جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

«دكتور زيفاجو» والغباوة

جمال فهمي

الخميس، 19 نوفمبر 2020 - 07:19 م

كلنا يعرف، بالسمع غالبا، الفيلم الشهير جدا الذى يحمل اسم «دكتور زيفاجو» الذى حققه المخرج الأمريكى ديفيد لين ولعب بطولته الراحل عمر الشريف، وكثُر منا يعرفون أن هذا الفيلم مأخوذ عن رواية رائعة لكاتب روسى كبير هو بوريس باسترناك، لكن الأغلبية الساحقة ممن سمعوا عن الفيلم أو شاهدوه، لم يقرأوا الرواية واكتفوا فقط بما روجته أجهزة الدعاية الغربية عن فكرتها ومضمونها خلال سنوات الحرب الباردة، وكلاهما، أى فكرة ومضمون الرواية بعيدتان جدا عما جاء به الفيلم، إذ جرى الترويج للحكاية والفيلم على نحو مغلوط ضمن حرب التشهير واسعة النطاق التى تعرض لها الاتحاد السوفيتى السابق، وقد سقطت الرواية وصاحبها ضحية هذه الحرب.. فلا باسترناك كان معاديا للثورة الروسية التى رفعت شعار الاشتراكية (كما أوحى الفيلم ودعايته المكثفة) ولا الرواية معادية للثورة كما بدا فى الفيلم، وإنما الحقيقة التى غابت عمدا أن الكاتب حكى فى روايته آيات من موقفه النقدى تجاه ما حدث بعدما استولى صناع الثورة البلشفية على الحكم، إذ انزلق الوضع فى روسيا وباقى أقاليم الاتحاد السوفيتى إلى نوع من الحكم السلطوى القاسى جدا، وديكتاتورية تتسلح بقمع شامل وواسع النطاق مخلوط بضيق أفق شديد لامس حدود الغباء فى أحيان ووقائع كثيرة، منها ما حدث مع قامة أدبية كبيرة بحجم بوريس باسترناك.
إذن باسترناك كان فى الواقع ضحية لظلم مزدوج، فهو من جانب عانى كما مئات المفكرين والمبدعين الكبار أمثاله، لضغوط هائلة وحصار شديد من السلطات الحاكمة فى وطنه، رغم أنه كان مؤيدا بحماس للمبادئ والشعارات الإنسانية الراقية التى تفجرت الثورة تحت ألويتها، غير أنه بمرور الوقت وظهور العيوب الجسيمة وأوجه الانحراف الخطيرة لحكم البلاشفة، خصوصا فترة جوزيف ستالين، لم يستطع كتم مشاعر الإحباط وخيبة الأمل التى عانى منها هو وأمثاله من أصحاب الضمير الحي.
أما الجهة الأخرى التى هبت منها عليه رياح ظلم لا تقل عتيا عن ظلم بنى جلدته فقد أتت من جهة الغرب الذى حاولت أبواقه استغلال روايته (التى يكاد بطلها يجسد شخصية باسترناك نفسه) وتحويلها سلاح فى الحرب الدعائية ضد موسكو آنذاك.. ثم جرى تسويق صورة الكاتب كمنشق على نظام بلده، استنادا إلى الغباوة وضيق الأفق الشديد الذى تعاملت بها سلطات الاتحاد السوفيتى مع رواية «دكتور زيفاجو» عندما منعتها من النشر وتركت للخصوم استغلالها ونشرها فى إيطاليا بعد سنين طويلة من الحجب، وفى العام التالى لصدور الرواية (1957) قامت لجنة جائزة نوبل للأدب بمنح جائزتها ذائعة الصيت للكاتب، فى واحدة من أكثر وقائع الانحياز السياسى للجنة المذكورة سفورا وفجاجة، لكن باسترناك رفضها (أو أجبر على رفضها) قبل أن تقوم هوليوود بتحويل الرواية لفيلم شوهها واسكن صاحبها تماما فى قلب الصورة الشائعة عنه للآن كمعادٍ للاتحاد السوفيتى وموالٍ للغرب.
هل يعنى كل هذا أن باسترناك لم يكن يستحق جائزة نوبل أصلا ؟
رهط كبير من نقاد العالم أجابوا على هذا السؤال بالنفى القطعى، وقالوا إن الإنتاج الابداعى لهذا الأديب يضعه على قائمة كبار أدباء القرن العشرين، ومن ثم هو يستحق الجائزة عن جدارة، غير أن السياق الذى أتته فيه، ظلمه ظلما بينا.
الخلاصة.. أن الغباء وضيق الأفق الذى يميز النظم السلطوية والقمعية، يضر كثيرا ويلحق أشد الأذى بالكثيرين ومن ضمنهم النظام نفسه.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة