الأطفال المشردون فى أحضان «أمهات مسنات»
الأطفال المشردون فى أحضان «أمهات مسنات»


"آخرساعة" عايشت التجربة داخل مجمع فاقدى الرعاية

الأطفال المشردون فى أحضان «أمهات مسنات»

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 18 مارس 2021 - 02:49 م

كتب: علا نافع              تصوير: چان نجاح

فى أحد شوارع حى الصيادين فى مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، يقف مبنى مجمع الأطفال والكبار فاقدى الرعاية بطوابقه الثلاثة فى شموخ، فهو المكان الذى شهد أولى تجارب تطبيق الدمج بين أمهات مسنات وأطفال مشردين تحت رعاية وزارة التضامن الاجتماعى وصندوق تحيا مصر.. "آخرساعة" زارت المجمع ورصدت نجاح التجربة الناشئة، وهناك قضت يوما بين الأطفال والمسنين ولمسنا مدى الحب والألفة بينهم.

أكثر من 46 طفلاً و176 مسناً يعيشون معاً فى حب وسلام، يشدون من أزر بعضهم البعض، يداوون جراحهم ويعينون أنفسهم على نسيان ما عانوه من قسوة الحياة وشرورها.. تتلاحم أياديهم الغضة واليابسة فى تناغم.. أطفال حُرِمُوا أمهاتهم بعد أن فرقتهم السبل، إما لانفصال الأبوين أو بسبب الموت، وعجائز تخلى عنهم أبناؤهم وذووهم، يعيشون كأنهم أسرة واحدة رغم الفارق العمرى، يتبادلون الضحكات ويتناولون طعامهم على طاولة واحدة.

لا يشعر الأطفال بفقدان حنان الأم، فبدلاً من وجود أمٍ واحدة، رزقهم الله بـ44 أماً، يتحلقون حولهن كى يسمعون حكاياتهن التى لا تنضب ويستشعرون دفء الأجواء الأسرية، يخافون من عقابهن عند إتيان أفعال خاطئة، يرتمون فى أحضانهن عند الفزع أو اليأس، وينتابهم الحزن عند انتهاء اليوم واقتراب موعد مغادرة الحجرات، على أمل لقاء جديد يجمعهم فى حديقة المجمّع الواسعة.

أما المسنات فأغلبهن يعانى أمراضاً نفسية مزمنة خلفتها إقامتهن فى الشارع لسنوات طوال، كن يقمن فى "دار بسمة لرعاية المشردين"، ولكن بمجرد دخول تجربة الدمج حيز التطبيق تحسنت صحتهن النفسية ونشطت قواهن العقلية، ينادين الصغار بأسماء أبنائهن الذين تركوهن فريسة للوحوش الآدمية، فكما يقول المثل الشعبى "قلبى على ولدى انفطر وقلب ولدى على حجر"، لا يكفون عن الدعاء للأطفال، ويحتفظون بالهدايا والفاكهة اللذيذة لهم، بل يحيكون من خيوط التريكو معاطف ثقيلة تحميهم من برد الشتاء، فمن حرم من نعيم الأم والأب فدار الرعاية تكفل له ذلك.

الابن الحنون

داخل الحديقة الواسعة المحيطة بالمجمع يجلس الأطفال من أعمار مختلفة مع مشرفى الدار والأخصائيين الاجتماعيين يلتقطون أطراف الحديث ويسردون تفاصيل يومهم، ومنهم من يمارس هواياته المحببة كالتلوين والرسم، ينتظرون على أحر من الجمر نزول المسنات من حجراتهن إلى الحديقة، يستعد الصغار لاستقبال أمهاتهم وآبائهم، كما اعتادوا يوميا، بارتداء الملابس النظيفة وتقليم الأظافر، ويحضر الكبار الألعاب المحببة لهؤلاء الأطفال ليتشاركوا اللعب معا، وبمجرد نزول المسنين يسارع الأطفال باحتضانهم وتقبيل أياديهم ومعاونتهم على المشى أو دفع كراسيهم المتحركة، وفى مشهد إنسانى رائع يجلسون جميعاً متلاصقين فى حالة من الدفء، ولا تفارق الابتسامة وجوههم.

عمّار، طفل لم يتخطَ العاشرة من عمره، حباه الله بوجه بشوش وقلب من ذهب، لا يتوقف عن مساعدة مسنى الدار واحتضانهم بين الحين والآخر، يلبى أوامر الأخصائيين بحب، ويعمل على تدعيم أقرانه، هو واحد من ضحايا التفكك الأسرى فبعد انفصال والديه وزواج الأب تعرض لتعذيب واضطهاد من الزوجة الجديدة، فغادر المنزل إلى بيت والدته بمدينة "بلبيس" لكنها طردته فلم يجد إلا الشارع مأوى له، وظل به أكثر من شهرين حتى عثرت عليه حملة "أطفال بلا مأوى"، ومنذ انضمامه للدار نجح فى عقد صداقات مع معظم النزلاء.

يُعرض عن ذكر والدته أو مجرد الإشارة إليها فى حديثه، يردد دوماً أنه يعلم مكان سكنها لكنه لن يغادر الدار قط ولا يفكر فى زيارتها، يرتبط بعلاقة من نوع خاص مع عم محمد أحد نزلاء الدار، فهذا الرجل القعيد يعلمه صنع المراكب الخشبية وتلك المصنوعة من الصفيح، يقضيان سويا أوقاتا طويلة بين جنبات الدار وفى المطعم، ويحرص عمّار على دفع الكرسى المتحرك لعم محمد بهدوء وتؤدة.

يقول عمّار: بعد مجيئى للدار شعرت بالأمان وعرفت معنى وجود الأسرة من الأم والأب، فمعظم النزيلات يعاملننى بحب وود ولا يتوقفن عن احتضانى وتشجيعى لمواصلة رحلة تعليمى، فقد التحقت بالفصول التعليمية التى أسستها الدار وأنوى التخرج من إحدى الكليات المرموقة، مشيراً إلى قيام الدار بتنظيم ورش لتعلم اللحام والكهرباء.

وعن كيفية قضائه ليومه يقول: أقضى أغلب اليوم بالحديقة مع كبار السن حتى أشعر بالأمان ويشاركوننى ألعابى المفضلة مثل التلوين ورص المكعبات كما أحرص على البقاء بجوار الأخصائيات الاجتماعيات لاستشارتهن فى بعض الأمور فأنا أشعر باحتواء الأم معهن خاصة عند تعرضى للمشكلات.

ماما سلمى

وأثناء حديثنا مع عمّار، فإذا به يترك الحديث ويسارع لاستقبال الحاجة سلمى أو ماما سلمى، كما ينادونها الأطفال، عجوز ناهزت السبعين عاما ذات جسد ضئيل لكن وجهها يشع بهجة وحيوية، رغم صعوبة فهم حديثها إلا أن عمار وأصدقائه يفهمونه بسهولة، يجلس عمار عند قدميها يستمع لها ويطمئن على صحتها، يحتضن يديها اليابسة ليستمد منها قوة وأمانا، أما هى فلا تكف عن مسح رأسه وتمتمة الدعوات له.

يقبل عليها الأطفال كى تداعبهم قائلين لها: "أوحشتنا يا ماما.. قصى علينا إحدى قصصك البديعة"، لتطلق سلمى العنان لأفقها متذكرة حواديت أمها التى كانت تحكيها لها حتى قبل رحيلها، فسلمى هى الابنة الوحيدة لأسرتها ولم يشأ لها القدر أن تتزوج وعاشت مع أقاربها بعد وفاة والديها ولكن بعد وصولها لمرحلة الشيخوخة قرر أقاربها إيداعها بالدار منذ أكثر من عام، وخلال تلك الفترة لم يزرها سوى مرة أو مرتين.

تقول سلمى: عوضنى الله بأبناء من كافة المراحل العمرية يهتمون بى ويقدمون لى الدعم النفسى كما يعينونى على مواصلة الحياة الشاقة، فابتسامتهم وأحضانهم يثبتون لى دوما أن الدنيا مازالت بخير، أنتظر طلوع النهار حتى أجتمع بهم وأنعم برؤياهم مؤكدة أن الحرمان من الأهل كان القاسم المشترك بينهما.

كروان الدار

وعلى مقربة من "ماما سلمى"، جلس العم سيد يدندن بكلمات أغنية "جميل جمال" لملك العود فريد الأطرش، يتحلق حوله بعض أطفال الدار يصفقون له ويحثونه على مواصلة الغناء، فهو يمتلك صوتا حنونا وقدرة على حفظ الأغانى رغم مرضه النفسى الصعب، فبعد طرد أبنائه له من منزله أصيب بصدمة نفسية كبرى جعلته غير قادر على التكيف مع محيطه الاجتماعى ولكن بعد تواجد أطفال الدار معه تغيرت حالته النفسية وبات مهيئا للاندماج الاجتماعى.

وعن فكرة الاندماج، يقول عبدالله الشحات، المشرف العام على الدار: تعد التجربة من التجارب الرائدة التى أثبتت نجاحها بعد تطبيقها فى الشرقية فالطفل بات يشعر بأنه يمتلك أسرة مثله مثل الأسوياء كذلك المسن المشرد، مشيراً لوجود اختبارات نفسية يتم بها قياس حالة المسن ومدى قدرته على التفاعل مع الأطفال، ويتم ذلك من قبل أطباء الدار النفسيين، أما الأطفال فأغلبهم كان مشرداً بالشارع إما لهروبه من المنزل نتيجة لتعرضه لحالات تعنيف أو طرد أحد الوالدين له وتتراوح أعمارهم مابين 8 و12 عاما ويبلغ عددهم 44 طفلاً، أما المسنون فيزيد عددهم عن 100 مشرد.

ويؤكد أن الدمج ساعد الكثير من المشردين الذين يعانون من أمراض نفسية صعبة على التعافى وتلقى العلاج بنفس راضية، وباتوا ينتظرون شروق الشمس حتى يلتقوا بأولادهم الصغار خاصة وأنهم يمارسون معهم كافة الأنشطة المحببة مثل لعب كرة القدم والطاولة وحتى رص المكعبات متمنيا تعميم التجربة بكافة المحافظات.

أما إنجى محمد، الأخصائية الاجتماعية فتقول: منذ اليوم الأول لدخول الأطفال والمسنين الدار، وهم فى حالة بحث روحى عن بعضهم البعض، فكلاهما يحتاج الآخر، ما أسهم فى نجاح التجربة، فكل مسنة بداخلها أمومة مدفونة تريد ممارستها وكذلك الأطفال رغم أن أغلبهم عانى قسوة الأمهات الحقيقيات، فإنه يحلم طوال الوقت بحضن ولمسة حانية، مشيرة لوجود العديد من الأطفال الذين ارتبطوا ببعض المسنات ارتباطا وثيقا ولا يفارقوهن إلا وقت النوم.

التضامن الاجتماعى

من جانبه، يقول حازم الملاح، المسئول الإعلامى لبرنامج حماية الأطفال والكبار بوزارة التضامن: بعد نجاح البرنامج القومى لإعادة تأهيل الأطفال بلا مأوى ظهرت الحاجة الملحة لسد الاحتياجات النفسية للطفل والتى تتمثل فى إيجاد جو أسرى يملؤه الحنان ووجود أم وأب يشاركونه كافة تفاصيل حياته، وبمطالعة الدراسات التى أجريت فى بعض الدول وأثبتت نجاحها فى دمج الأطفال والكبار مع الأسوياء بمفهوم الأب أو الجد والابن أو الحفيد، طبقنا التجربة بدار الرعاية فى الشرقية.


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة