رجائى عطية
رجائى عطية


مدارات

التواضع بين الصدق والافتعال وادعاء جلبه للاحتقار

رجائي عطية

الجمعة، 06 أغسطس 2021 - 06:03 م

  عرفنا عن الأستاذ عباس محمود قوله: «التواضع نفاق مرذول، إذا أردت أن تخفى به ما لا يخفى من حسناتك توسلاً لجلب الثناء » .
 ولا غرابة فى هذه المأثورة العقادية، فلن يصدق أحد أن يدعى أينشتين عدم العلم تواضعًا، أو يبدى السنهورى قلة علمه بالقانون تواضعًا، أو يزعم بيليه من باب التواضع أن حاله على قده فى كرة القدم . هذا الإبداء يراه العقاد، ونراه معه، نفاق لن ولا يصدقه أحد، ولا تبدو له غاية سوى التفتيش عن المديح وجلب الثناء بأن يقال «يا الله، شاهدوا تواضع هذا العالم أو هذا اللاعب». فلا يخفى عن السامع ضلوع أينشتين فى العلوم، والسنهورى فى القانون، وبيليه فى كرة القدم، وافتعال التواضع فى ذلك غير مستحب، لأن الميزة فى المتمعن معروفة لا تخفى على السامعين، ومن ثم لا تكون القالة المتواضعة إلا وسيلة لاستنطاق السامع أو السامعين بعبارات الحمد والثناء على هذا التواضع، وما هو فى الحقيقة بتواضع، فالاصطناع فيه واضح.  بيد أن الأستاذ أنيس منصور وقد أراد أن يدخل هذا المضمار فى عموده اليومى « مواقف » بالأهرام، فإنه اعتاد إيراد بعض الحكم والأوابد والأمثال، فاختار بأهرام الجمعة 18/4/2008 مثلاً يدَّعى أن التواضع جالب للاحتقار، بقوله: «لا تتواضع.. وإلاَّ احتقرك الناس» !! 
 ظنى أن هذه القالة مغلوطة، وغير صحيحة، ناهيك بأن تدرج فى باب الحكم !! 
 هذا العبارة التى تسفه التواضع، تخلط بين الهوان والمذلة والخذلان وبين التواضع، ولا تستوعب أن التواضع من صفات وأخلاق القوة الحميدة .. التواضع هو تطامن القوى القادر الواثق وإلا ما كان تواضعًا .. أما هوان الهين، ومذلة الذليل، وخـذلان المتخـاذل، فلا يمكن أن يكون تواضعًا .. بل هو مرآة الواقع الهين الذليل المتخاذل .. وهذا الهوان المتضعضع، هو ما يمكن أن يحتقره الناس !.. الناس لا تحتقر القوى الذى يلين للضعيف، أو الغنى الذى يتواضع للفقير، أو الكبير الذى يتطامن للصغير.. أمثلة ذلك عديدة ترتد كل صورها إلى «التواضع» الذى تفيض شجرته عطاءً وارفًا فى كل اتجاه.. فى الرحمة والسماحة والتطامن والبذل والعطف والبر والمساواة والرأفة واللين والرفق والألفة والمودة والإنصاف وخفض الجناح .   والتواضع لأنه تطامن صادق من القوى، لا تقبل فيه مداهنة ولا نفاق ولا رياء.. الباحث عن الثناء بإظهار تواضع يخالف طبعه واقتناعه، لا يتواضع ولا يتطامن حقيقة.. إنما يظهره نفاقًا ورياءً طلبًا للسمعة وحسن القالة وبحثا عن ثناء قد يزيده فى الواقع تكبرًا وعجبًا وتخايلاً بنفسه! ولكن التواضع الحقيقى هو من أعظم المناقب، ومن المحال أن يؤدى إلى الاحتقار، بل هو يؤدى إلى التقدير والإكبار، وإلى الحمد والثناء.  لا تدخل العبارات باب الحكم والأوابد والأمثال، إلاّ إذا صادفت الواقع واعتصرت المعانى واستقطرت الحكمة! ظنى أن الفضيلة الحاكمة لكل الشمائل، هى سجية «الصدق» .. الصدق هو الشجرة الوارفة التى من فروعها وأعطافها يخرج الإخلاص، والأمانة، والوفاء، والتواضع.. ومن شجرة التواضع تخرج أفنان البر والعطف والرحمة والتطامن والبذل واللين والرفق وخفض الجناح !
 أليس الله تعالى يقول لنبى البر والرحمة : «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ؟! .. ويوصى جلت حكمته  الأبناء بالوالدين: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا » ؟!
 هل يمكن لخافض جناحه عن مقدرة ولين وتطامن أن يحتقره الناس؟! .. ظنى أن تلك العبارة التى تحذر من التواضع مخافة احتقار الناس؛ قد خانها التوفيق والسداد وفارقت الحكمة !
   ولعل أسوأ ما فيها أنها ربما دون أن تقصد تؤدى بمن يأخذون الأقوال على عواهنها إلى التكبر والعجب والخيلاء، والتعالى على الناس !! 
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة