جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

الفن والعلم والعقد

جمال فهمي

الخميس، 03 أكتوبر 2019 - 10:20 م

الإبدع الفنى بمختلف أنواعه وأجناسه، لم تقتصر وظيفته على إنتاج آيات رائعات من الجمال التى امتعت البشر على مر العصور وأمدت الأرواح والوجدان بكثير من الزاد الراقى الذى هذب النفوس الإنسانية، لكن هذا الإبداع نفسه كان، ومازال، مصدرا ومنبعا لا ينضب للباحثين والعلماء، من حيث هو يطلق طاقة خيال هائلة وواسعة لا يحدها حدود ولا تضمها شطآن، ومن ثم يفتح الإبداع الفنى أبوابا أمام عيون النابهين ويحفز عقولهم على السير فى دروب لم يمر فيها أحد من قبل.
أظن أن هذه الحقيقة أقوى وأوضح من أى محاولة لإثباتها، يكفى فقط ان نشير إلى أن العدد الكبير من الاكتشافات العلمية والاختراعات الثورية التى كان لها اثر السحر فى حيواتنا،بدأت فى خيال فنانين أفرغوها فى إبداعاتهم، ثم التقطها العلماء وجعلوا منها حقائق مادية.
هذا عن الابداع الفنى عموما،لكن الإبداع الأدبى بالذات، بما يميز صناعه من قدرة لا محدودة على سبر أغوار النفس الإنسانية ولمس مناطق ضعفها وقوتها على السواء،كان هذا الفن مصدرا مهما من مصادر التعرف على عقد واختلالات نفسية عديدة وخطيرة ومن ثم رأينا وعرفنا بنظريات علمية باتت مشهورة الآن باسماء شخصيات عاشت واشتهرت فى أعمال أدبية، مثل عقدة “أوديب” وعقدة “أليكترا”.. إلخ.
وبعد ..فإنني أعتبر نفسى محظوظا، فأنا من جيل لحق بالكاد باب المعرفة والثقافة الرفيعة قبل لحظات قليلة من إغلاقه بالضبة والمفتاح، فالعبد لله مثلا تيسر له مبكرا قراءة أعمال مسرحية عدة كتبها مبدعون عمالقة مستلهمين الأسطورة اليونانية ذائعة السيط التى تحكى مأساة الثلاثى، الملك «أجاممنون»قائد الحملة الظافرة على طروادة، وابنته «أننى تابعت بعد ذلك قراءة نصوص أخرى مقتبسة عن الأسطورة عينها أهمها ثلاثية «الأوريستية»ـ نسبة لأوريست ابن الملك ـ التى أبدعها كاتب اليونان القديمة الأعظم «أسخيلوس»فى ثلاثة أجزاء كل جزء منها حمل اسم واحدة من شخصيات الأسطورة آنفة الذكر.
لكنى مدين بفهم الجوهر العميق لهذه الحكاية المأساوية ومعناها الإنسانى، ومن ثم الوعى بالفروق بين معالجاتها الدرامية المتعددة والمختلفة لمقدمة ضافية وافية كتبها الناقد الكبير الراحل درينى خشبة فى مستهل ترجمة مسرحية «إليكترا»للمسرحى الفرنسى الفذ «جان جيرودو”، التى صدرت عن سلسلة «روائع المسرح العالمي»التى أمتعت وثقفت جيلا كاملا بإبداعات خالدة منها تحفة أبو المسرح الأمريكى المعاصر «يوجين أونيل»وحملت اسم»أليكترا»التى عاشت أغلب سنوات عمرها تتجرع مع شعب مدينة «آرجوس»مرارة حزن مضاعف ومأساة متعددة الأبعاد، إذ بينما الشعب يكابد قسوة حياة الذل والقهر تحت حكم الطاغية «ايجست»الذى جلس على سدة الحكم بعد مقتل والدها «أجاممنون»، فهى تطوى ضلوعها على سر رهيب لأنها الوحيدة التى تعرف أن أباها الملك راح ضحية مؤامرة دنيئة نسجتها أمها «كليمنسترا»ونفذتها بيد عشيقها «ايجست»نفسه، بيد أن شقيقها الغائب «أوريست»يعود ذات يوم لينتقم لنفسه وأبيه ولشعب المدينة، ليس فقط من الطاغية المجرم الذى قتل والده، ولكن أيضا من أمه التى خانت الأب والوطن.. لقد قتل كليهما وترك أخته تتعذب وتتمزق بين متناقضات رهيبة، فهى تتعاطف، بل تواطأت وحرضت أخاها، لكنها الآن تكابد أيضا شعورا موجعا بالندم لأن هذا الأخير سقط فى مستنقع الكراهية والانتقام لأبيها الذى كانت تعشقه وتكاد تتماهى فيه.
تلك هى «عقدة أليكترا»التى صاغ نظريتها عالم النفس العبقرى «سيجموند فرويد»!!

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة