إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


بالشمع الأحمر

أساطير مؤقتة !

إيهاب الحضري

الأربعاء، 25 ديسمبر 2019 - 08:03 م

هل هى صدفة أم تعاطف يقترب من حافة التواطؤ؟ الصدفة تقتضى أن تمضى الأمور بلا ترتيب، أما التواطؤ فيعتمد بالأساس على الاتفاق المُسبق، ويكفى أن يشعر أحدهم بالحماس لقصة كفاح شخص ما، كى يتفق مع صاحبها على تصويره، وتحويله إلى بطل لبعض الوقت، بفعل تعليقات حماسية تدعمها حُمّى التفاعل، ليصبح «البطل» حديث الساعة، وتكفل له بطولته المؤقتة مزايا معنوية ومادية لا بأس بها. هنا قد يتخلص التواطؤ من سمعته السيئة، لأنه يتحول إلى وسيلة لفعل الخير، لكن نتائجه ليست خيرا مُطلقا.
تشير بعض الإحصائيات إلى أن بمصر نحو ١٫٦ مليون طفل عامل، لكن واحدا فقط من بينهم أصبح محورا للأحداث قبل أسابيع. وهكذا حل «بائع الجوارب» ضيفا على شاشات الفضائيات، عبر صالات «ترانزيت» مواقع التواصل الاجتماعى. كعادتنا أشدنا بالطفل علىّ صبرة، الذى يعمل كى يساعد والدته المُنفصلة، وبدلا من أن نستغل الحالة كمنصة انطلاق لمواجهة ظاهرة خطيرة، تعاملنا معها كحالة فردية وفق المعتاد.
بالتأكيد لا ألوم الطفل سعيد الحظ، لأنه ليس المسئول عن تطورات الأحداث، لكنى أعتب على من اكتفوا بالتفاعل الحماسى، دون أن يُفكروا فى أصل المشكلة، التى تشمل كثيرين غيره. ووسط الحماس الزائد حاول بعض المذيعين التميز عبر التركيز على نقاط تمنحهم خصوصية، فى مجال يعتمد على أسلوب «النقل الجماعى» لا الابتكار. اعترف الطفل بأنه لا يعرف القراءة والكتابة، وألقى بالمسئولية على معلمة اشترطت أن يأخذ لديها مجموعات تقوية، والتقط أحد المذيعين الخيط ليطالب بالبحث عن هذه المُدرّسة وعقابها. وعند سؤاله عن مهنته المستقبلية تمنّى الطفل أن يُصبح عالم آثار. اجتذبت هذه الجزئية مذيعا آخر، سأله عن أسباب حبه للآثار. جاءت الإجابة بسيطة تتناسب مع عُمْر علىّ وخبرته، لكن رده لا يُناسب سمات البطل، لهذا كرر المذيع سؤاله لعلّه يظفر برد أكثر تألقا، هنا قال: «بحب قوم عاد وحاجات زمان والحضارة والأهرامات»، عبر الحوار كرّر الطفل ذكر «قوم عاد»، وعندما سأله المذيع: «قافش ليه فى قوم عاد»، رد بعبارات متقطعة: «علشان حاجة من مصر، وغريبة مش أى حد عاملها». لم تستوقف هذه الجزئية المذيع رغم خطورتها، وربما رأى أنها تفصيلة تافهة وسط هذا الجو الاحتفائى، مع أن التعليق هنا «فرض عين»، حتى لا تصبح العبارة العابرة جزءا من قناعة المشاهدين، خاصة أن بعض من يحاولون التشكيك فى عبقرية المصريين القدماء، ينسبون حضارتهم إلى قوم عاد، وبهذا يصبح مُنتجنا الحضارىّ من عمل الكفّار! لكن المذيع تجاوز هذه التفاصيل الفرعية، وسأل الطفل عن الدكتور زاهى حواس، ولم يجد وسيلة لتقريب الصورة سوى عبارة: «عمو اللى بيلبس برنيطة» فعلّق الطفل مؤكدا أنه يعرفه، وأضاف: «اللى بينزل يلف ويغنى.. باين»! بعدها بأيام كان الدكتور حواس يستقبل علىّ فى منطقة الأهرامات، وقام بضمه إلى مركز المصريات الذى يحمل اسمه بمكتبة الإسكندرية، وأهداه عددا من كتبه، وأتمنى أن يكون اللقاء قد صحّح للطفل مفاهيمه، باستبعاد قوم عاد من دائرة رعاة حضارتنا.
بعد أن عاد علىّ إلى دائرة الظل، أؤكد أننى لا أعترض بالتأكيد على الاحتفاء بنماذج تصارع بشرف من أجل بقائها، لكنى أتحفّظ على صناعة أساطير مؤقتة، والتعامل مع مشكلة عميقة بشكل سطحى، عبر إهمال جذورها. لأن التركيز على حالة فردية والتعامل معها لأيام باعتبارها إنجازا وحيدا، يُمكن أن يُشيع الإحباط بين آلاف من الأطفال يمرون بالأزمة ذاتها، وقد يرى بعضهم أنهم يبذلون جهدا أكبر، لكن حظهم العاثر منعهم من المرور صدفة أمام كاميرا عابرة!!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة