نصر حامد أبو زيد
نصر حامد أبو زيد يكتب :سقوط التنوير الحكومى
السبت، 22 يوليه 2023 - 12:09 م
خاضت أخبار الأدب العديد من المعارك دفاعًا عن حرية الفكر والإبداع، وكان أهمها ما عرف بمعركتى «وليمة لأعشاب البحر» و«الروايات الثلاث» وقد استكتبت الجريدة العديد من المثقفين، وكان من أبرزهم الدكتور نصر حامد أبوزيد الذى تحل ذكرى ميلاده الثمانين هذا العام، وقد نشر أبو زيد هذا المقال المرجع الذى يمكن اعتباره من أهم المقالات التى نشرتها أخبار الأدب والذى يلخص ويكشف وضع الثقافة المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة وحتى بدايات القرن الحادى والعشرين.
من المفارقات اللافتة أن معظم هؤلاء المثقفين الذين تم اختيارهم العمل الثقافى كانوا شديدى النقد للمثقفين الذين تعاونوا مع النظام السابق من منطلق «التغيير من الداخل»
بدأت الهيئة المصرية العامة للكتاب فى إعادة إصدار بعض الكتب الهامة فى تاريخنا الثقافى الحديث مثل “الإسلام وأصول الحكم” لعلى عبد الرازق، و”مستقبل الثقافة فى مصر” لطه حسين إلى جانب بعض كتب الشيخ “محمد عبده” و”سلامة موسى” وغيرهما من أعلام النهضة وضحاياها، أصبح شعار “التنوير” هو شعار المرحلة وصنمها المعبود.
كانت سلسلة «كتب التنوير» الاسم الذى حملته الإصدارات المذكورة جزءا من المواجهة الثقافية/ الأمنية ضد “الإرهاب” الذى كانت يده قد طالت قلب القاهرة مكانيا، وكانت قد تمكنت من اغتيال رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب وكادت تودى بحياة وزيرى الإعلام والداخلية من رجال السلطة السياسية، كما تمكنت من اغتيال الكاتب فرج فودة. لم يكن ممكنا الاكتفاء بالمواجهة الأمنية وحدها، لأنها كانت قد فشلت فشلا مروعا فى مواجهة جماعات الإرهاب منذ اغتيال رئيس الجمهورية السابق وهو على منصة الاحتفال بالذكرى الثامنة لانتصار السادس من أكتوبر .1973
وكان وصول يد «الإرهاب المسلح» إلى قلب القاهرة، وتهديده لرموز السلطة وقتل بعض رجالها علامة فارقة أظهرت عجز النظام وجهاز أمنه عن حماية نفسه،من المهم الإشارة هنا إلى أن حماية المجتمع لم تمثل فى هذا التاريخ الممتد من 1981 إلى 1993 منطلقا أو هما من هموم النظام السياسى بقدر ما كان الهم الأساسى هو حماية النظام من الانهيار. لقد كان القتل مستعرا فى الصعيد ضد المواطنين مسلمين وأقباطا الذين اعتبرهم “الإرهاب” رهينة من خلالها يحاول النيل من هيبة النظام السياسى وإظهار ضعفه وتهافت بنيته ومشروعيته فى نفس الوقت. فى ذلك الوقت كتبت كما كتب غيرى أن محاربة «الإرهاب» تبدأ من أمن “الموطن”، فعدم الاهتمام الأمنى بأمر سيارة أو دراجة مسروقة يعنى مساعدة الإرهاب فى استخدام الدراجة أو السيارة المسروقة لكى تكون فخًا ينفجر أمام مدرسة أو فى وسط مجمع سكاني. لكن النظام كان مشغولاً طوال الوقت بحماية استقراره هو وأمنه هو حتى وقعت واقعة اغتيال بعض رموز النظام وطالت يد الإرهاب عاصمة النظام. كانت التفجيرات التى وقعت فى قلب “ميدان التحرير” فى القاهرة، واغتيال فرج فودةظواهر دالة على ضعف قوة النظام وقلة حيلة أجهزة الأمن فى التصدى لذلك الخطر.
فى هذا السياق وفى محاولة من جانب النظام السياسى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تحرك ممثلوه فى اتجاهين يبدوان متعارضين وإن كانا يهدفان لغاية واحدة. كانت الحركة الأولى فى اتجاه التفاوض مع الحركات والتنظيمات الإرهابية، وفى هذا الصدد جرت ثلاث محاولات: الأولى بين مجلس شورى تنظيم “الجهاد” داخل السجن بقيادة “عبود الزمر” وكبار ضباط مباحث أمن الدولة سنة .1992 والمحاولة الثانية توسط فيها عدد من العلماء والمثقفين من التيار الإسلامى برز من بينهم أسماء “محمد متولى الشعراوي” و “محمد الغزالي” و”فهمى هويدي” و”محمد عمارة” و”عبدالصبور شاهين”، وشارك فيها وزير الداخلية “عبدالحليم موسي” سنة 1993 أما المحاولة الثالثة فجاءت بمبادرة من أمير الجماعة الإسلامية فى أسوان أثناء محاكمته مع آخرين فى ربيع عام 1996 ولكن الحكومة رفضت التفاوض لأنها كانت قد سيطرت أمنيا على الموقف منذ أواخر عام 1995 خاصة بعد محاولة اغتيال الرئيس فى إثيوبيا.
ملاحظة جانبية لا ضرر منها: رفضت جامعة القاهرة برئاسة الدكتور “مأمون سلامة” ونيابة الدكتور “محمد الجوهري” ترقية “نصر أبوزيد” فى سياق محاولة التفاوض الثانية بين النظام والإرهاب، حيث كان كل من “مأمون سلامة”و”عبد الحليم موسي” يلتقيان فى مسجد السيدة “نفيسة” رضى الله عنها، فكلاها من مجاذيبها!
كانت الحركة الثانية للنظام السياسى فى اتجاه “تجنيد” المثقفين فى معركته ضد الإرهاب والتطرف، وهى ليست حركة منفصلة عن حركته المشار إليها للتفاوض من خلال وساطة المثقفين الإسلاميين. بدأت تلك الحركة الثانية بدعوة من بعض المسئولين المشهود لهم بالاستنارة للقاءات مع مجموعات من المثقفين والكتاب والمفكرين الذين اشتهروا دائما بروح المعارضة والنقد. فى سياق تلك اللقاءات حدثت عملية إحلال رؤساء تحرير جدد لمجلات وزارة الثقافة. ويعلم الجميع أن تغيير القيادات الثقافية بإحلال أسماء جديدة مكان الأسماء القديمة كان بهدف استيعاب رموز المعارضة الثقافية فى العهدين السابقين. كما يعلم الجميع أن المختارين الجدد كانوا من المثقفين المشهود لهم بالكفاءة والخبرة والمشاركة الإيجابية فى الهم العام. كانوا مثقفين بكل معنى الكلمة، تعرضوا للاضطهاد بدرجات متفاوتة فى العهد السابق.
ومن المفارقات اللافتة أن معظم هؤلاء المثقفين الذين تم اختيارهم العمل الثقافى كانوا شديدى النقد للمثقفين الذين تعاونوا مع النظام السابق من منطلق “التغيير من الداخل”، فقد كانوا يرون أن “الفرد” ويحوله إلى مجرد “ترس” صغير فى آلته الجهنمية. تغيرت وجهة النظر تلك فى أوائل التسعينات حين بدأت تلوح فى الأفق المائل العينى بمدنية “القاهرة” مخاطر “الإرهاب” الذى يتقنع بقناع الدين، وطالت يده أعناق المثقفين كما طالت بعض رموز السلطة والنظام، وهنا استعار المثقف الذى تحول إلى “مفهوم التنوير” إحيائيا، أى التنوير كما صاغه السلف، سواء سلف التراث المعتزلة وابن رشد أو سلف النهضة، محمد عبده وطه حسين وسلامة موسي.. الخ.
لم يكن لدى المثقف المطالب بالحركة السريعة لإطفاء “الحريق”، الذى يكاد يلتهم السلطة، وقتا لإنجاز صيغته “التنويرية” المستندة على قواعدها التراثية من خلال التركيب النقدى الخلاق، ومن منطلق تحليل واع لأفاق اللحظة التاريخية فى سياق مغاير لفكرى التراث والنهضة معا. ليس هناك وقت لذلك، فلنهلل للتنوير الجاهز ولنرفع أعلامه ونردد شعارته: العقل بديلا عن النقل. التسامح بديلا عن التعصب، قبول الآخر بديلا عن التقوقع داخل أسوار الأنا، الإبداع بديلا عن التقليد والاتباع. الخ تلك الصيغ الجاهزة المعلبة المنتزعة من سياقها لتزرع فى سياق فكر غث تردادي، لا يختلف فى بنيته عما يتصوره “نقيضه”، هذا الذى يمتح بدوره من مخزون سلفى أصابه العطن.
إن استعراضا سريعا لفكر النهضة من خلال منظومة علاقة المثقف بالسلطة كان يمكن أن تعلم المثقف المعاصر درسا لا ينسي، أن الدولة الحديثة فى مصر كما هى فى العالمين العربى والإسلامى مع تفاوتات لا يعتد بها فى هذا العرض السريع تحتاج دائما للمثقف للقيام بدور تأصيل الأساس الإيديولوجى لنظامها السياسي، خاصة حين يكون عليها أن تستوعب مفهوم “الحداثة” وتتزبيا بأزياء “العصرية”.
قام مشروع “التنوير” العربى تاريخيا على محاولات وجهود مفكرى الطبقة الوسطى فى سعيها لإقامة مشروع الدولة القومية “الحديثة” لتحل محل “الولاية” التابعة للإمبراطورية العثمانية، والتى كانت قد دخلت بدورها مرحلة الشيخوخة التى لا شفاء منها، مرحلة “رجل أوروبا المريض” والذى قررت أوروبا التخلص منه واقسام أملاكه منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر. فى نفس القرن تقريبا كانت مصر الولاية العثمانية تدخل فترة من أهم فترات تطورها الاقتصادى والاجتماعي، وهى فترة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل. تمثل المرحلة الأولى بداية إرهاصات النمو التجارى الرأسمالي: “وذلك بفضل الانتعاش التجارى الذى شهدته مدينة القاهرة فى بداية القرن الثامن عشر”، وقبل الحملة الفرنسية (1798 1801) التى ينسب إليها عادة الفضل كل الفضل فى انتقال المجتمع المصرى من “العصور الوسطي” إلى عصر “النهضة”. لكن منتصف القرن الثامن عشر شهد تزايد الاهتمام الفرنسى بمصر بوصفها مصدرا للحبوب الذى كانت فرنسا فى حاجة ماسة إليه لتغذية مارسيليا من جهة، وبوصفها سوقا لمنتجاتها ومصنوعاتها عن جهة أخري، الأمر الذى كان له تأثير مباشر تمثل فى تجميد الانتعاش التجارى المشار إليه، وأدى من ثم إلى نمو طبقة جديدة من غير المصريين يتزايد تركيز نشاطها فى مجال التصدير.
أما المرحلة الثانية فتتمثل فى دولة محمد على التى تعد بشكل أساسى استمرار للاتجاهات التى بدأت فى القرن الثامن عشر، ولا تمثل قطيعة مع ما قبلها. تزايد نمو القطاع الرأسمالى ولكن تحت تأثير متزايد لسيطرة الأقليات التجارية البحر متوسطية، والتى استطاعت من خلال علاقتها الوثيقة بالعائلة الملكية التحكم فى الدولة. فى هذه المرحلة شهدت مصر نوعا من الاستقرار والاستقلال النسبى نتيجة للتنافس التجارى فى السوق العالمي، وللسياسة البريطانية فى عشرينات القرن وثلاثينياته. ولكن حين بدأت قوة محمد على المتنامية تهدد الإمبراطورية العثمانية التى كانت بريطانيا تعتبرها مانعا حاجزا ضد التوسع الروسى قامت إنجلترا بالقضاء عليه. وهكذا أدت اتفاقية لندن 1940 1941 إلى القضاء على نظام الاحتكار الذى كان عليه التطور الاقتصادى المصري.
هكذا فى المرحلة الثالثة أصبح فى حكم المحتم أن تعتمد التنمية المصرية على نظام زراعة المحصول الواحد الذى تتحكم فى تحديده طبقة من ملاك الأراضى تعتمد على الوجود البريطاني.
كان التعبير الثقافى عن خط التطور المشار إليه نوعا من الإحياء يمكن أن يكون “كلاسيكية جديدة”، ففى المرحلة الأولى مرحلة الانتعاش التجارى فى القرن الثامن عشر تم التركيز على إحياء “علم الحديث النبوي” مصحوبا بالتقنين بطرق شتى وعلى درجة عالية من الأهمية لأنشطة القطاع التجاري. فى المرحلة الثانية سيطرة الدولة فى عصر محمد على حدث فتور فى دراسة الحديث النبوى لحساب تزايد الاهتمام بعلم “الكلام” من أجل تبرير سياسة الإصلاح التى تبناها محمد علي. وأخيرا كانت العودة إلى التركيز على دراسة “علم الحديث” مرة أخرى تعبيرا عن إفلاس إصلاحية محمد على البيروقراطية.
كان المشروع السياسى للدولة المصرية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، والمعبر أساسا عن الطموح الشخصى لمحمد على (1815 1840)، هو محاولة إعادة إنتاج “الإمبراطورية العثمانية” فى صيغة عصرية حداثية. من هنا استعار محمد على المفردات الإصلاحية لمشروعه من مفردات مشروع الإصلاح التركى إنشاء جيش عصر حديث مسلح بأسلحة عصرية، إرسال البعثات إلى أوروبا لتحصيل العلوم العسكرية والاستعانة بالخبراء الأجانب للإشراف على إنشاء المؤسسات الجديدة، وتطوير الدواوين القديمة بما يتلاءم مع متطلبات المشروع الطموح. وكان من الطبيعى أن تكون “فرنسا” هى القبلة الأساسية بحكم ما تركته من أثر خلال حملة “نابليون إيجابى فى بعض جوانبه وسلبى فى بعضها الآخر فى وعى النخبة من علماء الأزهر، وذلك للتقليل من شأن أى معارضة يمكن أن تثار فى وجه طموحاته من قبلهم. لقد كان هؤلاء العلماء هم الذين نصبوا محمد على حاكما على مصر وبايعوه مشترطين عليه “العدل بين الرعية” و”إقامة الأحكام والشرائع” و”مشاورة العلماء فى كل الأمور” والا قاموا بعزله، وكان هذا العهد مصدر قلق لمحمد على لم يتخلص منه إلا بالتخلص من هؤلاء العلماء المناوئين باستخدام سلاحى العصا والجزرة.
كانت المؤسسات الجديدة المعبرة عن المشروع الإمبراطورى لمحمد على هى “المطبعة، الصحف إنشاء جريدة الوقائع المصرية “والمدارس العسكرية التقنية كالطب والتمريض والمهندسخانة. وتمثلث الإيديولوجيا التى ساندت المشروع وسقطت مع سقوطه فى إحياء “علم الكلام” ذى الصبغة العقلانية التقليدية المحافظة الماتريدية بصفة خاصة ليحل محل علم “الحديث النبوي” فى موقع الصدارة والفعالية، لأنه كان مطلوبا من الإيديولوجيا الجديدة أن تؤدى وظيفة مزدوجة مركبة لايقدر “الحديث النبوي” على الوفاء بها، مهما كانت أدوات التفسير والتأويل عميقة وناجعة. كان الدور المطلوب تبرير مشروع التحديث وتسويغه من منظور دينى عقلانى نسبيا من جهة، والتصدى من جهة أخرى لسحب البساط من تحت أقدام المشروع “الوهابي” فى شبه الجزيرة العربية، والذى كان يمثل تهديدا مباشرا لمشروع محمد على الإمبراطوري. وكان لكل مرحلة من المراحل المذكورة كذلك نسق خاص من المؤسسات الثقافة. كانت المؤسسات هى المطبعة والصحف ومكاتب الترجمة، فى حين صارت المدارس الحكومية النظامية هى مؤسسات المرحلة الزراعية. كان المثقف الذى صاغ تلك الإيديولوجيا الإحيائية هو الشيخ “حسن العطار”(ت 1835) أستاذ رفاعة الطهطاوى الذى درس فى الأزهر وتركيا ودمشق قبل أن يعود إلى مصر وبصبح شيخا للأزهر منذ عام 1830 حتى وفاته. فى هذا السياق يبدو عصر النهضة امتدادا للكلاسيكية الجديدة فى القرن الثامن عشر، فليس الطهطاوى (1801 1873) إلا امتدادا تركيبيا فذا من أستاذة الشيخ حسن العطار ومن تجربة الرحلة إلى باريس.
لم يتجاوز خطاب الطهطاوى وعلى مبارك هذا الإطار التبريرى التسويغي، مع فارق لا يمكن تجاهله هو أن التبرير فى حالة الطهطاوى خاصة أنه كان يسعى إلى “استيعاب” حداثة أوروبا، الحداثة التى استوعبها فى رحلة باريس فى منظومة المعارف والعلوم الإسلامية بالقدر الذى كان متاحا له معرفيا كذلك. هكذا يستوعب علم “أصول الفقه” مفاهيم مثل “النواميس الفطرية” أو “الحقوق الطبيعية”، فتتحول المفاهيم المؤسسة للمجتمع المدنى إلى مفاهيم دينية “الاستحسان والاستقباح”، وبالمثل يتم استيعاب منظومة “الحقوق والأحكام المدنية” فى “الفقه” التقليدي. أما مبادئ “الحرية” و “المساواة” فليست إلا “العدل والإحسان”. لا نسعى هنا إلى التقليل من شأن إنجاز الطهطاوى ولا من شأن إنجازات سابقيه أو لاحقيه، بقدر ما نسعىإلى تلمس الجذور المعرفية التاريخية للخلل الذى كان محايثا لمشروع النهضة وأدى فى النهاية إلى العودة مجددا بالانقلاب ضد الحداثة بطريقة التقدم إلى الخلف إلى التساؤل عن معنى النهضة.
رغم انهيار مشروع الحلم الإمبراطورى لمحمد على باتفاق لندن 1840 إبقاء على “رجل أوروبا المريض” فى غرفة الإنعاش حتى يتم الاتفاق على قواعد توزيع التركة لم ينكمش مشروع النهضة، ففى الوقت الذى بدأت فيه الجيوش فى التراجع كان حجم النخبة المصرية يتنامى، ولم يعد قاصرا على العلماء أو محصورا فى دائرة الأزهر. انضم إلى قطاع النخبة الخبراء العسكريون وضباط الجيش المصريون، ثم تبعهم من تلقوا تعليمهم فى فرنسا خاصة بعد التوسع فى نظام البعثات ليضم أفرادا من خارج الجيش يدرسون العلوم المدينة مثل علوم الإدارة والقانون والاقتصاد. ويكفى لإثبات هذه الحقيقة استعراض أسماء الذين ساهموا فى “الثورة” العرابية وإنشاء أول حزب سياسى مصرى على أساس، هو الحزب الوطنى (أحمد عرابى محمد عبده محمود سامى البارودى عبد الله النديم محمد عبيد على فهمي). لقد كانت الثورة العرابية التى بدأت بالمطالبة بمساواة المصريين بغيرهم فى الترقى إلى المناصب العليا فى الجيش تعبيرا سياسيا عن بداية استواء كيان الطبقة الوسطى المصرية. وتنامت المؤسسات الحديثة وتزايد عندها فأنشئت “مدرسة الألسن” ومطبعة “بولاق”، كما تزايد عدد الصحف اليومية (تم تأسيس الأهرام عام 1875) والمجلات الأسبوعية والشهرية (أنشئت “دار الهلال” عام 1892). ولم يوقف الاحتلال البريطانى لمصر (1882) هذا المد إلا لبعض الوقت، فلم تلبث الحركة الوطنية المصرية أن نهضت ضد الاحتلال وواصلت كفاحها، فكانت ثورة 1919 بكل تجلياتها وتعبيراتها السياسية والاقتصادية والفكرية الثقافية تمثل مرحلة الاكتمال التى تجسدت فى الاستقلال السياسى بصدور تصريح 28 فبراير 1922 وصدور دستور 1923، أول دستور مدنى يدشن مجتمعا جديدا يقوم على الديمقراطية والعقد الاجتماعى والمساواة بين المواطنين لا الرعايا فى الحقوق والواجبات. وفى مرحلة الاكتمال تلك تعددت المؤسسات الثقافية لتضم المسرح والسينما بل والأوبرا والجامعة إلى جانب الأحزاب والنقابات والجمعيات والنوادى الثقافية والرياضية.
لقد تطور مشروع النهضة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر تطورا شهد البذور الأولى لملامح انقسامه إلى مشروعين: يعتمد أحدهما المرجعية الحداثية القائمة على الفصل التام بين الدينى والدنيوي، بينما يعتمد الآخر والذى يعد الإمام “محمد عبده” بدون منازع المرجعية الإسلامية فى اتجاهاتها العقلية الفلسفية والفقهية التى تتقبل منجزات الحداثة الأوروبية دون تعارض أو صدام. لم يكن هذا التطور وليد الاحتلال البريطانى لمصر فقط، وإن كان الاحتلال قد ساهم فى بلورته، بقدر ما يمثل الصدام العسكرى بين العالم الإسلامى والغرب منذ الحروب الصليبية أى منذ القرن العاشر حضانته الأولي. ويمكن القول إن السيطرة سياسيا وفكريا استقرت لصالح مشروع المرجعية الإسلامية بصفة عامة، ثم انقسمت هذه المرجعية بين مرجعية التراث العقلانى المتفتح على التراثات الأخري، وبين مرجعية التراث “السلفي” الذى ساد الفضاء السياسى والاجتماعى للعالم الإسلامى منذ نهاية القرن الخامس الهجري، الثانى عشر الميلادي.
لسنا فى حاجة لتتبع حالات الاحتقان الناشئة عن هذا الانقسام، فيكفى أن نعلم أن “قاسم أمين” و”طه حسين” و “على عبدالرازق” ينتميان إلى عقلانية “محمد عبده”، فى حين ينتمى “محمد رشيد رضا” و “حسن البنا” إلى الجانب السلفى فى خطابه، وهو الجانب الذى تبناه رشيد رضا فى منازلته لأطروحات على عبدالرازق. فى جيل لاحق يمكن أن نصنف “أمين الخولي” أو “محمد أحمد خلف الله “ فى جانب و “أحمد أمين” و”شوقى ضيف” فى جانب آخر، والكل ينتمى إلى “طه حسين”. كان التعبير المؤسسى عن الانقسام المشار إليه هو حرص “على مبارك” على إنشاء “مدرسة دار العلوم” للجمع بين دراسة التراث ودراسة العلوم العصرية، وهو الأمر الذى كان يجد مقاومة شديدة فى المؤسسة العتيقة، مؤسسة “الأزهر”. وتلا ذلك إنشاء “مدرسة القضاء الشرعي” للجمع بين دراسة “الفقه” ودراسة أنظمة القانون والمحاكم العصرية، وهى المدرسة التى سعى “محمد