جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

رحلة مع جثة

جمال فهمي

الخميس، 24 أكتوبر 2019 - 07:55 م

طبعا نعرف جميعا تلك النكتة التى بلغت من الشهرة حد أن الأجيال تتناقلها، إذ تحكى عن رجل يهودى بخيل جدا مات ابنه، لكنه لم يشأ أن يترك هذه المناسبة القاسية الحزينة من دون الفوز بأية فائدة، لهذا نشر نعيا صاغه على النحو التالي: الخواجة كوهين ينعى ولده الحبيب ويصلح جميع أنواع الساعات!!
هذه الطرفة (دعك من الإيحاء الطائفى البغيض الراقد فيها) تستطيع بمنتهى راحة الضمير أن تضع مكان الخواجة بطلها، أبطالا آخرين من الناس العاديين وكذلك السادة السياسيين الكبار منهم والصغار، ففى أزمات ومواقف كثيرة لا يمكنك أن تعرف ما إذا كان الأخ السياسي يقول كلاما أو يعلن موقفا معينا مدفوعا بمصلحة عامة، أم أن الأمر عنده مجرد «دعاية فارغة» والسلام.
وأعود لأمثولة السيد كوهين وما فعله بمناسبة موت ابنه.. فالموت على فجائعيته لا يخفى حقيقة نوازع الناس، هكذا حكى الروائى الأمريكى حامل نوبل «وليم فوكنر» (1897 ـ 1962)فى قصة شهيرة له تحمل عنوان «as I lay dying»، ولكنه ترجم إلى العربية عندما جرت ترجمته إلى اللغة العربية «بينما أنا أحتضر».
هذه الرواية ربما يكون «معمارها السردى» صعبا على القراء، ويزيدها صعوبة عمقها الفكرى والفلسفى، ومع ذلك سأتجاسر وأختصرها لكى أبرز معنى أن الموت أحيانا يفضح الأحياء، وأن بعض هؤلاء الذين ما زالوا يسعون بيننا فى الحياة، ينقادون خلف ميت بدافع من مصالحهم ورغباتهم هم.
الحكاية التى تقوم عليها رواية «فوكنر» ربما تبدو للوهلة الأولى بسيطة تماما، أم فقيرة جدا من سكان ريف الجنوب الأمريكى، وبينما هى على فراش الموت تبلغ أسرتها المكونة من زوج وخمسة أبناء، وصيتها أن يتم دفن جسمانها فى عاصمة المقاطعة التى يعيشون فى إحدى قراها البائسة البعيدة، وإذ تموت الأم بالفعل فإن الرواية كلها تمضى بعد ذلك فى عرض المعاناة والصعوبات الهائلة التى تتجشمها تلك الأسرة المعدمة، على مدى عشرة أيام أمضوها فى طريق وَعر وبإمكانات شبه معدومة إلى أن وصلوا فى النهاية إلى حيث المدفن الذى سيسجى فيه جثمان السيدة.
ونحن نعبر فصول الرواية نعرف رويدا رويدا، أن حماس أفراد الأسرة للسير فى هذه الرحلة الجنائزية المضنية ليست كلها، الوفاء للأم الميتة، وإنما كل واحد منهم كان عنده إلى جانب «الوصية»، هدفه الخاص الذى أشعل حماسه وجعله يتمسك بإتمام مهمة صعبة تفوهت بها سيدة ترقد على فراش الموت.
يعنى على سبيل المثال، سنعرف أن سر إصرار زوج السيدة الميتة للذهاب بجثتها إلى المدينة البعيدة، هو رغبته فى العثور على امرأة أخرى تحل محل الزوجة الميتة لأنه، رغم حزنه الصادق، مؤمن بأن «الحى أبقى من الميت».
أما أحد الأبناء الذى يلعب فى الرواية دور الحكيم والناطق بالحقيقة، فهو يمشى فى الجنازة الطويلة مترنما بأشعار وهرطقات تلامس حدود الهلاوس تفضح غايته الأصلية من المشاركة فى الرحلة، أنها «كشف الزيف والنفاق» الذى يغلف حياة أسرته والناس عموما، غير أن حالته العقلية تتفاقم جدا فى الطريق فلا يصل مع باقى العائلة إلى المحطة الأخيرة حيث القبر، ولكنه يستقر فى مستشفى للأمراض العقلية.
وأخيرا، فإن البنت الوحيدة فى الأسرة، ما اهتمت وتحمست للسفر مع جثمان أمها إلى المدينة البعيدة، إلا لكى تذهب إلى طبيب لإجراء عملية إجهاض بعدما حملت سفاحا من شخص أغواها قبل أسابيع قليلة من موت أمها!!

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة