إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد


مصر الجديدة :

الذكورية القذرة

بوابة أخبار اليوم

السبت، 09 نوفمبر 2019 - 08:13 م

وضعتنى ظروف حياتى وسط الأحياء الشعبية أكثر منها وسط الأحياء الراقية. سأحكى عنها فى الخمسينيات أعوام طفولتى أو الستينيات أيام صباى وشبابى الأول. لم يكن ما فيها جديدا بل موروثا عن ذى قبل. لن أتحدث عن جمال الشوارع والحدائق فلقد كتبت عنه لكن سأتحدث عن العلاقات الإنسانية. لم يكن يسهر فى الشوارع غير العائدين إلى بيوتهم من حفلات السينما والجالسين تقريبا فى صمت فى المقاهى يستمعون إلى أم كلثوم إذا كان لها حفل أو فى الأيام العادية حيث تحرص الإذاعات المختلفة وخاصة صوت العرب على إذاعة إحدى أغانيها وخاصة «سهران لوحدى «. وطبعا الأغنية كان يمكن أن تمتد إلى ساعة وكان مع صوت أم كلثوم صمت أكبر فى المكان. كانت إذا مرت فتاة أو امرأة وحدها فى وقت متأخر بعد الساعة العاشرة ينهض بعض الجالسين يمشون معها حتى بيتها وأحيانا تستقبلهم أسرتها بالترحاب. لن أقول إنه لم تكن هناك معاكسات. كانت المعاكسات نهارا لكن ليلا لابد من مساعدة الماشية وحدها على الوصول إلى بيتها خشية اللصوص أو الأوغاد على قلتهم. كان الوقت بعد الساعة العاشرة يعد متأخرا لأن القانون يحتم غلق المحلات باستثناء المقاهى والصيدليات والمستشفيات وكان الإرسال التليفزيونى ينتهى فى الثانية عشرة تقريبا. المعاكسات كانت نهارا ولم تكن تزيد على كلمات غالبا مقتطفات من أغانٍ مثل كفاية نورك عليّ أو الورد جميل جميل الورد أو يا حلو يا اسمر وما إلى ذلك. كان هذا هو التحرش. أما أن يمد أحد يده على جسم فتاة أو امرأة فكان شيئا نادرا ولا يمكن أن يكون علنا بين الناس. أكتب هذا بمناسبة الفتيات اللاتى يتم التحرش بهن جهارا وحين تنتفض لأخذ حقها يحول الرجال بينها وبين حقها ويقومون بتهريب المتحرش. حدث هذا يوم الجمعة أول أمس وقبله بيوم قتل متحرش شابا صغيرا فى الصعيد أراد أن يمنعه من التحرش بفتاة وقبله بأسابيع قليلة قتل واحد فى المنوفية شابا أيضا أراد ان يمنعه من التحرش بفتاة. ألم يكن هناك حب ؟ كان موجودا. لكن كانت النوافذ والخطابات هى طريقه واللقاءات أيضا فى أماكن عامة مثل الكورنيش للبحر أو للنيل ومثل شارع الجبلاية فى الزمالك زمان ومثل الحدائق. كانت أماكن للقاءات والحب وليست للتحرش. فلا تحرش بين المحبين. الذى كان يمضى بين هذه الأماكن كان يرى الأحباء لكنه لا ينظر إليهم ويمشى فى طريقه. لم يكن مشهد فتاة بالمايوه البكينى فى البحر يثير احدا بل كانت الدهشة ممن تنزل المياه بجلبابها كاملا. مجرد دهشة لكن لا يتحرش بها أحد كما لا يتحرش أحد بالتى ترتدى المايوه البكينى. فى الإسكندرية التى عشت طفولتى وشبابى بها كنت أرى أحيانا الفتيات يخرجن من الشواطئ بالمايوهات يعبرن الكورنيش إلى أحد المحلات يشترين شيئا ويعدن ولا يلتفت أحد من الواقفين فى المحل إلى المايوه ولا صاحبته. فى الجامعة كان الميكروجيب آخر الستينات قد ظهر وهو طبعا أقصر من الجوب وكان جالسا ببنش المدرج حولى زميلات كلهن يرتدين الميكروجيب ولا أنظر إلى سيقانهن. لا أنا ولا غيرى ونخرج رحلات معا نلهو ونرقص ونلعب ولا ينفرد أحد بواحدة إلا بينهما قصة حب أو بداية لقصة حب. ما الذى جعل التحرش سُنّة فى حياتنا الآن. إنها الهجمة البشعة على المرأة باعتبارها شيطانا يجب ألا يخرج من البيت وطبعا زيادة النسل إلى درجة جعلت الزواج أمرا صعبا وكذلك غياب القانون خشية الفضيحة. لا أعرف ما هو معنى الفضيحة فى حالة هجوم شخص قذر على امرأة او فتاة. الفضيحة يجب أن تكون له هو وليس لها. وأهم من ذلك كله انحدار التعليم وانشغال الأبوين بالبحث عن مصادر رزق تكفى أطفالهم فغابت الجلسات الأسرية الحميمة وغابت حتى العلاقات بين الجيران فى البيت الواحد. التحرش يا سادة لم يعد استثناء فى حياتنا لكنه للأسف صار القاعدة تغذيه ذكورية كاذبة قذرة يمارسها الذكر على الأنثى باعتبارها مشاعا له وحقا. أجل. يعتبرها هؤلاء الجهلاء كذلك، فيدافعون عن المتحرش لا عن ضحيته.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة