د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى


فى الفكر والسياسة

تصدع النموذج الأمريكى

محمد السعدني

الخميس، 12 نوفمبر 2020 - 07:31 م

تقاس قوة الدولة عالمياً بمدى تأثيرها على غيرها من الدول، فالدولة العظمى هى من تقدم قدراً من الإبهار والتفوق يفوق قدرات الآخرين بما يجعلهم يدورون فى فلكها أو يكونوا حلفاء لها أو حتى تابعين لسياساتها، ذلك بما تقدمه من نموذج متفرد يضمن لها الصدارة والتأثير على مجريات الأمور فى الساحة العالمية. ولطالما أعطت الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ الحرب العالمية الثانية هذا النموذج الذى جعل منها القوة العظمى الأولى بما تملكته من نواة صلبة فى قدراتها العسكرية الفائقة التى وصفت بـ «بالقوة المفرطة» وتقدمها العلمى والصناعى والتكنولوجى، وقدراتها الاقتصادية التى شكلت أكثر من 30% من إنتاج العالم، وشركاتها الضخمة المتعدية للجنسيات بما يمكنها من التحكم فى حركة التجارة العالمية، وسيطرتها على مؤسسات البنوك والنقد العالمية، وكذا منظمات وهيئات الأمم المتحدة، ثم قواها الناعمة التى تعطى للنموذج القدرة على التأثير والمناورة بقوة الجذب والإقناع، وحشد العالم خلفها والاستجابة لسياساتها.
ولئن كانت القوة الصلبة الأمريكية قادرة بذاتها على إجبار الآخرين للانصياع لسياساتها، فإن قواها الناعمة التى هى البديل الأخلاقى لقوة الردع والسيطرة العسكرية، كانت دائماً هى سلاحها الأقوى الذى يتمثل فى قدراتها الإعلامية على حشد الرأى العام العالمى فى الاتجاه الذى تريده، ومنظومة القيم الديمقراطية التى تتبناها، ورصيدها الثقافى العابر للقارات، وقدرتها على إنتاج المعرفة إنسانيا وعلمياً ومعلوماتياً، ونشاطها الدبلوماسى الواسع والمتراكم، وجاذبية المؤسسات والسياسات المتبعة فى الداخل الأمريكى قبل الخارج العالمى. أو هكذا أسس جوزف ناي، أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة هارفرد لمفاهيم القوة الناعمة.
ولقد برعت الولايات المتحدة الأمريكية فى توظيف قواها الناعمة لتشكيل النموذج الأمريكى الذى احتفى دائماً بالحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان ورفاهيته، وأسس للتوازن بين صلاحيات الإدارة الأمريكية والرئيس وبين سلطات الشعب وصناعة القرار فى مؤسسات الكونجرس، فلا يستطيع الرئيس أن يعين وزيراً أو مسئولا كبيراً فى الدولة أو قاضياً فى المحكمة العليا، إلا بموافقة لجان الكونجرس المختلفة، ولا تستطيع الإدارة الأمريكية شن الحرب أو تقديم مساعدات للدول أو إجراء اتفاقات دولية دون موافقة نواب الشعب فى الكونجرس، كذا الحرية المطلقة للصحافة والإعلام، ومفاهيم المواطنة الحقيقية والتنوع العرقى والديموجرافى وسيادة القانون، وقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة، التى لا تجعل للرئيس قداسة أو حقوقاً فوق ما يتمتع به أى مواطن أمريكى آخر.
هذا النموذج الجاذب والملهم يتعرض الآن لمحاولة التشكيك فيه وإفقاده مصداقيته وبريقه بما يفعله دونالد ترامب بادعائه تزوير الانتخابات الرئاسية والإساءة للديمقراطية الأمريكية، إعلاء لمصالحه الخاصة ورغباته الشخصية. هذا الرجل غريب الأطوار لا يتمتع بأى قدر أخلاقى أو وطنى ولا يتورع عن هدم المعبد على رؤوس الجميع لأنه خسر الانتخابات. وهذا ليس جديداً عليه، فقد مارس كل الصغائر والأكاذيب والشطحات، وحاول تجاوز الدستور والقانون منذ دخل البيت الأبيض فى 2016، مما أضر بصورة أمريكا ومؤسساتها وقزم قدرها فى الساحة الدولية، ما مكن روسيا والصين من تحدى أمريكا وإحراجها دولياً، وجرأ دولاً عدة عليها مثل فنزويلا وكوريا الشمالية وتركيا وفرنسا وماليزيا ودول البريكس ومجموعة شنغهاى، وقسم المجتمع الأمريكى بخطاب العنصرية وقدم نموذجاً مغايرا يقوم على التفرقة العنصرية والتهرب الضريبى وابتزاز الدول البترولية، وقدم خطاباً هزلياً يسخر من كل القيم الأمريكية ويحط من قدر الدولة وينال من التنوع الأمريكى واستعدى دولاً أفريقية وإسلامية وأساء إليها، ونال من معظم مساعديه وأركان إدارته ومن كل المؤسسات. واليوم يقوم بعرقلة انتقال السلطة واحداث فراغ مؤسسى والتأسيس لحرب أهلية وتصفية حسابات بإقالة وزير الدفاع بتغريدة على تويتر، كما يقوم بابتزاز الحزب الجمهورى رغم علمه بتهاوى دعاواه القانونية التى ليس لها مردود إلا أن تضيف إلى تصدع النموذج الأمريكى عبئاً كانت فى غنى عنه لولا الشعبويين الذين انتخبوه.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة