عشوائيات الفن
حياة كريمة .. ترمم عشوائيات الفن
الأحد، 10 أكتوبر 2021 - 03:02 م
إشراف : ريزان العرباوى
انشغل سوق الفن فى فترة معينة بصناعة أفلام ارتكزت تيماتها الأساسية على حياة المناطق العشوائية ومدن الصفيح، واستحوذت على اهتمام الصناع بشكل كبير فى ذلك الوقت، ومنهم من نجح فى دخول هذا العالم والتعبير عن مشاكله، فكان المنتج بمثابة جرس انذار لضرورة الالتفات لتلك القنبلة الموقوتة، والبعض الآخر تاجر بالعشوائيات من خلال توليفة البطل البلطجى والأسلحة البيضاء ومكونات الخلطة التجارية، فكانت بمثابة أحزمة ناسفة للقيم.
ولكن فى الفترة الأخيرة تراجعت تلك النوعية من الأفلام بشكل ملحوظ، فهل يرجع السبب فى ذلك التراجع إلى تبدل المزاج العام للجمهور وابتعاده عنها لقسوتها؟، أم أن ذلك يعتبر انعكاسا للتطور الحاصل بالقضاء على العشوائيات من خلال مبادرة حياة كريمة وغيرها من المبادرات التى تهدف إلى بناء مجتمعات جديدة على أنقاض تلك العشوائيات, وبالتالى إغلاق هذا الملف أمام صناع السينما والفن بشكل عام؟.
أنتجت السينما المصرية عددا من الأفلام فى فترة معينة تناولت ملف المناطق العشوائية بأفكار ومعالجات مختلفة, وكان من أبزرها فيلم “سارق الفرح” الذى أخرجه داوودعبد السيد، وجسد من خلاله صراع المهمشين -من قاطني إحدى المناطق العشوائية- مع الفقر, الفيلم من بطولة لوسى, ماجد المصرى, عبلة كامل, حسن حسنى, محمد هنيدى وحنان ترك.
ثم جاء فيلم “حين ميسرة” الذى أحدث ضجة كبيرة وقت عرضة وشكل صدمة لدى المشاهدين من جرأة الطرح من خلال مناقشة قضية أطفال الشوارع والطبقة المهمشة اجتماعيا والتى تقع تحت خط الفقر وتعانى من ضغوط اقتصادية واجتماعية, الفيلم من بطولة سمية الخشاب, عمرو سعد, عمرو عبد الجليل ومن إخراج خالد يوسف وتأليف ناصر عبد الرحمن.
ويستمر المخرج خالد يوسف فى إثارة الجدل وإحداث مزيد من الصدمات لدى الجمهور، وذلك من خلال فيلمه “دكان شحاته” الذى صدر من خلاله نظرة تشاؤمية للمستقبل انعكست من خلال الأجواء القاتمة المحيطة بالأبطال, وهو يعتبر أولى تجارب هيفاء وهبى على شاشة السينما المصرية, وشارك فى البطولة عمرو سعد, عمرو عبد الجليل وغادة عبد الرازق والفيلم من تأليف ناصر عبد الرحمن، والذى قدم أيضا فيلم “الغابة” مع المخرج أحمد عاطف ودارت أحداثه حول مجموعة من أولاد الشوارع متفاوتين فى الأعمار تجمعهم “الخرابة” ليرصد ممارسة تلك الشريحة لسلوكيات شاذة للحصول على ما يكفى للعيش على هامش المجتمع, والفيلم من بطولة ريهام عبد الغفور, باسم سمرة, حنان مطاوع.
وحول بعض الظواهر السلبية التي انتشرت في مصر بعد ثورة 25 يناير قدم المخرج أحمد البدرى فيلم “جمهورية إمبابة” بطولة باسم سمرة وعلا غانم ومن تأليف مصطفى السبكى.
ومن منطقة شعبية يعتبرها البعض دولة داخل الدولة، ويتحكم فيها كبير المنطقة قدم محمود حميدة وإلهام شاهين فيلم “ريجاتا” شارك فى البطولة فتحى عبد الوهاب, رانيا يوسف وعمرو سعد والفيلم من إخراج محمد سامى.
وقدم الراحل محمود عبد العزيز بالاشتراك مع أحمد السقا وهند صبرى فيلم “إبراهيم الأبيض” من إخراج مروان حامد وتأليف عباس أبو الحسن.
كما ظهرت أفلام التوليفة التجارية التى جعلت من البلطجى بطلا وأشهرها “قلب الأسد, الألمانى, عبده موتة” وهى أفلام من بطولة محمد رمضان.
ولكن مؤخرا اختلف المشهد وبدأت هذه النوعية فى الاختفاء بشكل تدريجى, ومع اهتمام الدولة بملف المناطق العشوائية والسعى نحو تحقيق حياة كريمة لكل مواطن وتطوير البنية التحتية واستبدال العشوائيات بمجتمعات جديدة لتقضى على كل ما يتضمنه هذا الوصف من قبح وسلبيات تتطلب الحذف, فهل سيغلق هذا الملف بالكامل أمام صناع الفن أم أن هناك مجال لإعادة النظر فيه وتوظيفه فى إطار اللغة الفنية الراقية وتقديم معالجة درامية لهذا العالم بعيدا عن سينما المقاولات الفارغة من القيمة الفنية؟.
«فجوات طبقية»
اهتم المخرج مجدى أحمد على بقضايا العشوائيات وانعكس ذلك الإهتمام من خلال مجموعة من الأفلام منها فيلم “عصافير النيل” وعن رؤية صناع الفن لهذا الملف فى ظل التطور الحاصل فى البلد, يقول: “الإنجازات التى تحققها الدولة على مستوى تطوير العشوائيات عظيمة, ولايمكن إنكار ذلك, إلا أنها مشكلة عميقة تحتاج إلى وقت كبير للقضاء على هذا السرطان المتفشى فى هيئة عشوائيات ومدن من أعشاش, وما زالت هناك فرصة أمام عقول الدراما للتعامل مع هذا العالم ومعالجته بطرق أكثر رقيا بعيدا عن الإسفاف والابتذال دون تحديد وصفة مثالية للتناول, لأن الفن عبارة عن وجهات نظر، ولكل مؤلف وجهة نظره الخاصة, المهم أن يكون مخلصا لمهنته وانتمائه للناس, حتى لا تكون المادة وتحقيق الربح المالى هو المحرك الأساسى له, ولكن أعتقد أن سبب اختفاء هذه النوعية من المشهد هو عزوف صناع الفن أنفسهم عنها وعدم اهتمامهم بالشرائح المهمشة اجتماعيا بقدر اهتمامهم بجمهور سينما المولات, حيث تختلف طبيعة الموضوعات المطروحة سينمائيا مع اختلاف طبيعة وثقافة الجمهور المتلقى.
ويتابع قائلا: “تفشى العشوائيات كان ناتجا عن سنوات من التهميش والإهمال أدى إلى إضمحلال فيما يتعلق بالتنمية، وبالتالى انتشار مدن الصفيح والمقابر السكنية التى عشش فيها الفقر والقهر والفوضى, وتظل مهمتنا كصناع للفن هى العمل على تحريك العقول نحو الكمال لكل شرائح المجتمع لردم الفجوات الطبقية وإصلاح الخلل المجتمعى بتسليط الضوء على هذا الملف للخروج بتحليلات تصب بالنتيجة للصالح العام, فى محاولة لكشف خلفيات للأوضاع الضاغطة مما يساهم فى تغيير منظومة القيم, فينعكس أثره على السينما ويساهم فى تغير منظومة الصناعة الفنية, فواجب الفنان المهموم بقضايا وطنه أن يعرض المشاكل المنتشرة التي يراها ويشعر بها حتى يضع المسئولون حلولاً لها”.
“توليفة تجارية”
وصف المخرج داوود عبد السيد هذه النوعية من الأفلام بالتجارية، فيرى أن جميعها أفلام تجارية تحت اسم الواقعية لا تعكس الواقع ولا تمت له بصلة, ويقول: “لا أعترف بقيمة تلك النوعية من الأفلام فهى بلا هدف وبلا مضمون فما يتضمنه، الواقع العشوائى أكبر بكثير من أى فيلم سينمائى يركز على تيمة الفقر أو يجسد مستوى معين من الجريمة، طبعا من وجهة نظر صناعه الذين يحرصون على تطعيمه بالتوليفة التجارية براقصة الأحياء والمطرب الشعبى والأسلحة البيضاء وتغيير الثوابت بجعل البلطجى بطلا وانتصار الشر وتعميم للقبح بتصوير أعلى درجات الفقر والجريمة, فهى تضرب بقيم المجتمع عرض الحائط, واعتبرها مصدر لتفريغ المجرمين وتجار المخدرات, وفي ظل التهميش الشديد الذي تواجهه هذه المناطق أفرزت مجموعة من الظواهر المغرية لتجار صناعة الفن, ولكن الأهم هو تغيير هذا الوضع وليس مجرد تناوله”.
ويتابع: “أى مفكر للدراما سواء التلفزيونية أو السينمائية لديه هم معين هم اجتماعى أو سياسى أو حتى هم جمالى يعبر عنه, وأتحدث هنا عن مستوى السينما عندما تصبح فنا حقيقيا، وليس مجرد كلام واستغلال لتيمات معينة حتى أظهر فى الصورة أننى صاحب قضية ونصير الفقراء والمهمشين-دا شئ سخيف- من وجهة نظرى, فالواقعية الحقيقة تم تجسيدها من خلال أعمال صلاح أبو سيف وأفلام الخمسينيات والسيتينات مثل فيلم “الحرام” على سبيل المثال، فهى أفلام عبرت عن هموم إنسانية واجتماعية”.
ويستطرد قائلا: “اهتمام الدولة والنظر لتلك الطبقة وتحويل العشوائيات إلى مناطق سكنية آدمية، هو شئ إنسانى رائع ويحترم, ولكن بالنسبة لإنعكاس ذلك على السينما فلى وجهة نظر خاصة أؤمن بها, وهى أن السينما لا تعكس الواقع كما يردد البعض لأن إنعكاسه يأتى من الصراعات الحقيقة, ولا أستطيع أن أجزم بانتهاء التوليفة التجارية وأفلام المقاولات لأن أى اتجاه يتحقق من خلاله أرباح مالية كبيرة ينجذب إليه البعض, وبالتالى من الصعب إنهاء هذه الفترة بسهولة, فمهم جدا أن يصاحب تطوير العشوائيات والبنية التحتية تطوير أيضا فى فكر واتجاه صناع الفن, فعندما تتواجد السينما المهتمة بالواقع وبهموم الناس مع البحث عن أدوات ذاتية للتطوير ثم تطويع الأداة الفنية إلى أساس لتحديد الرغبة العامة للجمهور, ومحاولة فصل الفن الجديد عن التبعية الحتمية لأشكال الفن القديم بالإشتباك مع أفكار انتقائية أكثر تعبيرا عن الأزمات والقدرة على تحقيق التوازن بين متطلبات ثقافة المجتمع المحيط وبين جودة العمل الفني دون أن تتحول إلى سينما تجارية أو دعائية وبعيدا عن النوعية السائدة من الإهتمام بالغيبيات أو بالأكشن وتكسير السيارات, وقتها سينعكس, فالخطأ موجود فى الإنسان السينمائى, والعشوائية لا تربط فقط بالفقر فهناك عشوائية الفكر والتنظيم”.
«غزو عشوائى»
وتقول الناقدة خيرية البشلاوى: “ما يحدث من تطور واستبدال المناطق العشوائية بمدن جديدة لتوفير حياة كريمة لطبقة عانت من التهميش والإهمال لسنوات عديدة, له علاقة قوية عضوية لا يمكن أن تنفصل بتطوير الفن وتغيير الرؤية الفنية السائدة المنعكسة عن هؤلاء المهمشين, وأرى أن تدني الذوق العام في الفن والأدب هو ناتج أو رافد من روافد الغزو العشوائي الذي حدث نتيجة عمليات الهجرة لبعض الفئات, حين اتجهت شريحة كبيرة من الجمهور المصرى المعدم إلى سلب أماكن بالفهلوة ليعيش فيها ويعمرها بطريقة عشوائية أدت إلى فوضى وقبح, ودون أن يلتفت إليهم أحد انتشر وباء العدوى، واستمر طويلا لينتج عنه معيشة تعيسة وتعليم تعيس وخيال متدن ضائع, صنع أفلام الثقافة الشعبية بمحتوى أجوف, إلى أن أصبح للدولة إرادة قوية ترى أن تلك العشوائيات عار, وكيف وصل الحال بمدينة جميلة مثل القاهرة ليتحول جزء كبير منها إلى عشوائيات, فمن الصعب جدا أن يحدث هذا التطوير على أرض الواقع، ويظل صانع الفيلم أو صانع الدراما يروج للقبح، وأننا مازلنا نعانى من العشوائيات, أو حتى لا يرتقى بعمله ليعكس الاتجاه المقاوم لهذه الآفة, فالدولة أخذت على عاتقها مهة التصدى لتلك العشوائيات وازاحتها ضمن مناخ عام رافضا لها وللسلوكيات التى تهدد النسيج الاجتماعى وتضرب بقيم وثوابت المجتمع المصرى”.
وتضيف قائلة: “بالتأكيد حل أزمة العشوائيات لم ينته بشكل جذرى ومازال هناك فرص أمام الصناع لتقديم معالجات للقضية ضمن إطار فنى راقى, وسيحدث تدريجيا من خلال تغذية الوعى وتوسيع المدارك ورفض القبح والانتصار للجمال ومقاومة التيارات المضادة التى تعمل على تشوية صورة البلد وإحداث خلل اجتماعى, فالدولة تؤمن بأهمية وقدرة القوة الناعمة لتعزيز الهوية الوطنية وتغذية الوعى والوجدان بأفكار تقدمية, وأنها سلاح مهم لمواجهة الأفكار الهادمة”.
«بيئة الحرمان»
وعن الآثار الناتجة ومدى التحول الذي أحدثته أفلام الثقافة الشعبية على قيم وثوابت المجتمع المصري تقول د. سامية الساعاتى أستاذ علم الاجتماع: “هذه النوعية قدمت مناقشة صريحة وصادمة لمشكلة العشوائيات, فعندما تعرضت مصر لهذ االإستعمار العشوائي أدى إلى تراجع القيم والذوق العام والتعليم والثقافة والأخلاق، وسادت الفوضى, وانعكس ذلك على نسق المجتمع مثل الفن, فجسد الانحلال والبلطجة والجريمة, مما أحدث تحولات واسعة في المجتمع أدت إلى تراجعه, فهذه البيئات تخلق إنسان ضحل الفكر غالبا ما يشعر بالنقص أمام المجتمعات الأخرى نتيجة الحرمان من أساسيات الحياة, وفى بيئة الحرمان تلك يضطر الإنسان إلى امتهان أعمال غير شريفة أو وظائف متدنية ليتخلص من الشعور بعدم الأمان المجتمعي”.
وتضيف: “بعد أن غزت المدن انتقلت إلى ميادين الإبداع وظهرت في شكل ما يسمى أغاني المهرجانات ووجدت منابر تعبر عنها بطرق مختلفة في السينما وغيرها, وتصدرت المشهد الفني وكأن هذه هي مصر فقط, فيجب على صناع الفن التكاتف مع الدولة لتحقيق حياة كريمة للفن الذى يعكس الواقع, فالدولة لا تستهدف فقط تغيير المسكن لهذه الفئات، إنما تعمل لتغيير الواقع الثقافي والاجتماعي ورفع الوعي لدي سكان هذه المناطق بالكامل”.