جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

«خريف البطريرك»

جمال فهمي

الخميس، 28 نوفمبر 2019 - 07:55 م

للروائى الكولومبى الأسطورى جابرييل جارسيا ماركيز رواية تدعى «خريف البطريرك» التى يعتبرها الكثيرون إسهاما متفردا ومدهشا لأديب أمريكا اللاتينية الأشهر فى مسيرة التناول الإبداعى الأدبى لظاهرة الحكومات الديكتاتوريه، تلك المسيرة الطويلة التى انخرط فيها أدباء ومبدعون ينتمون لثقافات وأوطان وأمم شتى، من أوروبيين وأفارقة وأسيويين وعرب ومن أمريكا اللاتينية بالذات.. جميعهم اتخذوا من الديكتاتور الظالم الفاسد المدجج والمسلح دائما وأبدا بالعنف والقسوة اللامتناهيين فضلا عن ضيق الأفق والعمى المعرفى والأخلاقى موضوعا للإبداع القصصى والروائى لا يخلو من إغراءات الثراء الدرامى بسبب تعدد وتعقد أبعاد ظاهرة الحكم الديكتاتورى إنسانيا ومجتمعيا وذاتيا (ذات الديكتاتور وطبيعة تكوينه النفسى النادر).
وأعود إلى «خريف البطريرك» فالديكتاتور فى هذه الرواية يكاد يجمع كل سمات وملامح أى ديكتاتور يعرفه الناس مهما كانت أوطانهم بحيث يستطيع كل واحد منهم أن يجد بسهولة فى هذا «البطريرك» ـ وهو الاسم الوحيد الذى نعرفه به طول الرواية ـ «ديكتاتوره» لأن ماركيز رسمه ونحت معالم شخصيته وسلوكياته على نحو يجعله نموذجا شبه متكامل لأولئك الحكام القساة الظالمين الفاسدين، ليس فقط من تصويره عينة من جرائمهم وفجورهم ورصد وتتبع انعكاساتها وثمارها وهى ترتد لتصيب الديكتاتور نفسه، وإنما أيضا من نقل وتصوير أجواء الوحدة وبرودة العزلة الشديدة التى يعانيها هذا الأخير بينما هو يشيخ ويهرم ويزوى ويتعفن مهجورا فى قصره ووسط هيلمان سلطانه وسلطاته التى تتضخم حتى تستقر فى قلب أوهام الألوهية والخلود الأبدى.
ورغم بعض الصعوبة التى قد يعانى منها قارئ «خريف البطريرك» والتى تعود أساسا إلى تقنية بنائها المعقد وتعدد مصادر ومستويات الحكى فيها على نحو يجبر القارئ أن يقوم بنفسه بعملية إعادة ترتيب أحداثها بطريقة متسلسلة، فإن الرواية لا تتأخر فى امتاعك وتأخذك فورا إلى العالم الغرائبى الذى تدور فيه حكاية طاغية ترعرع وعاش فى بلد ما من بلدان منطقة الكاريبى فى «أمريكا الوسطى» وتحديدا فى المراحل الأخيرة من عهد نظام حكم يسمى «النيابة الملكية» عن أسرة «جودوس»، وفى هذه المرحلة التى استمرت أحد عشر عاما يتناوب على الحكم 14 حاكما يمارس كل منهم السلطة المطلقة نيابة عن ملوك تلك الأسرة الذين لا يظهرون أبدا، وإذ يرفض آخر هؤلاء الحكام شروط ومطالب بريطانيا صاحبة النفوذ الأقوى فى البلاد، فإن ذلك الموقف يمكنه من تنصيب نفسه حاكما للبلاد، رغم أنه رجل أمى وفقير من أية موهبة سوى القسوة والنزوع الجامح للمغامرة.
وفيما البطريرك يحكم عددا هائلا من العقود والسنين (لا تحددها الرواية) متوسلا بكل صور وأنواع الجرائم من الفساد والسرقة واسترضاء الأجانب على حساب مصالح وثروات البلاد وانتهاء باستسهال القتل الوحشى لأتفه الأسباب ناشرا أجواء خوف ورعب مروعين جعلت منه أسطورة تخلع قلوب رجاله ووزرائه وكل المحيطين به قبل مواطنيه ورعيته، وفيما تبلغ سطوة البطريرك حد الاعتقاد الخرافى باستحالة غيابه، فإن نهايته الحتمية تأتى فعلا لكن لا أحد فى الرواية يعرف متى أتت بالضبط وإن عرف لا يستطيع الاعتراف بها ولا حتى لنفسه.. بل إن ماركيز يترك القراء فى حيرة بين رقمين كل منهما تقول القصة أنه عدد السنين التى عاشها الديكتاتور فى هذه الدنيا، فأحيانا الرقم هو 108 سنوات وأحيانا أخرى 232 سنة!!
مخرج واحد فقط من هذه الحيرة يدفعك جارسيا ماركيز إليه دفعا فى الفصول الأخيرة من الرواية خلاصته أن «البطريرك» ظل أكثر من مئة عام ميتا فى قصره لكن أحدا لم يجرؤ أن يصارح نفسه بهذه الحقيقة!!

 

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة