جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

التوحد فى نار الخطر

جمال فهمي

الخميس، 19 مارس 2020 - 05:55 م

المفكر والأديب حامل «نوبل» ألبير كامو الذى مازالت سيرته ومواقفه تثيران للآن، التباسات عديدة، فهو على تمرده الذى ميز حياته القصيرة، وإعلانه الدائم انحيازه للمقهورين والضعفاء، لم يكن موقفه واضحا ولا مشرفا من الجريمة الاستعمارية الطويلة والقاسية التى ارتكبها الفرنسيون أبناء جلدته فى الجزائر.
على كل حال، فإن حالتنا الرهنة كبشر فى ظل خطر كورونا ذكرتنى بأجواء رواية «الطاعون» التى كتبها هذا الأديب المثير للحيرة، عن وقائع غزو هذا الوباء القاتل لمدينة وهران الجزائرية (ولد «كامو» وعاش قسما كبيرا من حياته القصيرة غير بعيد عنها).
تعرض صفحات الرواية بإتقان كيف أضحى خطر الموت الجماعى سببا لنوع من الوحدة القسرية ربطت بين السكان، بمن فيهم المستوطنون الفرنسيون، وكيف انسحبت مؤقتا تناقضاتهم وصراعاتهم إلى الظل من دون أن تلغيها بدليل أن ألبير كامو نفسه لم ينس أنه فرنسى يستوطن بلدا ليس بلده، ومن ثم ظل وهو يحكى عن الوباء يشير إلى السكان الأصليين على أنهم «عربا»فحسب، فالعربى فى الرواية يمرض ويموت لكنه لا يحمل أى اسم كما سائر خلق الله!!
أعود إلى الحكاية، حيث تتناقل الصحف المحلية خبر ظهور أعداد هائلة من الفئران تسرح فى الأزقة والشوارع، وإذ تبدو الإشارة واضحة إلى أن الوباء يداهم المدينة، فإن السلطات تتمسك لفترة طويلة بالإنكار ويكون تدخلها فى أول الأمر، بدعوة المواطنين إلى اصطياد الفئران وجمعها وتسليمها لكى يتم حرقها، غير أن هذه العملية تفضى إلى نتيجة عكسية تماما فهى تؤدى إلى زيادة انتشار الوباء بسرعة أكبر.
وبينما ماتزال السلطات تأبى الاعتراف الصريح فإن طبيبا فرنسيا يدعى «ريو» يعيش فى المدينة حياة ناعمة معزولا فى الترف بعيدا عما يكابده السكان الأصليون (العرب)، يكتشف ذات يوم أن بواب عمارته الفخمة يسقط ميتا فجأة بعد معاناة قصيرة من أعراض تشبه الحمة، ويستشير الطبيب زميله «كاستل»ويتوصلا معا إلى أن البواب مات بالطاعون وأن الوباء صار حقيقة قائمة تستعصى على الإنكار.
يجتمع الطبيبان مع زملاء آخرين فى المدينة ومع كبار المسؤولين الحكوميين فيها، لكن هذه الاجتماعات لا تفضى إلى شئ لأن أكثر هؤلاء يصرون على أن ضحية الوباء مجرد شخص واحد فقط، بيد أن الحقيقة تداهم الجميع عندما يبدأ سقوط القتلى بكثافة ملحوظة ويتفاقم الوضع يوما بعد يوم، بل ساعة بعد أخرى ما يجبر السلطات أخيرا على الاعتراف بالأمر الواقع، ومن ثم تفرض على المدينة حصارا صارما وتمنع الدخول والخروج منها تماما.. عند هذا الحد تتحول الرواية إلى تصوير تفاصيل هذا «التوحد الاضطراري»فى مواجهة الخطر، كاشفة عن صراع من نوع مختلف عما كان قائما قبل غزو الوباء، فكل فريق من الأفرقاء يحاول القيام بما يراه مناسبا للتعامل مع الوضع، ولكن على نحو قريب جدا من السوريالية وبعيد بمسافة واضحة عن المنطق.
إذن يبدل الطاعون معالم العلاقات فى المدينة ومعالم الأشخاص المحشورين فيها وتتكشف تحت وطأته حقائق الذهنيات والطباع المختلفة للناس، فهذا رجل مشغول بكيفية الهروب والذهاب إلى زوجته فى باريس غير عابئ بأنه سوف يحمل المرض معه.. وذاك قسيس يحاول أن يستغل الوباء لكى يقنع الناس بأن الطاعون ليس إلا تعبير عن غضب الله على مخلوقاته البشرية.. كما لم يخل المشهد فى المدينة من مجرم يراكم الثروة مستغلا رعب الناس.. ومع ذلك ثمة لحظات يتخلى فيها الجميع عن مصالحهم وصغائرهم ويتآلفون ويتعاضدون لكى يساعدوا بعضهم بعضا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة