضفدع الحقير؟

ولم ينتظر منه ردا وهو يقول:

  •  لقد تحملناكم زمنا طويلا، سعيتم خلاله وسعينا، حتى جمعناكم في هذه السوق فما تقدم أحد ليدفع فيكم درهما، بعثرنا نتاجكم على الأرض فما انحنى صغير ولا كبير ليجمعه، بل تمر عليه النعال متأففة، أما أتباعكم فهم قابعون في صومعاتهم لا يحركون ساكنا، بدأتم من أعلى وبدأنا من أسفل، ثابرنا حتى ارتجف الأعلى وسقط في القيعان، شكلنا العقول وحرثناها ونثرنا فيها ما عندنا حتى نما وظلل على العيون فلم تعد ترى سوى رايتنا، وتدلى على الآذان فلم تعد تسمع سوى صوتنا.

انتفض الأديب وبدا هذا الكريه كعلامة استفهام كبرى، صاح في خوف:

  • من أنتم إذن؟

حملق فيه الكريه وقد ازدادت عيناه احمرارا وهو يقول:

  •  تدعون العلم وأنتم لا تعلمون، فالعلم هناك خلفكم بمئات السنين، نحفظه بين صخور قاسية تحرسها قلوب ميتة ولا نسمح لبشر أن يغترف منه إلا بعد أن نغلق نوافذه وأبوابه، تلك هي الأمانة التي لن نسمح لكم أن تقربوها، اسأل عنا أطفال المدارس وشباب الجامعات وعمال المصانع وفلاحي الحقول، نحن في كل شارع وحارة وزقاق، تجدنا حيثما وجد إنسان.

كلمات زادت الغموض غموضا، حتى أفاق على أصوات ترامت إلى مسامعه من بعيد، ضجيج وطبول وهتافات يكاد يميزها:

  •  الويل للمثقفين الخونة.

 حتى اقترب الحشد فاستطاع أن يقرأ بعضا من لافتاتهم: يسقط الأدباء والمفكرون، يسقط المبدعون والعلماء والفنانون، اتركوا العلم لأهل العلم، نحن العلماء وأنتم الدخلاء.

انتشر الحشد في جماعات، تلك تحرق والأخرى تهدم والثالثة تقتل، تلونت الأرض بالدماء، علا صراخ الأطفال ونحيب الثكالى، سحب الدخان تصارع ضوء النهار وتشوه ظلام الليل، الباغون يسعون في الأرض فسادا.

كبير المبدعين ينفجر صارخا في وجه الكريه فيلفظه لأمتار حتى يسقطه من حافة الأرض إلى مصير محتوم، زئير المبدعين يعلو وعقولهم تصهر أقفاص الجهل، ينطلقون في كل اتجاه، المغيبون يحتشدون حولهم وقد تفجر النور في عقولهم، صار المد عظيما يبتلع كل من يدركه من الظلاميين، تساقط الشهداء، النساء برزت مخالبهن فلم يصمد أمامهن باغ، علا الأذان ودقت الأجراس، انفرجت الأسارير، توجه الظافرون صوب أرض السوق حاملين المعاول والفؤوس يتقدمهم العلماء والأدباء والمفكرون، لم يبرحوا أرض السوق حتى شيدوا عليها حصنا منيعا يعج بالعلم والمعرفة، فيه من البراح ما يستوعب الناس جميعا، خلت الشوارع والبيوت من الناس، الجميع في الحصن يصلون لله شكرا.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة